أقرب إلى القلب: ( هذا الرجل الذي ولد في افريقيا وأحبّها، وحالف آسيا وحمل همّها، ومات في أوروبا ، يذكرنا بعشرات النبلاء أمثاله، الذين تساقطوا قبله في الغربة، وسيتساقطون بعده في الغربة، كي يردّوا الوطن إلينا من غربته. . !ّ لأجلهم جميعا أصلّي، وصوتيَ الريحُ وقلبي قصبةٌ مثقوبة. .) غادة السمّان في نعي الشريف حسين الهندي (1) التاسع من يناير عام 1982، رحل من مقامه المؤقت في أثينا، وجهٌ من أنبل الوجوه السودانية التي تركت بصماتها على الصفحة السياسية في سودان الستينات والسبعينات من القرن الماضي، فكانت حفراً عميقاً لا تمحوه رياح النسيان، ولا تتخطاه الذاكرة .. الشريف حسين الهندي. .(1924-1982) هذا رجل خرج من بيت طائفي شامخ ، إذ الشريف الهندي هو ثالث ثلاثة من أهم أعيان البلاد. السيد عبدالرحمن المهدي .السيد علي الميرغني. السيد الشريف يوسف الهندي وهو أول من رحل منهم في عام 1942. ها هي الأعوام تطوي نفسها على ذكرى ابنه الشريف حسين الذي امتهن السياسة بعيداً عن الطائفة، وقد رحل عام 1982 عن عمر لم يتجاوز الثامنة والخمسين. يتذكر جيلي أن الشريف حسين هو أشهر وزير مالية مرّ على البلاد. هو الذهن السياسي والاقتصادي المتقد، من بين قيادات الاتحادي الديمقراطي. يتذكر جيلي "مشروع محاربة العطالة"، وهو بند الإدارة العمومية الذي عرفناه ب"بند الهندي"، مثلما يتذكر جيلنا دور الراحل في أشهر قمة عربية في تاريخ الشرق الأوسط القريب، هي قمة اللاءات الثلاثة في الخرطوم، التي جمعت قيادات العرب في أعقاب هزيمة يونيو 1967 من طرف إسرائيل. . عن دبلوماسية الرجل، أحدثكم في ذكراه الثالثة والثلاثين.. (2) كان الجرح العربي ينزف كبريائه بلا توقف بعد 5 يونيو 1967. سخر الإعلام الغربي من عبد الناصر ومن شعب السودان الذي يحتفي بعد الهزيمة بأسابيع، بزعيم مهزوم. غير أن الخرطوم حققت نصراً دبلوماسياً، رفع المعنويات العربية إلى آفاق لم تخطر على بال، بانعقاد القمة العربية فيها. رحلات الشريف حسين المكوكية بين القاهرةوجدةوالخرطوم وفي ساعات حاسمة، هي التي حققت أهم منجزات تلك القمة، وهي استخدام سلاح البترول في وجه الغرب الذي ناصر إسرائيل. " لا صلح ، لا تفاوض، لا اعتراف" بإسرائيل، كانت هي المسلمات المقدسة التي توافق عليها قادة البلدان العربية، التقدمي منهم والرجعي، بمقاييس سنوات الحرب الباردة . الانفعالي المتحمّس في غير شططٍ مثل رئيس الجزائر بومدين، والدبلوماسي الهاديء هدوء الاستسلام، مثل التونسي بورقيبة وممثله "المنجي سليم". يذكر الشريف حسين في مذكراته بعنوان "لوطني وللتاريخ" ( الخرطوم ، 2006) في تراجع اعتذاري منه عن وصفٍ قاسٍ ولاذع أطلقه الشريف على التونسي "المنجي سليم" ، فسمّاه "المُهلك سقيم". في ساعات الفوران تلك ، لم يكن موقف الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة مقبولاً، وإن بدا بعد ذلك بسنوات موقفا عقلانياً واقعيا، مقارناً بما أقدم عليه الرئيس المصري السادات في تحطيم أولى لاءات الخرطوم، في ابتداره التفاوض مع إسرائيل. كانت مهمة الشريف حسين في الإعداد لقمة الخرطوم من أصعب المهام، وتتصل بإدارة حوار غير مباشر بين العاهل سعودي هو الملك الراحل فيصل والزعيم العربي الكبير جمال عبدالناصر، ونعلم أن كل واحد منهما أعطى ظهره للآخر، وبينهما ما صنع الحداد في حرب اليمن التي استعرت لسنوات. حضور الزعيمين إلى الخرطوم هو ضمان نجاح المؤتمر.. بذل الشريف الهندي وقد كان وزيرا للمالية، ومحمد أحمد المحجوب وزير الخارجية، جهداً خارقاً لمعالجة ملف حرب اليمن، وجرت لقاءات عديدة في جدةوالقاهرة وبيروت وصنعاء لاحتواء الأزمة، والتي اقتضت آخر الأمر، انسحاب القوات المصرية من اليمن.. ( 3) الذي هدّ كتف الأمة العربية، وربما كان واحداً من أسباب انكشاف ضعفها وتشتت كياناتها، هو ملف حرب اليمن، التي تقاتلت فيها قوات عربية مع نفسها، وزادت معها هوة الاختلاف بين السعودية ومصر. لكأن الصراع كان بين رأسين يتناطحان على قيادة وطن عربي منقسم على نفسه. كان ذلك ملفاً حساساً للغاية. ليس بين الدول العربية من يملك كفاءة تعينه ليقول للطرفين أن كفا عن هذا النزف وذلك التصارع المجاني، الذي لا يخدم إلا أجندات ومصالح تخصّ آخرين، فيما حرب الأيام الستة هزيمة مهينة من خجلنا أسميناها "نكسة يونيو1967". حين جمع المحجوب ومعه الشريف حسين بين زعيمين، هما الملك فيصل والرئيس عبدالناصر، في داره ذلك المساء الخرطومي الحار، لم يسخر القدر من جهد صادق ومسعى جاد، لتجاوز إحدى محن العرب القاتلة. أدمعتْ عيون حادبة وخفقت قلوب واجفة، خوف أن لا يسفر الجهد عن نتائج ولا يحقق المسعى مراميه. انتهى المساء وقد تحققت المعجزة.. وتصالح التاريخ العربي مع نفسه. . ( 4) إن كان للشريف حسين- القادم من الحزب الاتحادي الديمقراطي- دوره الرئيس في المساندة المادية التي تنتظرها الدول العربية المهزومة، فإن لوزير خارجية السودان السيد محمد أحمد محجوب- القادم من حزب الأمة- دوره الشامخ في ترسيخ الدعم السياسي والمعنوي، لزعماء أمة أثقلها ذل الهزيمة المروّعة. . ما كان مُمكناً أن يلتقي الزعماء العرب إلا في الخرطوم. الخرطوم هي محور الوسط بين مشرق عربي ومغرب عربي افريقي، وهي الأقرب إلى مصر. . الخرطوم برغم فقر اقتصادها، لكنها كانت تمور بحراكٍ سياسي لا تقيّده أشراط، وتتنفس فيها الحريات كلها: في التعبير. لا لسان يقطع فيها ولا رأس يبتر، وفي الآراء لا حجر ولا رقابة ولا كسر للأقلام. السودان هو قلب القارة الأفريقية الناهض بعد ثورة 21 أكتوبر 1964، وقد هبّت عليه نسائم الديمقراطية، بعد زوال حكم عسكري دام لسنوات ست. ولو جاز لنا أن نعتمد لغة اليوم ، لقلنا أنهُ البلد الأول الذي دشن مواسم "الربيع السياسي والاقتصادي" في الشرق الأوسط والقارة الأفريقية قاطبة. . (5) بين قوسين سودانيين كبيرين : الشريف من هنا والمحجوب من هناك، حققت الخرطوم بدبلوماسية صادقة لاءاتها التي دخلت التاريخ العربي، في قمة لم تسبقها قمة مثيلة، ولا جاءت بعدها أيضاً قمة حققتْ تلك اللحمة وذلك التضامن والسمو إلى آفاقٍ جمعتْ الأمة العربية، في تلاقٍ قويٍّ حول قضيتهم المركزية : قضية العدوان الإسرائيلي على الأمة العربية والأفريقية على حدٍّ سواء. . تلك القمة التي استضافتها الخرطوم عام 1967، كانت صحوة عربية أصيلة. . عن الضيافة والمقتضيات المراسمية التي تجاوزتها تلك القمة في الخرطوم، كتب الشريف حسين في مذكراته: (.. وسطعتْ الخرطوم- الجميلة ..البسيطة .. الأصيلة - فوق كل عاصمة- وسيطر شعبها على كل المواقع ، وامتلك أحاسيس الملوك والرؤساء والوفود ، بل وكل العالم. ولم يعد أحد ينظر إلى غرفته ، أو يفكر في وليمة، أو يتأمل في فندق، أو حتى يحسّ بأيّ قصور- إن كان هناك قصور. ولم تكن هناك أيّ إجراءات أمن. كان الشعب السوداني هو أمن الموقف، احتفى بكل الرؤساء، وكل الوفود وكل الأجانب، في ديمقراطية ومودة وإلفة نادرة ، وسيطرة على كل الشوارع: فأصبح هو المأوى والفندق والقصر والمضيف والأكل والشرب وعاش وعايش الجميع في مثل هذا المستوى ، حتى انتهت كل المؤتمرات..) (6) في ذكرى رحيل سياسي مثل الشريف حسين الهندي، تقف كلماتي عاجزة كسيحة بكماء، وقد آثرتُ أن أحدّث عن دبلوماسية رجلٍ شهدتْ له العواصم العربية بحضورٍ ساطع، وببسالةٍ مُقدرة في الدفاع عن الحقوق، وبذكاءٍ خارق في اجتراح الخيارات، في مواجهة التحديات المصيرية، لأمةٍ مثخنة الجراح. . بعد سنوات لمعانه ذاك، وقع انقلاب مايو عام 1969 فخرج الرجل معارضاً لم تنكسر له قناة. رجلٌ آثر الغربة على البقاء في وطنٍ منهوب . آثر الجهاد السياسي طريقاً لحياته، وانتماءاً صادقا لوطنه، ومعارضاً قوي الشكيمة. كان الوحيد الذي شكك في تودد نظام شمولي لتحقيق مصالحة اشتم فيها الراحل مكائد لاحتواء توجهات المعارضة وكسر شوكتها. أكملت غادة السمان مقالها الحزين عنهُ فكتبتْ: (ذلك الشهيد في فندق الغربة، مدّ يده من نافذة غرفته المُعتمة، ليفكّ جرحي قطعة بعد أخرى.. وهاأنذا أتذكرهم صديقاً بعد الآخر، أولئك الذين يموتون في فنادق الغربة قبل أن يشهدوا فجر تحرر أوطانهم.. أولئك الذين ضحوا بأموالهم وبيوتهم وأسرهم وسلامتهم الشخصية، ورفاق طفولتهم، ورضوا بالغربة وعاءً مُراً للنضال العذب..) رحل الشريف حسين شهيداً في غربته، وقد سكن حبه لوطنه عميقاً في وجدانه.. +++ [email protected] الخرطوم- 29 يناير 2015- نقلاً عن صحيفة "الرأي العام"