* ( جريمة الملوك وطغيانهم تجاه المسلمين أنهم حرفوهم عن الحق، وشوهوا أمام أعينهم وجوه الحقيقة، وباسم الدين أرهبوهم وأذلوهم، وخدعوهم وسجنوا عقولهم، بحيث لم يجد المسلمون ملاذات أخرى خارج هذا الدين حتى في مجالي الإدارة والسياسة، كل هذا سبب انطفاء قدرات البحث والتجريد العقلي لدى المسلمين، وأصيبوا بالشلل في مجال الفلسفة السياسية..). - مصطفى عبد الرّازق – الإسلام وأصول الحكم. القاهرة 1925 .ص103 .. مع بداية الحراك الجماهيري في الأقطار العربية، بدأت التساؤلات والسجالات الحادة، حول شكل النظام السياسي، الذي سيكون عليه الاستقرار في نهاية المطاف، ومع أن الدولة المرغوبة لدى الجماهير العربية، هي الدولة العلمانية، لكن الدولة الدينية بدأت مطروحة مترافقة مع الهلع والخوف والقلق، ومع ذلك فإن أكثر الشعارات رواجاً، هو شعار الدين لله والوطن للجميع. من الواضح وجود فروقات في المفاهيم، بين الدولة العلمانية، والدولة الدينية بمعنى هل الدولة العلمانية معادية للدين، أو العكس؟ ومن ثمّ في قيام أي منهما سيتحقق النجاح والازدهار للشعب؟ لقد شاعت السلطة الدينية في المجتمعات القديمة، وتحت مسميات الحق الإلهي، نجد سلطتها في الحضارة المصرية القديمة، وفي الحضارة الفارسية، وفي روما القديمة؛ حيث الحكم مرتبط بالسماء، والحاكم أبن السماء، كما شاعت سلطتها أيضاً، في عصر الإيمان المسيحي والإسلامي، ليصبح الحاكم رئيساً متمتعاً بكل السلطات؛ حيث لا توجد سلطة، ولا صلاحية تشريعية، أو تنفيذية، أو مساءلة، أو محاسبة، أو تغيير، أو استبدال، إلا في إطار إرادته المحاطة بالعصمة، والقداسة، والجمود، وكما هو معروف، فإن العلمانية قد نشأت في أوروبا مقابل هذا النوع من السلطة، وفي مواجهة كل ما هو مقدس، أو جامد لا يقبل التغيير والتجديد؛ الأمر الذي جعل العلمانية نقيضاً للكهنوت، ولولاها لما قامت الحضارة الأوروبية، ولا قام المجتمع العلماني الذي يعلي من القيم النفعية، ويدعم التغيير والتجديد. التاريخ العربي مليء بشواهد الصراع القائم على أسس دينية، كما هو مليء بالشواهد على الاستغلال السياسي للدين، واضطهاد المخالفين للرأي السياسي؛ حيث التعامل العنيف مع هؤلاء، بدليل ما حدث تاريخياً مع أبو منصور الحلاج، والسهروردي، وابن رشد والخوارج، والشيعة والزنج، والقرامطة، ولا يزال الأمر مستمراً، مع الاستخدام للدين، في معظم البلدان العربية والإسلامية. تكون الدولة دينية بقدر ما يتحكم في شؤونها رجال الدين، من منطق صفاتهم الدينية وارتكازهم على دعوات دينية، لا بوصفهم مجرد متدينين عاديين، كأن تتم صياغة القوانين على أسس دينية، أو تتم التفرقة بين المواطنين على أسس دينية؛ أو تبعاً لتعاليم دينية، أو أن يتم التدخل القسري، بالتحريم والتجريم، والمنع والمعاقبة، في العلم والفن والفكر، والسلوكيات تحت ذرائع دينية؛ حيث يصاب المجتمع بنوع من الاستبداد والشمولية المستمرة بأقنعة دينية وهذا لا ينفي أن تكون الدولة استبدادية، وهي غير دينية، من خلال استعانتها برجال الدين والدعاية الدينية، لتحقيق أغراض سياسية واضحة، وهي في هذه الحالة توظف الدين وتستخدمه في منافقة جماهيرها ومنافقتهم. قد تقوم الدولة على أسس دينية طائفية متبوعة بإجراءات وقوانين، وممارسات طائفية، تقضي بمجموعها إلى تحويل أتباع الديانات، أو الطوائف الأخرى، إلى مواطنين من الدرجة الثانية، وربما تمنع عنهم مواطنيتهم، فيتحول هؤلاء إلى محكومين بمراسيم دينية تتحكم في فكرهم ووعيهم، وسلوكهم، بصرف النظر عن إرادتهم، أو رغباتهم الخاصة، لتصبح المرجعية الحاكمة هي فتاوي رجال الدين، أو قادة الجماعات الدينية، وبهذا تتحول الدولة إلى شموليات استبدادية ظلامية، يسودها القمع، والقهر، والتخلف، وهذا نجد دليله، فيما عرفه التاريخ الإسلامي من محنة ابن حنبل، وحروب الخوارج، والفرق الكلامية، ويدعي كل منها أنه وحده الفرقة الناجية، والباقون كفار، ومصيرهم جهنم، ودمهم حلال، وربما يتبع ذلك صدور أحكام بالغة الغرابة، كتحريم الحلاقة والموسيقا، وتعليم البنات، وغير ذلك من أحكام يضيع فيها الإنسان والأوطان، وفي مثل هذه الحالة يصبح الدين سلاح المتغلب الذي لا يتورع عن إشهاره في وجه خصومه، حتى لو كانوا ينتمون إلى الدين ذاته، كي يستخرج منه ما يسوّغ إجبار الناس على طاعة سلطته وتقديسها، فيجيز لنفسه المتسلطة الحمقاء القتل والمحق، وتحريم النقد، أو الاعتراض، وهذا ما نلحظه اليوم في السودان، وبلدان عربية وإسلامية متعددة. هذا النوع من الأنظمة تصدى له الفقهاء مثل الماوردي، ومحمد عبده، وعلي عبد الرّازق وغيرهم، ليبطلوه، نافين العلاقة بين السلطة والدين، وبالإسلام تحديداً، لأن الإسلام يقوم على أن الأمة والشعب مصدر السلطات، وأن البيعة والشورى، وعدم احتكار الحقيقة الدينية والدنيوية، هي الأجنة الأولى لدولة القانون، والمؤسسات والحريات بالمعنى المعاصر للكلمة. قد يقول قائل: إن الإسلام لا يحتاج إلى العلمانية لأنها لم تكن مشكلة بالأساس، وإنما تمثل حلاً للمشكلة الأوروبية، وإن خصوصية الحياة الأوروبية هي التي أدت إلى العلمانية، وبالتالي فإن العلمانية، ليست دواءً نفسه ليس موجوداً؛ فالإسلام على مدى تاريخه لم يشهد قمعاً للعلم، ولا محاربة للعلماء. هذه العبارات تبدو للوهلة الأولى منطقية ومفحمة، ومع كثرة تكرارها اصبحت شعارات مقدسة لا تمس، لكنها للأسف تحتاج إلى مراجعات لأنها ليست بديهيات، وتحتوي على كثير من المراجعة على صعيد الواقع، وبعيداً عن خلط آرائنا الشخصية بالدين، نجد أنه يوجد إسلاميات متعددة وليس إسلاماً واحداً؛ فالذي يعتقده محمد عبده، لا يعدّ به عمر عبد الرحمن، أو الترابي أو الملا عمر، والذي يؤكده ابن باز في صحيح الإسلام قد لا يتوافق مع الإمامين الغزالي، أو الخميني. إن التاريخ الإسلامي مزدحم باستخدام الدين مسوِّغاً وغطاء، وسلاحاً لمنح الألوهية للحاكم، في ذبح الحقيقة، ومع ذلك لا يوجد تاريخ للسلطة مشرق طوال الوقت، كائن من يكون صاحب هذه السلطة، والتاريخ الإسلامي ليس استثناءً من هذه الرؤية؛ إذ على الرغم من المساحات المشرقة المتسامحة التي شهدها تاريخ الحكم الإسلامي، إلا أن هنالك مساحات ظلامية مؤلمة، والشواهد كثيرة، ألم يأمر أبو جعفر المنصور، المؤسس الحقيقي للخلافة العباسية، بقتل ابن المقفع، لأنه نصحه في أن يحسن اختيار معاونيه؟ ألم يأمر صلاح الدين بقتل السهروردي، وهو من كبار الفلاسفة الموسوعيين، الذين جمعوا بين الفلسفة الإسلامية واليونانية، والهندية، والمصرية والفارسية؟ وكيف قتل مفكر بحجم محمود محمد طه في ظل نظام الاستبداد مايو وقوانينه الجائرة؟ ألم يعاقب الرازي الطبيب، بضربه على رأسه بكتبه، التي ألفها حتى فقد بصره؟ ثمّ كيف طرد ابن رشد؟ وكيف صلب الحلاج؟ وكيف جلد الكندي؟. ولا نريد هنا أن نتجه بذمة التاريخ حسب الهوى والمزاج الشخصي؛ فمن يضمن لنا مساحة قبول الآخر المختلف معه، حتى لا نكون رهناً بمزاج الحاكم وتركيبته الشخصية؟ ومن يضمن لنا عند اللزوم هذا الحاكم أو ذاك، في أن يخرج من عباءة النصوص الدينية، ليظلم ويجرم ويكفر، ملوثاً الدين بقذارات السياسة، التي تزكم رائحتها الأنوف؟! ما أحوجنا إلى استخدام التاريخ تاريخ المسلمين لا تاريخ الإسلام، حتى نرفع الحرج عن الدين، ونبرئه من ممارسات الاضطهاد الفكري، التي مارسها الحكام المسلمون، ضد المفكرين المسلمين، ممن اختلفوا معهم في الرأي، وننسبها إلى المسلمين، بدل أن ننسبها إلى الإسلام، لأننا إذا تحدثنا عن المسلمين، نتحدث عن سياسة لا دين، فكما أحرقت الكنيسة القس (جيور دانو برونو) وحاكمت (غاليلة)، انطلاقاً من مفهوم الدولة الدينية، واحتكار الحقيقة، أُحرق محمد بن أبي بكر الصديق، وذبح الجعد ابن درهم في عيد الأضحى وهو مقيد في منبر المسجد، ومثلما كان الكهان يبررون للملوك ألوهيتهم، ويقنعونهم أنهم ظل الله، ويبيعون صكوك الغفران، كان معاوية يقول إنه (ظل الله في أرضه)، وكان أبوجعفر المنصور يهدد أنه (سلطان الله في أرضه). وإذا سألنا أنفسنا عن المرجعية الدينية برفض العلمانية؛ فبأي الطرق من الشورى يمكن أن نختار الرئيس؟ أنختاره بطريقة سقيفة بني ساعدة؟ أم بترشيح شخص معين؟ أم باختيار واحد من ستة؟ أم برفع راية لا حكم إلا الله؟ أم الملك العضود؟ أيهما يقنع أكثر باختيار الرئيس؟! ثم ما هي هذه الشورى، هل هي شورى أهل الحل والعقد؟ أم هي شورى ملزمة أم غير ملزمة؟ وإذا كان الترشيح نتيجة ثورة ومظاهرات، وخروج على الحاكم، فباي الآراء ناخذ مما نقلته كتب الفقه؟! أناخذ ما تناقلته عن كتب ابن عباس: (من كره من أميره من شيء فليصبر، فإنه من خرج عن السلطان شبراً مات ميتة جاهلية)؟! أم نأخذ بما تناقل عن صحيح مسلم (تسمع وتطيع الأمير وإن ضرب ظهرك)؟! أم نأخذ بما تناقل عن ابن تيمية: ( ستون سنة في حكم إمام جائر، أفضل من الصلاة من دون إمام). إن العلمانية أسلوب تفكير، وليست عقيدة أو ديناً، لكنها منهج تعامل وآلية حل؛ وهي ليست ضد الأديان، وإنما ضمان لحماية الأديان؛ لأن الفكر الأصولي يحمي ديناً واحداً ويقصي الأديان الأخرى، والفكر العلماني يحمي كل الأديان، لأن همه الأساسي المواطن، وإذا كانت توجد آراء لمفكرين وفقهاء معادية للعلمانية، فإن هنالك آراء مؤدية لهذه العلمانية؛ أليست علمانية أن يقول ابن المقفع،(إن الدين يسلم بالإيمان، والرأي يثبت بالخصومة، فمن جعل الدين خصومة، فقد جعله رأيين، ومن جعل الرأي ديناً فقد جعل رأيه شريعة؟)، أليست علمانية مقولة الأفغاني (إن الدين يجل عن مخالفة العلم الحديث، فإن وقعت المخالفة وجب تأويل الدين؟) أليست علمانية صرخة الإمام محمد عبده: (إن تعارض العقل والنقل، أخذ بما يدل عليه العقل؟). من حقنا أن نسأل صاحب المرجعية الدينية الذي يرفض المرجعية العلمانية، من هي مرجعيته؛ فإن قال الله ورسوله، قلنا له إن الله ورسوله لم يحكما بنفسيهما، والوحي لم يعد يهبط على أحد، ومن حقنا أن نسأل أيضاً، ومن هو المرجع؟ الشيخ محمد عبده الذي حارب من أجل فكرة الوطن، أم السيد قطب الذي رفض فكرة الوطن؟! إن في العلمانية الحل لكل المشكلات والتناقضات، وأهم ما فيها أنها لا تدعي العصمة، وإصلاحها ونقدها لا يعد ولا كفرّاً. يبقى أن نتساءل هل يعقل بمثل هذا العصر القبول بسلفية مزورة قائمة على التعصب، بعد أن اتضحت معالم اماراتها، في ظل النظام الإسلاموي الذي تربع على الحكم ربع قرن من الزمان وما زال، وهو في بدايته حاول قيادة الشارع، إلى حالة من الاحتقان والخوف، بين طوائف الشعب المختلفة؟ هل يعقل القبول بهذه السلفية، وهي تضرب فكرة المواطنة وتجعلها في مقتل، بعد أن عملت على فصل الجنوب قولاً وفعلاً وطبقت سياسة الإلغاء والبغضاء والعنصرية والفساد، وشجعت الكثير من الحركات التكفيرية التي عملت على قتل الناس في المساجد وبيوت العبادة، داعية إلى القبول بأفكارها التي لا تمت إلى السلفية بصلة؟ لأن السلفية ليست أفقاً ضيقاً، وإنما منهج موثق واضح، كان عليه أهل السلف الصالح؛ والسلفية لا تصدر عموماً عن رؤية مغلقة، ولا عن قياس خاطيء، وتأويلها ليس منحرفاً، وهي قدوة للجماعات الإسلامية كلها، مهما تعددت منطلقاتها وتنوعت خطاباتها، لكن السلفية التي نشاهدها ونسمع بها، هي سلفية من نوع آخر مرتبطة بأعداء الدين، تؤول ما يخدم أهدافها، وتحاول فرض رؤيتها على الشعب، باستخدام القوة المفرطة، كما حدث في انتفاضة سبتمبر الشعبية، في ضوء قراءة مشوهة للتراث، تجبر الآخرين على الخضوع لها واعتناق أفكارها، ومسايرتها في سلوكها، وهي تحاول أن تطبق القانون كما يحلو لها، مشكلة خطراً حقيقياً على الشعب والدولة؛ الأمر الذي يؤكد ضرورة التصدي لها بحزم وفضح رموزها من الفاسدين والمفسدين والقتلة، لذلك يجب التصدي لها لتخليص المجتمع من شرورها، بعد ان غزت المجتمع بأفكارها المنغلقة طيلت ربع قرن من الزمان، عن طريق العنف والارهاب، ومن الصعب على المجتمع السوداني القبول بها، بعد ان كشف وأدرك مرامي هذه الطغمة الفاسدة، والمجرمة، لأنه نظام من دون هوية، ونسبتها إلى الإسلام مغالطة كبيرة، لأن الرسول (ص) يقول: (المسلم من سلم الناس من يده ولسانه). كما ساعد هؤلاء سياسة التمكين التي انتهجها نظام (الانقاذ)، بعد إحالة الكثير من الكوادر السودانية المدربة إلى الصالح العام (المعاش)، وفرخت الكثير من حركات التكفير والتعصب الديني، وجمعتها مع غيرها التسمية الدينية، وهي تستهدف المجتمع طائفياً كما أنها أداة لفتنة دبرها التنظيم العالمي للأخوان، وهو تنظيم مأسوني عنصري يهدف لزرع وخلق الفتنة والفرقة بين أبناء الوطن الواحد. كما هو أداة مؤقتة، لما يأتي بعد، كي يُظهر هذا الآتي أنه ملائكة، كما أنها ترفض التطور، ويجمعها التعصب، والتدين شيء، والتعصب شيء آخر. بقي أن نقول إن ما يتفق مع الفهم المتطور، الذي يقبله عصرنا يتمثل في نموذج الدولة العلمانية الديمقراطية، التي يكون فيها للشعب، مصدر شرعية الحكم، دولة قائمة على حرية الاعتقاد والتفكير، والتعبير، والتظاهر، تدار عن طريق دستور، يتم إقراره ديمقراطياً، دولة قائمة على العدل والمساواة، مناهضة للاستبداد والقهر، والشمولية، تحفظ للدين قدسيته، وتحميه من الابتذال والاستغلال، تقوم على الاعتقاد والإيمان، تحمي من الطغيان والقهر، الجميع فيها سواء أمام القانون، يمتلكون وطنهم وحريتهم. المصادر: الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح: (الدولة الدينية والدولة العلمانية). عيد عبد الحليم: ( الغزو السلفي على مصر). خالد منتصر: ( نحن نحتاج إلى العلمانية). صلاح السروي: ( الدولة المدنية هي التي تحمي الدين والمتدينين). الدكتور نائل اليعقوبابي: ( إشكالية الدين والسياسة في السودان). [email protected]