دولة إفريقية تصدر "أحدث عملة في العالم"    والي الخرطوم يدشن استئناف البنك الزراعي    الناطق الرسمي بإسم القوات المسلحة السودانية: نحن في الشدة بأس يتجلى!    السودان: بريطانيا شريكةٌ في المسؤولية عن الفظائع التي ترتكبها المليشيا الإرهابية وراعيتها    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    البطولة المختلطة للفئات السنية إعادة الحياة للملاعب الخضراء..الاتحاد أقدم على خطوة جريئة لإعادة النشاط للمواهب الواعدة    شاهد بالفيديو.. "معتوه" سوداني يتسبب في انقلاب ركشة (توك توك) في الشارع العام بطريقة غريبة    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تقدم فواصل من الرقص المثير مع الفنان عثمان بشة خلال حفل بالقاهرة    شاهد بالفيديو.. وسط رقصات الحاضرين وسخرية وغضب المتابعين.. نجم السوشيال ميديا رشدي الجلابي يغني داخل "كافيه" بالقاهرة وفتيات سودانيات يشعلن السجائر أثناء الحفل    شاهد بالصورة.. الفنانة مروة الدولية تعود لخطف الأضواء على السوشيال ميديا بلقطة رومانسية جديدة مع عريسها الضابط الشاب    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    موظفة في "أمازون" تعثر على قطة في أحد الطرود    "غريم حميدتي".. هل يؤثر انحياز زعيم المحاميد للجيش على مسار حرب السودان؟    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    معمل (استاك) يبدأ عمله بولاية الخرطوم بمستشفيات ام درمان    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    انتدابات الهلال لون رمادي    المريخ يواصل تدريباته وتجدد إصابة كردمان    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المعايير- قصة قصيرة
نشر في الراكوبة يوم 31 - 01 - 2015

كان الظلام دامساً ، والصمت مطبق ، لم يسمع إلا أنفاسه وهي تعلو ، (أين أنا؟) ، تساءل والرعب يأكل قلبه ، حاول أن يسترجع ذاكرة الماضي والأحداث التي مرت به قبل أن يستيقظ الآن ، إلا أنه لم يتذكر سوى صور مشوشة عن طفولته وبعض مؤلفاته وأبحاثه ، مد يده متحسساً جيبه عله يجد قداحة إلا أنه فوجئ بأن جسده عارٍ تماماً ، ظن بأنه داخل تابوت مغلق ، ولذا رفع رأسه ببطء خشية أن يصطدم بسقفه ، إلا أنه فوجي بأنه ليس في تابوت وإنما على أرض صلبة ، رفع جسده فأحس بعظامه تتحطم ومفاصله تتفكك ، فقاوم الألم ، ونهض وهو يصيح :(هل من أحد هنا؟ .. أين أنا؟) لم يكن يرَ فوق رأسه سماءً ، بل مجرد ظلام ، سديم أسود مخيف وكثيف ، سار وهو يترنح ، فقد أفقده الظلام وانعدام استبصار الأبعاد والفرق بين السماوات والأرض القدرة على الاتزان ، كان يتلمس الفراغ بيديه الممدودتين اللتين لا يراهما ، سار خطوات قليلة ، ثم توقف صائحا:( هل من أحد هنا ؟؟ أين أنا) واندهش لأن صوته لم يرجع صدى في هذا الفراغ الأسود العظيم . ثم تحرك بضع خطوات أخرى وكرر صياحه ، فلم يأته رد ، كان يخشى من أن تكون هناك هاوية تحت قدميه ، فجثى على ركبتيه وأخذ يسير حابيا بيديه وقدميه ، كانت الأرض تحت راحتيه صخرية وأحس بسخونتها وتعرجاتها ، حبا مسافة طويلة وأندهش لأنه لم يشعر بأي تعب أو جهد ، بل ولم يتعرق ، ورغم أنه لا يعرف إلى أين سيصل ، بل ولا إذا ما كان يدور في دائرة مفرغة أم خط مستقيم إلا أنه قرر الاستمرار في الحبو .ثم أنه ولفرط فرحته قفز منتصباً حينما سمع صوت رجل يقول:( هل من أحد هنا؟؟) حينها ابتسم وهو يصيح:(نعم أنا .. من أنت؟ وأين أنت ؟) جاءه الرد :(أنا دوكنز .. ريتشارد دوكنز وأنت؟ ) أجابه:( أنا نيتشة ..فريدريش فيلهيلم نيتشة ..اتبع صوتي وسأتبع صوتك لكي نلتقي ) .. خف نيتشة خطاه حتى سمع أنفاس دوكنز ، فقال الأخير :( إن اسمك مطابق لاسم نيتشة الفيلسوف الألماني الذي عاش في القرن التاسع عشر) فأجابه نيتشة:(أنا هو ؟ هل التقينا من قبل؟) أجابه دوكنز بخوف:(ولكن كيف ؟؟ لقد توفيت في بداية القرن العشرين؟) . لفهما الصمت قليلاً ثم قال نيتشة بتعجب:(ولكن هذا مستحيل .. إنني لازلت حياً) ، تحسس دوكنز الفراغ وقال:(حسناً .. يبدو أننا في العالم الآخر) ، صاح نيتشة:(أي عالم آخر.. لا توجد سوى الحياة بإرادتها .. هل تؤمن بهذه الخزعبلات؟) ، أجابه دوكنز:(أنت فعلاً نيتشة .. يا إلهي .. إذن فنحن في العالم الآخر بالفعل) ، صاح نيتشة:(هل تؤمن بالخرافة) ، إلا أن دوكنز صاح بدوره:(اللعنة.. عليك الآن أن تصدق أنها ليست خرافة ..فأنت قد توفيت منذ أكثر من مائة عام ، صدقني لقد ثبتت خرافة العود الأبدي التي تبنيتها) ، قال نيتشة:(هل تعني أننا توفينا واستيقظنا الآن من موتنا؟ هل تعني أننا الآن في العالم الآخر الذي وصفته الكتب الدينية ؟ ) أجابه دوكنز:(هذا ما أعنيه بالضبط .. ولكن ليس ثمة جحيم أو فردوس ، بل ظلام دامس ، ظلام قاتل). همس نيتشة:(انصت.. هناك صوت همهمة ..استمع) ، انصت الرجلان ، فإذا بصوت ضعيف يغمغم:(أين أنا ؟ .. هل أصبت بالعمى أم أنني داخل تابوت ؟) ، فصاح الرجلان:(من أنت؟) ، أجابهما بصوت ضعيف:(أنا آرثر .. آرثر شوبنهاور .. من أنتما؟ وأين نحن؟) صاح نيتشة:(اللعنة .. يا عزيزي شوبنهاور نحن في العالم الآخر .. لقد ضعنا .. لقد كذبت عدميتك التي كنت تمجدها ، أنا نيتشة وهذا دوكنز) ، ذهب الضعف عن صوت شوبنهاور وهو يصيح:(ماذا تقصد .. هل هذه مزحة سمجة؟ ..) ، قال الرجلان بصوت واحد:(ليست مزحة إنها الحقيقة) ، جاءهم صوت رفيع لرجل من على البعد:(ماذا تقصدان بالحقيقة ؟ إن الحقائق نسبية؟ وكيف توصلتما إلى هذا الاستنتاج السخيف؟) ، أجابه دوكنز بخوف:(لأن هذا هو نيتشة ، وذلك هو شوبنهاور ، وقد توفيا منذ زمن بعيد ، وبالتأكيد لقد توفيت أنا أيضاً وأنت كذلك .. يبدو أننا بعثنا من جديد ، هل هناك احتمال آخر؟) ، ثم قال نيتشة:(ومن أنت؟) أجابهم الصوت الرفيع:(أنا اسماعيل .. اسماعيل أدهم ) ، ثم أضاف :( لقد صدقتما ، ذلك أنني أتذكر تماماً كيف أنني انتحرت وقد كنت متأثراً بشدة بكتاباتك سيد شوبنهاور) . قال دوكنز:(بما أنني الأحدث فيما بينكم ، فأنا أستطيع أن أؤكد بأننا جميعنا عشنا حياة الإلحاد ، ونفينا بكل قوة وجود إله أو يوم بعث باستبعاد نظرية نيتشة طبعا عن العود الأبدي). قال شوبنهاور:(هذا يفسر وجودنا معاً ، إنه انتقام إلهي ، أن نكون سوياً لنجتر مفاهيمنا المغلوطة عن الميتافيزيقيات ) . همهم الرجال موافقين على كلام شوبنهاور ، وقال اسماعيل :(إذن .. فنحن الآن في العالم الآخر ، ولكنه خالٍ من الجحيم والنعيم ، وليس فيه شيء سوى الظلام الدامس ، فماذا سنفعل ؟ هل نظل واقفين أم نتحرك إلى الأمام ) اعترض نيتشة قائلً:(إلى أين؟ ليس هنا من أمام أو خلف ..فلنبق في مكاننا فقط ) إلا أن شوبنهاور صاح بهم:(لن ننهزم لمجرد كوننا قد بعثنا .. لم تكن هناك من أدلة على وجود إله .. لقد مارسنا حقنا الطبيعي في استخدام العقل ، لم نُمنح إمكانيات خارقة للطبيعة لكي نستنتج وجود عالم آخر .. إذن يا سادة ، لن ننهزم الآن ، بل علينا أن نتقدم إلى الأمام ، علينا أن نجد الربَّ ونشرح له ملابسات الوضع وأن نطلب منه توضيحاً حول إخفاء نفسه وإخفاء الأدلة العقلية على وجوده ثم مطالبته لنا بأن نؤمن بما لا يمكن التوصل له إمبريقياً) وافقه اسماعيل قائلاً:(أوافقك لم يكن علينا نفي ما لم يثبت ..فلنتحرك إلى الأمام ) ، قال نيتشة :(فليمسك كل واحد بيد الآخر حتى إذا ما سقط الذي في المقدمة في هاوية أو ما أشبه.. أمسكه الشخص الذي خلفه) . قال إسماعيل:(علينا أن نجري تجارب علمية حول هذا السديم المظلم) وافقه الرجال الثلاثة الرأي واقترحوا أن يبدئوا بالبحث العلمي بمجرد وصولهم إلى مكان مضيء ، وهكذا ساروا مسافة طويلة دون أن يملوا ولا أن يصابوا بالنصب أو التعب ، ثم أن نيتشة قال:(أرى وميضاً في الأفق) ، فتلفت الرجال الثلاثة حولهم إلى أن قال شوبنهاور:(نعم وكأنه نجم أكمار) .. حثوا خطاهم نحو الوميض ، وكانوا كلما اقتربوا منه رأوا ملامح بعضهم البعض ، ورأوا جداراً ضخماً يمتد على البصر عن اليمين واليسار بلا نهاية ، ورغم أن الجدار يبدو مقترباً إلا أنه في نفس الوقت يبدو كما لو كان يبتعد عنهم من شدة ضخامته ، ولكنهم في نهاية الأمر وصلوا إلى بوابة ضخمة عليها مصراعين ومتاريس من الذهب الخالص ، ودعامات جانبية من الفضة ، وتدلى منها وتنتشر في زواياها أغصان نبتة غريبة جميلة الشكل ذات رائحة طيبة ، فقال نيتشة:(ألم تلاحظوا بأننا لم نشعر بالجوع) فأجابه اسماعيل:(ولا التعب .. إننا في العالم الآخر حيث الخواص تكون أصيلة الجوهر) ، ضحك شوبنهاور وقال:(تتحدث كالمتصوفة ) فوافقه دوكنز أيضاً:(سوف نتكلم كثيراً عن هذا الوضع الغريب وسيكون ذلك بلغة غريبة تناهض العقل الدنيوي) . ثم أخذوا يطرقون بأيديهم على البوابة الصلدة ، فكأنها الصخر لا ترد صوتاً ، فصاح دوكنز:(لن يسمعنا أحد بهذه الطرقات الضعيفة فلنصرخ بأعلى صوتنا) ، وهكذا أخذوا يصرخون ولكن لا من مجيب ، فقرروا الجلوس على الأرض والتداول في الأمر ، شوبنهاور:( ارتفاع البوابة لا يقل عن المائة متر ، فهل نستطيع تسلقها؟) ، أجابه نيتشة:(يمكننا ذلك ولو صدق افتراضنا بأننا في العالم الآخر فليس علينا أن نخشى من السقوط إذا حاولنا التسلق ، فلن نصاب بأذى ) تأوه شوبنهاور وقال:(الأذى أصبنا به عندما كنا في العالم الدنيوي ) ، قال اسماعيل:( هل كنا ملحدين حقاً؟) ، أجابه دوكنز:(ربما متشككين فقط) ، قال نيتشة:(أنتم تتخاذلون الآن .. لقد كنا ملحدين ، فكل الأديان تتعارض مع العقل ، لم نكن متشككين فقط ، بل كانت لنا فلسفة حياة ، وتبعنا كثيرون) قال شوبنهاور:(ولكن كل فلسفتنا الآن ضاعت سدى أمام الحقيقة ) ، قال دوكنز:( فلسفتنا لم تضع سدى ، فبفضلها تحركت الأجيال نحو الحياة ورفضت الفناء ، إن كل منتجاتنا الحضارية نتاج علمنة العقل ) ، نيتشة:(أوافقك الرأي.. كانت الأديان تدعوا إلى الفناء ، تدعوا إلى التخاذل عن سبر أغوار الطبيعة والانكفاء وراء نصوص غيبية ، هل كان من مناص لتجاوز ضعف التركيب اللاهوتي أركيولوجياً ، إنه ليست مسئوليتنا ، إنه مسئولية الرب ، والرب وحده يعلم بأننا كنا مخلصين للوجود وأوفياء للإنسانية) ، قال اسماعيل:(هذه الإنسانية لن تحاسبنا الآن .. لقد اخطأنا وعلينا أن نتحمل مسئولية هذا الخطأ) قال دوكنز :( حتى الآن نحن نبني على افتراضات ، افتراضات فقط ، فليس هناك من جحيم حتى الآن ، لم نر سوى هذه البوابة الضخمة والأنوار العظيمة التي تضيء من خلفها ) . قال اسماعيل:(أين خزعبلات جون ملتون ودانتي اليجيري؟ لا شيء ) قفز نيتشة وأمسك بكتفي دوكنز وشوبنهاور وهو يقول:(انتبهوا .. وكأني بصوت أزيز ما) صاح اسماعيل:(إن البوابة تنفتح .. أبواب الجحيم، صدق دانتي) ، إلا أن البوابة لم تنفتح على الجحيم ، بل على الفردوس العظيم ، وعلى الأضواء الباهرة التي جهرت عيون الرجال الأربعة ، رأوا شبح أنثى ذات اجنحة وهي تسبح في الهواء قائلة بصوت عذب:(مرحباً بكم في نعيم الربَّ ، كنا ننتظركم منذ وقت طويل).
كانت الأشياء من حولهم كلها مضيئة ، الأشجار والتلال والأزهار والأنهار ، والعصافير الملونة ، والفراشات الذهبية ، قالت الفتاة ذات الأجنحة:(لم تعتد عيونكم على الرؤية بعد ، ولكن اصبروا لساعات قليلة وسوف تتضح لكم معالم الفردوس ، وإلى ذلك الحين فسوف نلبسكم أفخم أنواع الملابس ، فأنتم لازلتم عراة ) ، جلس الأربعة على الأعشاب الطرية المضيئة ، فقال نيتشة:(ولكن هذا كله غير منطقي ) ، اسماعيل:(تقصد دخولنا إلى الجنة رغم إلحادنا) ، نيتشة:(بالتأكيد) ، حكَّ دوكنز رأسه وقال:(قديماً قال حاخام يهودي بأن معايير الرب غامضة حتى يزداد قدسية في نظر البشر، ولكن ما يحدث لنا يفوق الغموض) ، شوبنهاور:(ربما لأننا تعذبنا في الدنيا ، ربما قام بعمل مقاصة مابين عذاب الدنيا وذنوبنا) ، قال اسماعيل:(أقول لكم .. ربما لم نكن ملحدين بل كنا أكثر أهل الأرض إيماناً؟ ربما إيماننا بالفكر الحر كان إيماناً كاملاً بالرب) ، شوبنهاور:(كلامك ليس منطقياً البتة .. نحن كنا ملحدين وكنا نرفض فكرة الرب تماماً) صاح نيتشة:(أكاد أعود إلى الجنون مرة أخرى كما كنت في العالم السفلي) .
وبعد ساعات من النقاش غير المجدي ، قرروا الاستمتاع بمباهج الجنة ، وهكذا ساروا بين الوديان الخضراء والأنهر النقية الصافية العذبة ، ومارسوا الحب مع الحوريات الجميلات ، وقضوا يوماً رائعاً ، ثم اجتمعوا مرة أخرى تحت شجرة الخلود الضخمة الأفرع ، قال اسماعيل:(لقد أمضيت يوماً رائعا ، تذوقت فيه ثماراً كثيرة ولحوماً شهية ، ولكني أشعر بالنقص ولا أعرف لماذا!) ، قال شوبنهاور:(بالفعل هناك شعور بأن شيئاً ما ينقصنا) ، قال نيتشة:(إنه التفكير .. التفكير هو ما ينقصنا .. فلا شيء نفكر فيه) قال اسماعيل:(صدقت .. إننا لم نخلق لهذا الروتين الجسدي .. لسنا بهائم تأكل وتشرب وتمارس الجنس فقط) ، دوكنز:(هذه بالفعل مشكلة .. دعوني اقترح عليكم اقتراحاً ..) سألوه بصوت واحد:(ماهو) ، عجل لنا به) استطرد :(إننا لا نشعر بالنعم التي وجدناها في الجنة ، بل على العكس تماماً ، لذا علينا أن نرى أصحاب الجحيم حتى نحمد الرب على النعمة) .. وافقوه على رأيه وسألوا الفتاة ذات الأجنحة أن تُريهم أصحاب الجحيم فقالت لهم :(هناك جدار عظيم من الزجاج المقوى يفصل بين الجنة والجحيم ، عليكم أن تطيروا خلفي لأقودكم إليه) ، ولأول مرة أدركوا بأن باستطاعتهم الطيران فحركو أيديهم ورفرفوا بها كالأجنحة وطاروا خلف الفتاة . وخلال الرحلة لم ينبس أحدهم ببنت شفة ، إلى أن رأوا الجدار الزجاجي الضخم ، ومن ورائه تلتمع ألسنة اللهب ، ثم رأوا أشباح أشخاص يصرخون فدققوا النظر ، حينها صاح نيتشة:(اللعنة .. إنهم رجال الدين .. إنهم يحترقون صارخين .. وجلودهم تشوى وتتبدل) ، شعر الرجال بالقلق فقال شوبنهاور:( اللعنة ماهي المعايير.. نحن ندخل إلى الجنة ورجال الدين في الجحيم؟!!) قال إسماعيل:(هذا لأنهم كانوا يتاجرون بالدين ، كانوا يرتزقون بفتاويهم على أبواب الحكام والسلاطين) ، صاح دوكنز:(ولكني أرى كافة رجال الأديان هنا .. هل يعقل أنهم كلهم كانوا تجار دين ؟) صاح نيتشة:(إن هذه المعايير تخرج عن أي منهج استقرائي أو استنباطي) ، كانت أصوات الجحيم عالية ولها شهيق وزفير ، حتى أن الرجال كان عليهم أن يرفعوا أصواتهم بالصياح لكي يسمعوا بعضهم البعض ، فصاح بهم شوبنهاور:(فلنذهب إلى الجهة الأخرى ، فإني أراها أقل ضوضاء من سابقتها) ، فانطلقوا حتى بلغوا الجهة الأخرى ، وهناك رأوا رجالاً يعملون بصمت رغم أن أجسادهم كانت تحترق ، فصاح دوكنز:(اللعنة إنهم العلماء ، ذلك هو ماكس بلانك ، وذلك هو اينشتاين ، ومدام كوري ، وداروين ...الخ) وصاح اسماعيل:(وهاهو جابر بن حيان وابن الهيثم والرازي ...الخ إن بعضهم ملحد مثلنا فلماذا نحن هنا.. وماهي المعايير؟) قال نيتشة:(فلنسألهم ماذا يفعلون) ، فصاح شوبنهاور:(يا علماء العالم السفلي ماذا تفعلون في الجحيم ؟) ، توقف بعض العلماء عن العمل ثم نظروا إلى الرجال بدهشة ، قبل أن يقول أحدهم:(في مثل هذه الظروف الصعبة يتحتم علينا أن نستخدم عقولنا ونفكر .. بعضنا يدرس الإشعاعات الصادرة عن الجحيم ، وبعضنا يدرس المواد القليلة التي بين أيدينا لنصنع بعض الواقيات من النار) ، ابتهج نيتشة وهو يصيح:(مرحى .. أي أنكم تفكرون .. تستخدمون عقولكم فيما أنتم تشتعلون بنيران الجحيم ..) قال شوبنهاور:(ولكننا للأسف هنا لا نملك شيئاً لنفكر فيه ، إن عقولنا خاوية) ، صاح دوكنز:(نحن كالبهائم مسجونون هنا لكي نأكل ونشرب ونمارس الجنس) ، حينها صاح أحد علماء الجحيم:(اللعنة إنها حياة تافهة ولا معنى لها .. كيف تعيشون هكذا .. تعالوا واحترقوا معنا فهذا أفضل من أن تظلوا كالبهائم في الجنة) . قال شوبنهاور لأصحابه الثلاثة :(أعلمتم الآن لماذا نحن في الجنة ؟) قال نيتشة:(أدركت ذلك الآن فقط) ، دوكنز:(لأن الجنة هي الجحيم بعينه بالنسبة لنا ) قال اسماعيل:(لا يمكنني أن أحيا كالأنعام .. علي أن أذهب إلى الجحيم لكي أفكر مع هؤلاء العلماء ) ، قال نيتشة:(وأنا أيضاً سأذهب .. فماذا عنكما ) وافق دوكنز وشوبنهاور على الذهاب جميعاً إلى الجحيم ، قال شوبنهاور:(ولكن كيف سنذهب إلى الجحيم ، هذا الزجاج المقوى يحجبه عنا؟) نيتشة:(أيتها الفتاة ذات الأجنحة ..) ، الفتاة:(نعم سيدي) ، نيتشة:(نريد الخروج من هذه الجنة ، نريد الذهاب إلى الجحيم ) ، الفتاة:(هذا ممنوع يا سيدي ، من بالداخل بالداخل ومن بالخارج بالخارج ) ، صاح دوكنز:(إذن ، فلنحطم هذا الزجاج الأحمق) ، صاحت الفتاة:(هذا ممنوع يا سيدي ممنوع) ، ابتسم اسماعيل وهو يقول:(فلتذهبي إلى النعيم) ، صاحوا جميعاً:(حطموا هذا السور الزجاجي .. حطمو هذا السور الزجاجي ) ، وبدأوا في تحطيم السور الزجاجي.
(تمت)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.