عندما لا تنتهي أكوام الزبالة ...! في مقالاتنا الأربعة السابقة تناولنا الخرطوم في عهد جمالها الزاهر، المصون بقواعد النظافة، والزاهي بمظاهر التحضر؛ كما تطرقنا لأثر التحولات السكانية والعمرانية والتنموية علي بيئة الخرطوم؛ وأستعرضنا قضية الصرف الصحي كأحد مظاهر تدهور البيئة، والقضاء علي روعة الخرطوم وجماليتها. اليوم سنتناول مظهر آخر تتجلي فيه قضية صحة البيئة بوضوح أكبر، ويعكس علاقة الخرطوم كمستوطنة بشرية مع منظومة البيئة، وعجز البني التحتية ووسائل الاصحاح في تلبية خدمات السكان المتعلقة بالتخلص من النفايات الصلبة (القمامة). منذ أن أُوجد الانسان في الارض، وجد نفسه في صراع دائم مع البيئة لتلبية إحتياجاته الاساسية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن؛ و كلما تطورت حياة الانسان الاجتماعية والاقتصادية، وتمدن نمط حياته زادت حوجته لهذه المتطلبات. ولكن بقدر حوجتنا لتلبية هذه الاحتياجات الاساسية، نحن بحوجة أكبر للتخلص من المخلفات الناتجة من كل الانشطة البشرية الحياتية والصناعية والتجارية، حتي نحافظ علي التوازن الحيوي بين الانسان والبيئة، ونحمي البيئة من خطر التلوث، ونعزز إستدامة الموارد الطبيعية، وندعم التطور الحضاري لحياتنا المعاصرة. ولنا أن نتخيل حياة بدائية لشخص محبوس عن بقية العالم في مكان ما لمدة شهر واحد، وهو يحتاج لعشرات الكيلوجرامات من الاطعمة، ومئات اللترات من المياه، بالاضافة لاحتياجاته في الملبس والمسكن، و نتخيل حجم الضرر الذي يمكن ان يحدثه فيما حوله من مكان حتي يلبي هذه الاحتياجات. وفي الجانب الآخر لنا ان نتخيل حجم الفوضي التي يمكن أن يحدثها في مكان إقامته بفعل إخراجاته الناتجه من الاكل والشرب، وفضلات الطعام، ومخلفات الغسيل والاستحمام، ومخلفات البناء والملبس وبقيه الانشطة الترفيهية والحياتية التي يحتاج اليها لانعاش وجوده؛ وذلك في عدم وجود أي وسيلة للتخلص من هذه المخلفات. هذا السيناريو مهما كان يعكس من مشهد بدائي متخلف، و محفوف بالمخاطر البيئية والمرضية، فهو يعبر عن صورة بسيطة جداً يمكن أن تتغلب عليها الانظمة البيئية وتتعافي منها بشكل طبيعي دون تدخل للمحافظة علي توازنها، ولكن الامر سيكون في غاية التعقيد والخطورة في حالة التجمعات البشرية الكبيرة في المدن وقد يصل لدرجة تجعل السكان يهربون من المكان بحثاً عن مكان آخر لم تصل اليه يد الانسان وغير ملوث بإفرازاته. إن قدرة السكان في التخلص من النفايات الصلبة والمحافظة علي التوازن البيئي أصبحت من أهم المؤشرات التي تعكس التقدم الحضاري، والتطور الاقتصادي، والازدهار الاجتماعي، والارتقاء الصحي للأمم. وفي المقابل فإن العجز في إدارة هذه النفايات لا يعكس الا التخلف الحضاري والاقتصادي والاجتماعي. وفي هذا المجال نشير الي أن (العاصمة الحضارية) الخرطوم مرت في الفترات السابقة بتحولات ديمغرافية، وضغوط سكانية، وتحولات تنموية، ومنعطفات إدارية خطيرة أثرت بشكل واضح علي قدرتها في إدراة النفايات الصلبة، وعجز الانظمة البيئية والبني التحتية في الاستجابة لهذه المتغيرات. وإذا قدر لاي شخص التجوال في أسواق الخرطوم أيام الاعياد فانه يتعذر عليه المشي دون أن يتعثر في أكوام القمامة، واذا تجول الشخص في أحياء الخرطوم لاداء واجب المعايدة فانه يصعب عليه أن يمر دون أن يغطي أنفه من روائح مزعجة تزكمها. وهذا الوضع يعبر عن خلل سلوكي وأخلاقي وإداري وفني كبير في إدراة النفايات. إن المسئولية في الخروج من هذا الوضع المزعج الذي يمس كرامة الانسان السوداني، ويسلبه قيمة الحضارية المتجذرة تقع علي عاتق الدولة والمجتمع معاً. ولابد من إتخاذ تدابير حكومية شاملة، وثورة جماهيرية عارمة للانقلاب علي هذا الوضع المهين الذي استسلم له الجميع واعتبروه جزءً من مظاهر الحياة الطبيعية التي تميز مدن السودان ويتعايش معها المواطن السوداني دون ضجر. أن مشكلة النفايات الصلبة بمختلف مصادرها إذا كانت منزلية أو تجارية (أسواق، مطاعم، فنادق، أسواق، مكاتب،.. الخ) أو صناعية أو طبية أو خدمية تعد من الاولويات الغير قابلة للتجاهل أو التأجيل، وذلك لتأثيرها المباشر علي البيئة والاقتصاد والمجتمع والصحة العامة وإرتباطها بمؤشرات المراضي والوفيات. كما أن التعامل مع النفايات بالمفاهيم التقليدية القديمة (جمع - نقل – تخلص) يجعلنا ندور في حلقة مفرغة ولا يزيد المشكلة الا تعقيداً، حيث أن أفراز النفايات مرتبط بحياة ونشاط الانسان اليومي الذي لا ينتهي ما بقي شخص واحد علي ظهر الأرض، والنفايات هي أحد الموراد الاقتصادية التي تلعب دوراً كبيراً في ترقية حياة الانسان إذا أحسنا إدارتها وفقاً للاسس العلمية والمفاهيم التقنية الحديثة. ومن ناحية أخري فان ضعف أو بطء التدخل في إدراة هذا القطاع سيزيد من كلفة المعالجات المستقبلية، ويفاقم من تدمير الانظمة البيئية، وزيادة معدلات الامراض المتعلقة بصحة البيئة مثل ألامراض المعدية المنقولة بالحشرات أو الاطعمة (إسهالات، كوليرا، تراكوما، تيفوئيد، تسمم غذائي،.... وغيرها) ، وكذلك زيادة معدلات الامراض المزمنة مثل (السرطانات، أمراض الجهاز التنفسي كالربو الشعبي والازمة، وغيرها). وهذا سيُضاعف كلفة الفاتورة التي تدفعها الدولة والمواطن للعلاج، ويُضعف من قدرة الفرد علي الانتاج والمساهمة في الدخل القومي، ويُقلل من معدل العمر المتوقع في الحياة، ويحبس كل الامة في مثلث الفقر والجوع والمرض. ونواصل ... إن شاء الله عندما لا تنتهي أكوام الزبالة ...! (مقال اليوم) هل في أمل لخرطوم نضيفة؟... ولا نزيد الكوم زبالة...! عزالدين فضل آدم جامعة طوكيو للطب والاسنان محاضر بجامعة الخرطوم، كلية الصحة العامة [email protected]