عندما كنا طلاباً في مدرسة بحري الثانوية (وهي بمقاييس اليوم تعادل جامعة كاملة الدسم).. كنا نصدر جريدة حائطية سياسية بامتياز.. ونجتهد جداً في تحريرها بصورة جميلة ومشوقة، في يوم نشرنا فيها قصاصة فيها سؤال واحد فقط من حوار أجرته صحيفة مصرية مع الرئيس النميري.. المحرر سأل الرئيس النميري (هل كنت تتوقع أن تصبح يوماً رئيساً للسودان؟؟)، ردّ عليه النميري (لا، كنت أتوقع أن أكون لاعب كرة مشهور).. وضعنا القصاصة فيها السؤال، وإجابة نميري، وكتبنا فوقها عنوانا عريضاً بالخط الأحمر (ونحن أيضاً لم نكن نتوقع ذلك!!). أمس لفت نظري (مانشيت) زميلتنا– وجارتنا في الشارع- صحيفة (الصيحة)، مكتوب (غندور: فشلنا في بناء الدولة التي نريد).. وبمعايير جريدتنا الحائطية تلك يستحق هذا التصريح أن نضع فوقه عنواناً عريضاً يقول (ونحن أيضاً نرى ذلك).. نتفق مع البروفيسور إبراهيم غندور في الحقيقة التي أقرّ بها.. بل نحسبها له في ميزان حسناته السياسية؛ أن يجد الشجاعة ليعترف بهذا الواقع.. لكن نختلف معه في أمر شكلي بسيط.. شكلاً مثل هذا التصريح لا يلقى به في المنصات الخطابية الجماهيرية التقليدية.. وإنما يضمن في خطاب حزب المؤتمر الوطني في جلسة (حوار وطني) حتى يدرك الجميع أنه حان وقت المراجعة والإصلاح. عبارة (فشلنا في بناء الدولة التي نريد) هذه.. تنسف مباشرة وفوراً الشعار الذي ظل المؤتمر الوطني يعتلي به الواجهات الجماهيرية في الانتخابات... شعار (من أجل استكمال النهضة)، فالحديث عن (فشل بناء الدولة) يعني أن النهضة- هنا- تسير في الاتجاه المعاكس.. اتجاه النكسة.. وهي الحقيقة حتى ولو لم يقصدها البروفيسور غندور. عبارة (بناء الدولة) دقيقة للغاية.. لأن الذي ظلّ عاكفاً عليه حزب المؤتمر الوطني لم يكن (بناء الدولة) بقدر ما كان (بناء الحزب).. كل أدبيات المؤتمر الوطني وحركته وسكونه كانت تصب في برنامج (بناء الحزب)، بل وتدمير بقية الأحزاب.. الأحزاب التي هي من صميم هيكل وبناء الدولة.. وفعلاً نجح المؤتمر الوطني في بناء حزب (عريض المنكبين).. لكنه ضعيف القلب والساقين.. يتكئ بجسده على الحكومة.. ولو تزحزحت عنه قليلاً فسيتحول إلى (اتحاد اشتراكي)، أو الحزب الدستوري التونسي.. أو الحزب الوطني الديموقراطي الذي لا تزال حتى اليوم أطلال برجه العملاق في وسط القاهرة ملفوفة بلون الحريق الأسود في جمعة الغضب. ليت اعتراف البروف غندور يتحول إلى برنامج عمل.. مبني على قاعدة (أن تحسب الشحم.. في من شحمه ورم..).. حتى ينصلح الحال.. قبل فوات الأوان. التيار