خواطر حبشية +++ لم يتركونا، ونحن والله لن نتركهم، امتثالاً بوصية رسول الله، ولأسباب أخرى نخوض فيها بعد حين. وكان صلّى الله عليه وسلّم قد ألمّ لا شك بكثير من تاريخ البلدان المجاورة لجزيرة العرب وجغرافيتها، ودياناتها، وسِير ملوكها من خلال اشتغاله بالتجارة وسفره الدائم بين الشام واليمن والمراكز التجارية الأخرى، وأحاديثه مع الأحبار والرهبان والتجار والمسافرين من مختلف البلدان. وحين ضاق بالمسلمين الأوائل الحال في مكة، أمرهم الرسول بالهجرة إلى الحبشة، والاستجارة بمليكها النجاشي الذى حماهم وأكرمهم، كما ظنّ(ص) وتوقع. وقد طاب بهم المقام حتى أن بعضهم استقرّ في تلك البلاد حين عاد معظم الصحابة إلى جزيرة العرب، وجاء في كتب السيرة أن أحدهم (عُبيد الله بن جحش، زوج أم حبيبة) تنصّر وبقي حتى مات بالحبشة. وقد اصرّ أستاذي د. عبدالله الطيب، رحمه الله، أن هجرة الصحابة الأولى هذه لم تكن للحبشة بل للسودان. وفي ظنّي أنّ عصبية البروفسير لسودانه ولعشيرته من أحفاد العباس جعلته ينسب فَضْل إجارة ابن عم الرسول وصحابته للسودانيين، وإن خالف ذلك المنطق وحقائق الجغرافيا والتاريخ. إذ لماذا يَعبُر الصحابة (وأهل مكّة اصحاب تجارة وأسفار) البحر الأحمر في أعرض نقطةٍ فيه، ثمّ يعبرون تلال البحر الأحمر القاحلة، وأرضاً قفراً يباب، قبل أن يصلوا إلى النيل، وهم يعرفون أن اليمن التي خبروا وزاروا لا تبعد إلا بضعة أميال من الحبشة عبر باب المندب؟ ولا تبعد حاضرة النجاشي كثيراً عن مرافئ الحبشة النشطة على البحر الأحمر. ويعرف أهل مكّة الأحباش أصحاب الفيل الذين حكموا اليمن وهدّدوا مكّة، ولا بدّ أنهم تاجروا معهم قبل، وبعد ذلك، مما يُغلّب احتمال لجوء المسلمين إليها دون السودان، والله أعلم. حين خطوتُ خارج مطار اديس أبابا "الماهل"، واستقبلتني "الزهرة الجميلة" بوجهها الصبوح، وبشاشتها المألوفة، ورونقها، وروائها، وودّها، داهمتني أحاسيس ومشاعر وذكريات ومقارنات شتّى. أول ما خطر بذهني التعبير "الجو صحوٌ"؛ نكتبه في كراسات الإنشاء ونحن في بداية عهدنا بالمدارس، ونسمعه في النشرة الجوية في تلفزيونات الدنيا، ولا نعرف معناه الحقيقي (مثلما نكتب ونغنى عن الزهور "والوردى" دون أن نراها). وأنا أقف على ربوة مطار أديس أبابا، والمدينة تصحو من سباتها، قلت لنفسي، وأنا ثملٌ برائحة صباح المدينة المنعش، ورائحة أشجار الكافور التي هيّجتها أمطار الأمس، ومزهوٌ باكتشافي: "أيوااا ! هذا ما يعنُونه بالجو صحو!" الهواء شفيف لطيف نظيف، وأشعة الشمس رقيقة رحيمة حانية كأنما غسلتها أمطار الفجر، فنزعت عنها حدّتها وصهدها الذى نعرف كجوع بطوننا، وخضرة الأشجار زاهية شفافة نضرة لا يثقلها مثل الغبار الذى يحطّ بصفة دائمة على أشجار الخرطوم فيحيل لونها، حتى في موسم إزدهارها وفرهدتها، خضرة كابية غبشاء، وأشجار "الجاكاراندا" ذات الأغصان النحيلة السوداء، تكلل هاماتها زهورها البنفسجية التي تهزها رياح "البلق"-الخريف الصغير- فتسقط حول جذوعها دوائر من الظلّ البنفسجي، كلّما رأيتها جاهدت نفسى كي لا ألتقطها مثلما كنّا نفعل حين تهب رياح الخريف، دون أمطاره، على ديار الشايقية في سبتمبر من كل عام، والبلح قد طاب، فتُسقِط "تمر الهبوب" حلالاً لمن يلتقطه من الصبية. حين وفدتً إلى إثيوبيا أول مرّة، حسبتً أنني أعرف البلاد حقّ المعرفة، كيف لا وهم جيراننا، تربطنا بهم وشائج التاريخ والجغرافيا والثقافة ومصادر المياه، نعرفهم ويعرفوننا، نطرب لموسيقاهم ويطربون لموسيقانا، يحلّون بين ظهرانينا كلّما شرّدتهم نيران الحروب، وجور الحًكّام، وعوادي الطبيعة، والفقر المدقع. حين هدّد الطليان أديس ابابا في الأربعينات، لجأ الإمبراطور هيلاسيلاسي إلى السودان حتى زال الخطر، وحين نفّذ ضبّاط سلاح الجو الإثيوبي انقلابهم ضده في الستينات، لجأ مرّة أخرى إلى السودان حتى استتب له الأمر واستعاد ملكه. وحين اشتد أوار الحرب المُدمِّرة في إرتريا، المُهلكة في باقي إثيوبيا، فرّ إلى السودان نحو مليون إثيوبي ترك لهم السودان حُريّة الإقامة والعمل والتملك والحركة. وحين هبت رياح السياسة بما لا يُتَوقع، وتغيّرت التحالفات، دعمت حكومة السودان جبهات إرتريا والتغراي حتى أطاحت بمنقستو ونظامه. والحال كذلك، لم يساورني شكّ في أنني أعرف البلاد وسكانها معرفةً تامّة. غير أنني اكتشفت، بعد أن أقمت فيها، أنني أجهلها جهلاً تاماً، ولا أُلمّ إلا بالنذر اليسير من تاريخها وجغرافيتها وثرواتها الطبيعية وتكوينها العرقي ودياناتها ومزاج أهلها. وما نعرفه عن البلاد وسكانها لا يتعدّى المعلومات السطحية والنمطية من أمثال "إذا جاعوا، وإذا شبعوا"، ومثل ذلك من نتاج النظرة الفوقيّة المتعالية التي ينظر بها أهل السودان النيلي إلى جيرانهم، والتي تنحو نحو التبسيط المُخِل القائم على الجهل بحقائق الدنيا وبقدر النفس. رحم الله إمرئً عرف قدر نفسه، ولا عجب إذن ان "قطّتْ" الرحمة من السودان! اثيوبيا بلد مُعقد، مُركّب، غميس، كلّما أطِلتَ الإقامة فيه تكشفتْ لك طبقات وطبقات من التعدّد المُذهل والتعقيد والحقائق الغريبة. نقول أنهم يشبهوننا ونحن نتحدّث عن سكّان سودان "مُثلّث حمدي" وسكان هضبة الحبشة من أمهرا وتغراي، ناسين (أو متناسين) أن سكان سودان مُثلث حمدي بعضٌ من سكان السودان، وسكان الهضبة هم بعضٌ من سكان إثيوبيا. دُهشتُ كثيراً حين اكتشفتُ أن في إثيوبيا أكثر من ثمانين مجموعة عِرقيّة ونحو ذلك من اللغات! لم أكن أعلم أن "الأرومو" هم المجموعة العرقية الأكبر في إثيوبيا، يمتد إقليمهم من حدود السودان في الغرب إلى حدود كينيا في الجنوب الشرقي بما في ذلك أديس ابابا التي يُسمّونها "فينفينى"، وأن لغتهم حاميّة (كلغات النوبيين والبجا) وليست ساميّة (كاللغات العربية والأمهريّة والتغراويّة)، يكتبونها بالحروف اللاتينية (ربما نكاية في الأمهرا). لم أكن أعلم أن بإثيوبيا قبائل أفريقية صرفة ما زالت تعيش عيشة البداوة الأولى التي كانت تعيشها منذ قرون، تجعل في شفاه نسائها السفلى ثقباً يسعُ غطاء علبة المُربّى. وأن إقليم "قمبيلا" الإثيوبي تقطنه قبائل الأنواك والنوير التى تقطن أيضاً الجانب الآخر من الحدود، وأن إقليم "قُمز- بني شنقول" الإثيوبى تقطنه نفس القبائل الموجودة على الجانب السوداني من الحدود. وقد ازدادت دهشتي حين اكتشفتُ أن المسلمين يشكلون أكثر من نصف سكان إثيوبيا، يتصرفون، ويُعاملون كأقليّة، وينتمون إلى معظم "قبائل"/اقاليم إثيوبيا الكبرى كالأرومو والأمهرا والتغراي، بالإضافة إلى اقاليم العفر والصومال وبني شنقول، وغالبية سكانها من المسلمين. ومع أن التسامح والتعايش الديني يبدو في الظاهر السمة الغالبة في علاقة الطوائف المختلفة في إثيوبيا، إلا أن النظرة المُتفحصة تكشف جدراناً زجاجية بين المسلمين والمسيحيين لعلّها ممّا خلّفته عوامل التاريخ والجغرافيا والسياسة عبر العصور. فهم مثلاً لا يأكلون طعام بعضهم البعض، خاصةً إذا اشتمل على اللحم، وقد يتزاوجون ويجاملون بعضهم البعض، ولكن يصرّون على وجود طعامين في الولائم: واحد للمسلمين والآخر للمسيحيين! ورغم التناغم الظاهري تحس توتراً تحت السطح في العلاقة بين الطائفتين، يُغذيه خوف قديم من "الكرت" الإسلامي في ظل الظروف الإقليمية المتغيرة. نقول أنهم يشبهوننا وهم يشبهوننا أكثر مما نظن، ولكنهم يختلفون عنّا اشدّ ما يكون الاختلاف. إثيوبيا بلد ذو حضارة قديمة متصلة ومتواصلة، والأثيوبيون يفخرون بأن بلدهم من أقدم بلدان العالم، ولغتهم من أقدم اللغات المكتوبة، ولهم توقيت خاص .يبدأ اليوم صباحاً بالساعة الواحدة (أي السابعة عند باقي العالم)، وهى ليست ساعة "فولكلورية"، بل ساعة مستخدمة في كامل تراب إثيوبيا وفي مكاتب الحكومة (ولعلها أقرب للمنطق لبدايتها مع بداية النهار والليل). وتقويمهم كذلك خاصٌ بهم ينقص عن التقويم الميلادي (القريقوري) بسبع سنوات، والسنة الحالية بالتقويم الحبشي هي 2008 ، ورأس سنتهم يوافق الحادي عشر من سبتمبر، وبالسنة ثلاثة عشر شهراً (ولكن 12 مرتب فقط!). وقد دخل الإسلام الحبشة قبل أن ينتشر في جزيرة العرب، والكنيسة الحبشية "الأورذودكسية" من أقدم كنائس العالم المسيحي، ويعتبرها أهلها الكنيسة "الأصلية" وما دون ذلك بدعٌ وهرطقة. وقد كان أباطرة الحبشة، على مرِّ العصور، على اتصال وثيق بممالك الدنيا، يتاجرون معها، ويتبادلون السفارات والزيارات. وحين هدّدت إمارة "هرر" المسلمة بقاء الحبشة المسيحية في القرن السادس عشر، استنجد الإمبراطور بالممالك المسيحية في أوروبا، فأرسل إليه ملك البرتغال(وكانت آنذاك قوّة بحرية تًسيطر على شواطئ أفريقيا وجزيرة العرب وما بعد ذلك) بعضاً من قوّاته مكّنته من صدّ هجوم الهرريين. ثم ما لبث، حين أطال البرتغاليين بقاءهم، أن طردهم حين أحسّ خطر الأثر اليسوعي الكاثوليكي للبرتغاليين على الكنيسة الأورذودكسية. تاريخ قديم، وتواصل بالعالم الخارجي، وحضارة متصلة قديمة ولكنها حيّة. أليس من العجيب إذن أننا لا نعرف من لغة هؤلاء الجيران إلا كلمة أو كلمتين، ولا نعرف من جغرافية بلدهم إلا الهضبة (حيث تنزل الأمطار التي نعيش على مياها)، وبحيرة تانا، والنيل الأزرق الذى ينبع منها ولا يًسمى في بلاده بالنيل الأزرق بل "أبّاى"، ولا نعرف من تاريخهم الطويل والحافل إلا غزو أبرهة الفاشل لمكّة، وهجرة أصحاب الرسول الأولى، وحروب الخليفة عبد الله التعايشي ضدهم ومقتل إمبراطورهم يوهانس في هذه الحروب، وموجات اللجوء السياسي والاقتصادي التي لم تتوقف قط!؟ ++ " يتبع" ++ [email protected]