وسط مشهد اقتصادي كئيب يلف العاصمة السودانية الخرطوم منذ اندلاع الحرب، يبرز "شارع الحرية" كمؤشر على تعافي الأنشطة التجارية والاستثمارية. ويسعى السوق، الذي يمثل القطاع الأكثر حيوية في تجارة الأجهزة والمعدات الكهربائية بالسودان، إلى إعادة تنظيم أعماله في بيئة شديدة التقلب على الرغم من الانهيارات الكبيرة في رأس المال الثابت والعامل للتجار. ومن المنتظر أن يشهد شارع الحرية، أحد أكبر المراكز التجارية في العاصمة السودانية الخرطوم، عودة تدريجية للنشاط بعد إعادة افتتاحه عقب أشهر طويلة من الإغلاق وخسائر قدرت بملايين الدولارات بسبب الحرب. ويُعد الشارع القلب التجاري النابض للأجهزة الإلكترونية والكهربائية ومواد البناء في السودان، ويرتاده تجار ومواطنون من مختلف أنحاء البلاد، إضافة إلى متسوقين من جنوب السودان وتشاد ودول غرب أفريقيا. أهمية السوق ودوره في هيكل الاقتصاد السوداني يُعد شارع الحرية مركزا استراتيجيا ضمن سلسلة القيمة المضافة لقطاع الأجهزة الكهربائية في السودان، إذ يغطي 95% من احتياجات السوق المحلية عبر نحو 285 وحدة تجارية ما بين محلات ومخازن. ويشكل هذا السوق نقطة توزيع محورية في سلاسل الإمداد من الموانئ إلى تجار التجزئة بالعاصمة والولايات، بما يعادل دوره الاقتصادي دور شارع عبدالعزيز في القاهرة أو العطايف في الرياض. ويستوعب السوق آلاف العمال في قطاعاته المختلفة (تجارة الجملة، التجزئة، النقل، التخزين، والخدمات اللوجستية)، ما يجعله ركيزة رئيسية ضمن الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي. خسائر ضخمة في الأصول والإنتاجية إلا أن الحرب الأخيرة أدت إلى تدمير شبه كامل للبنية التحتية التجارية في شارع الحرية. وتشير التقديرات إلى أن خسائر البضائع بلغت حوالي 85 مليون دولار، بينما تخطت خسائر الأصول الثابتة (المخازن والمحال المدمرة) 100 مليون دولار تقريبا. ووفقًا للمؤشرات الاقتصادية المحلية، فإن نحو 90% من التجار فقدوا كامل رؤوس أموالهم التشغيلية، ما يعني عمليا خروجهم من السوق ما لم يتم ضخ تمويلات عاجلة أو خطوط ائتمان لإعادة تنشيط رؤوس الأموال العاملة. ويعكس ذلك انهيار مكون أساسي من مكونات القطاع الخاص غير الرسمي الذي يشكل أكثر من 60% من الاقتصاد السوداني. غياب الاستقرار يقيد التعافي بدوره، قال خالد التاج، أحد كبار التجار في شارع الحرية ل"العربية.نت"، إن السوق لم يكن مجرد مركز بيع وشراء، بل يمثل قطاعًا حيويا يغذي الطلب الكلي للأجهزة الكهربائية في جميع ولايات السودان. وأضاف: "قبل الحرب كنا نغطي 95% من احتياجات البلاد. السوق يضم حوالي 285 محلا ومخزنا، وكانت تعاملاتنا اليومية بملايين الدولارات تشمل الجملة والتجزئة والتوزيع الإقليمي. اليوم فقدنا البضائع وخسرنا الأصول الثابتة، ولا يوجد استقرار أمني يضمن دورة النشاط من الميناء إلى المستهلك". وأوضح التاج أن الخسائر غير المسبوقة طالت كل مكونات رأس المال، مبينا أن حجم خسائر البضائع بلغ 85 مليون دولار، بينما تجاوزت خسائر الأصول الثابتة نحو 100 مليون دولار. وأشار إلى أن نحو 90% من التجار فقدوا كامل رؤوس أموالهم التشغيلية وأصبحوا يعتمدون فقط على رأس المال الاجتماعي (العلاقات التجارية) والخبرة المتراكمة لإعادة هيكلة أعمالهم. وطالب التاج الجهات الأمنية بتأمين شارع الحرية وعمل ارتكازات في تقاطع مسجد فاروق وشارع السيد عبدالرحمن، بالإضافة إلى كوبري الحرية. في موازاة ذلك، قال أحد التجار ل"العربية.نت": "حتى لو استوردنا البضائع مجددا، فإن القوة الشرائية شبه منهارة بسبب توقف الأعمال والرواتب لأكثر من عامين. معظم العمال فقدوا وظائفهم أو هاجروا، وكنا نشغّل أكثر من ألف عامل في الخدمات اللوجستية والتوزيع، اليوم لا نعرف أين ذهب نصفهم". وأضاف: "نشتري حاليا بالقطعة بعد أن كنا نشتري كميات كبيرة كموزعين رسميين. إذا لم تتوفر خطوط تمويل قصيرة ومتوسطة الأجل وضمانات تأمين للبضائع، فسيفقد الاقتصاد السوداني سوق شارع الحرية للأبد، ما يعني خسارة مركز توزيع رئيسي وخروج قطاع كامل من السوق". إعادة تشغيل السوق رغم غياب عوامل التمكين وأعلنت لجنة تجار شارع الحرية عن إعادة افتتاح السوق يوم الثلاثاء 15 يوليو بمشاركة أكثر من 80 وحدة تجارية بعد استكمال إزالة الأنقاض وترتيب الخدمات اللوجستية الأساسية. ورفعت الأعلام السودانية على طول الشارع وسط محاولات محدودة لإعادة إنارته وتأمينه. وقال محمد عوض، صاحب متجر للأجهزة الكهربائية، ل"العربية.نت": "نفتح محالنا رغم كل شيء، لأن توقف السوق التام يعني خسارة دورة رأس المال بشكل كامل. الحرب دمرت الأصول والإنتاجية، لكننا نحاول استعادة ولو جزءا بسيطا من التدفقات النقدية اليومية". ترقب من الأسواق الإقليمية وتترقب شركات التوريد في دبيوالقاهرةوالرياض عودة السوق السوداني تدريجيا، إذ يمثل منفذا رئيسيا لتصريف السلع الكهربائية في شرق أفريقيا، ما قد يعيد تنشيط الصادرات الراكدة منذ أكثر من عامين بفعل الحرب. مستقبل السوق رهين بالاستقرار والسيولة وفيما يفتح السوق أبوابه مجددا، يرى خبراء اقتصاديون أن غياب سياسات نقدية وتمويلية عاجلة، مع استمرار تدهور مؤشرات الأمن، سيحول دون تعافيه الكامل، فالقطاع الخاص غير الرسمي يحتاج إلى سيولة فورية، وتأمين، وخطوط استيراد مدعومة بالعملة الصعبة لاستعادة وظيفته في دورة الاقتصاد الكلي. لكن يبقى السؤال: "هل تكفي مرونة القطاع التجاري غير الرسمي لإعادة تشغيل سوق شارع الحرية أم أن الخرطوم بحاجة إلى سياسة اقتصادية كلية تضمن استدامة التعافي، لا مجرد فتح جزئي للسوق في بيئة عالية المخاطر؟". من جهته، قال الخبير الاقتصادي هيثم محمد فتحي ل"العربية.نت" إن إعادة فتح شارع الحرية "تشكل خطوة بالغة الأهمية لاقتصاد العاصمة ولحياة المواطنين"، مضيفا أن السوق يرتبط بحركة الواردات والتصنيع الداخلي، إذ تُصنع وتُجمع داخليًا كثير من الأدوات الكهربائية المعروضة فيه. وأشار فتحي إلى استعدادات التجار لعودة النشاط عبر تنظيف وتأهيل محلاتهم ومعارضهم ومستودعاتهم، موضحًا أن انتعاش شارع الحرية "سيفتح الباب لتعافي أسواق مركزية أخرى مثل سجانة ومواد البناء والمواد الغذائية، كما سيدفع حركة الواردات ويحفز الصادرات المرتبطة بالقطاع التجاري". ودعا الحكومة إلى مساندة التجار وتعويض خسائرهم عبر تخفيض أو تجميد الضرائب والجمارك لتسريع التعافي الاقتصادي. من جانبه، أوضح الخبير الاقتصادي عبدالعظيم المهل أن الشارع كان يمثل سوقا رئيسيا ليس فقط للسودانيين بل أيضا لدول الجوار، وقال ل"العربية.نت" إن عودة النشاط فيه "ستعيد الروح لوسط الخرطوم، وتنعش موقف المواصلات وقطاع النقل وتجار الملابس والمطاعم المحيطة به". ولفت المهل إلى أن الطلب على الأجهزة الكهربائية سيشهد ارتفاعا كبيرا بعد نهب جزء كبير منها خلال الحرب، مؤكدا أن تعافي شارع الحرية "مرهون بعودة الأمن والخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء، وهو ما سيعيد السكان تدريجيًا ويعزز الحركة التجارية في بقية أسواق الخرطوم". أين يقع شارع الحرية بالخرطوم؟ يُعد شارع الحرية واحدًا من أقدم وأهم الشوارع في العاصمة السودانية الخرطوم، حيث يمتد من جامع الفاروق – المعروف تاريخيا بمسجد أرباب العقائد – عند تقاطع شارع الجمهورية شمالًا، وصولا إلى كوبري الحرية جنوبا، لمسافة تقارب كيلومترين. ويكتسب الشارع أهميته من موقعه المحوري، إذ يوازي شارعي القصر وعلي عبد اللطيف، ويمر بالقرب من مبنى السفارة الأميركية القديم واستاد الخرطوم، ما جعله شريانا رئيسيا للحركة اليومية وسط المدينة، ومحورا يجمع بين التاريخ والسياسة والحياة الاجتماعية. كما يضم على امتداده عددا من البنوك والمقار الحكومية، مما يعزز مكانته الاقتصادية والإدارية في قلب الخرطوم. وكان الشارع يعرف خلال الحقبة الاستعمارية باسم "شارع نيوبولد"، نسبة إلى السير دوغلاس نيوبولد، أحد أبرز الإداريين البريطانيين الذين خدموا بالسودان إبان الحكم الثنائي (1899-1956)، حيث شغل منصب السكرتير الإداري أو نائب الحاكم العام، وهو المنصب التنفيذي الأعلى في الحكومة آنذاك. ومع استقلال السودان، تقرر تغيير اسمه إلى "شارع الحرية"، في إشارة رمزية إلى نهاية حقبة الاستعمار وبداية عهد الاستقلال. ويقع الشارع في الاتجاه الغربي للخرطوم القديمة، التي كانت تعرف حينها ب"الخرطوم الكولونيالية"، والتي تضم القصر الجمهوري ورئاسة مجلس الوزراء وغيرها من المقار السيادية والإدارية التي شكلت مركز الحكم منذ مطلع القرن العشرين. العربية نت script type="text/javascript"="async" src="https://static.jubnaadserve.com/api/widget.js" defer data-deferred="1" إنضم لقناة النيلين على واتساب مواضيع مهمة ركوب الخيل لا يناسب الجميع؟ أيهما أصعب تربية الأولاد أم البنات؟ جسر الأسنان هل تعقيم اليدين مفيد؟ الكركم والالتهابات أفضل زيوت ترطيب البشرة