لم يسلط أي ضوء على الأحداث في إثيوبيا وتاريخها منذ رحيل قادتها التاريخيين من أمثال منليك الأول وعيزانا، إلا عندما برز في الهضبة ثيودور فلا أحد يدري الاتجاه العام للسياسة في البلاد المائجة بالقوميات والعصبيات.. ولا أحد يعلم من هم القادة الذين صنعوا الأحداث.. ولكن مع ثيودور بدأ تاريخ إثيوبيا الحديث. اثنان من القادة التاريخيين في أفريقيا ذاع صيتهما في القرن التاسع عشر حرصت على التنقيب عن سيرتهما لأني معجب بهما (شاكا – وثيودور) قاتلا عدواً واحداً متغطرساً دعياً يتفاخر بجزيرته التي أرادت أن تحكم العالم (الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس)، ولكن شمسها (خنقّت) مهزومة.. و(كسفت) وهي منتصرة.. (مرمطها) شاكا بطل الزولو في مطلع القرن العشرين في أرض الزولو، بالقرب من الشاطئ الشرقي لجنوب القارة وفي بلاد غيرها، وكانت انتصارات الإمبراطورية الجزيرة عاراً في جبل مجدلا بإثيوبيا وفي كرري بالقرب من عاصمة المهدية.. أم درمان.. وفي بلاد أخرى. جاء إعجابي بشاكا وثيودور لأنهما استنهضا المد القومي في شعوبهما.. عاشا طفولة متشابهة، وعندما شبا عن الطوق برزت عبقريتهما القتالية كمحاربين أشداء.. وعندما صارا قادة لشعوبهم كانا الأكثر كاريزما في تاريخ هذه الشعوب.. ولكنهما كانا الأكثر قسوة في تاريخ بلادهم. فبعد أن تمكنا.. (تشيطنا).. فجاءت تراجيديا نهاية شاكا برمح واحد من الذين تربطهم به أواصر الدم والقربى.. وكانت خاتمة ثيودور بقرار جنوني منه بإطلاق النار على رأسه من غدارة تأكد من حشوها تلك المرة، لأنه أخفق في قتل نفسه في مرة سابقة. لم يبق لثيودور ما يدافع عنه بعد سقوط مجدلا، هذه الصخرة العصية على مقتحميها، وكان واقع الهزيمة أمامه جلياً لا يخفى على جنوده خاصة بعد مقتل خدن روحه ورفيق صباه وقائده الثاني (قبري).. وها هي جيوش الفرنجة التي تأتمر بأمر امرأة (الإمبراطورة).. يا له من خزي وعار لن تغسله أمطار الهضبة.. وطالما استخف بقادة ينفذون رغبة سيدة قابعة في قصر بعيد في بلاد الفرنجة.. وكم هو ثقيل على قلبه ما فعله (كاسا) كبير التيغري وهو يمد يده بالعون للقائد الإنجليزي (نوبير) لإسقاطه.. وبينه وبين كاسا بغض وكراهية بسبب تمرد (الرأس) على سطوة الإمبراطور، وبسبب ظلم الإمبراطور لقومه بعد أن ذاقوا منه الأمرين، وفي ذلك تبرير منطقي لفعله الذي يراه الإمبراطور مخزياً ويراه (الرأس) ضرورة ليتنسم قومه نسم الحرية العليل بعد أن جعله ثيودور هبباي مغبرا عاصفا.. وأراد أن يحولهم إلى أقنان وهم (خلف) أسلافهم من ملوك أكسوم العظماء. كان ثيودور في طفولته على جانب كبير من الوسامة والرقة.. ولد الفتى في عام 1818 في إقليم كوارا أو (قورا) وهي منطقة جبلية بالقرب من الحدود الإثيوبية السودانية التي يعبر بالقرب منها النيل الأزرق (أباي). شب عن الطوق وهو معوز يعاني من الفاقة والفقر.. تلفه أمه (بائعة الكاسو) بحنانها وتصرف عليه من حفنة (البرات) التي تحصل عليها من بيع (الكاسو)، وهو دواء بلدي يصنع من أوراق بعض الأشجار التي تنمو هناك ويستخدم كعلاج للدودة الشريطية المنتشرة في إثيوبيا بسبب أكل لحوم الأبقار نيئة كعادة غذائية وتقليد في المناسبات العامة مثل الزواج.. الخ عيروه بذلك عندما صار إمبراطوراً مهاباً، ونعته أعداؤه و(مظاليمه) ب(ابن بائعة الكاسو) الذي سلطه الإله العظيم عليهم، وكان يرى في نفسه (المنقذ) الذي جاءت به العناية الإلهية ليستعيد أمجاد الإمبراطورية الإثيوبية القديمة. كان يتمتع بكل صفات القائد الناجح بالإضافة إلى أنه كان ممشوق القوام، بهي الطلعة، عالي الجبين، قوي البنية، عليه مسحة من الهيبة والوقار جعلت منه قائداً للمجموعة المسلحة من قطاع الطرق (الشفتة) الذي كان يقودهم خاله الذي رحل تاركاً له عصبة من الرجال رافقوه (ناهضين). تطورت مجموعة قطاع الطرق وصارت جيشاً صغيراً يضم ثلة من المقاتلين الأكفاء يقودهم شاب طموح.. عندما بلغ الخامسة والثلاثين (1853) استطاع أن يقهر جميع منافسيه من الزعماء حول بحيرة تانا، وأفلح في إخضاع الأمهرا في إقليم بيجميدر Bigimeder وعاصمته ( قندر ) وامتد نفوذه إلى منطقة التيغراي وقوجام عاصمتها (بحر دار ) وشاوا(وعاصمته fini fini،التي صارت اديس اببا ) ثم وجه قوته بشكل خاص للمسلمين في المنطقة حتى صار في نظر البعض قديساً جاءت به الأقدار لنصرة المسيحية، وكان في نظر البعض مثل (القديس جورج) ماري جرجس عند المسيحيين الشرقيين.. بعد سقوط قندر العاصمة وسيطرته على صخرة مجدلا التي اتخذها مقراً لقيادته.. من هناك أعلن نفسه إمبراطوراً على إثيوبيا باسم ثيودور الثالث.. صاحب الألقاب العديدة منها (مبعوث العناية الإلهية، ملك الملوك، إمبراطور إثيوبيا). قادته سطوته إلى تحدي ملكة بريطانيا والمجتمع الدولي وقام بأسر مجموعة من الأوروبيين منهم كاميرون، القنصل البريطاني بقندر، ورسام مبعوث الملكة وجمهرة من الرعايا الأوروبيين ورفض رفضاً باتاً إطلاق سراحهم.. كان متقلباً حيال معاملتهم.. إذ كان مزاجياً متنازعاً بين عدة حالات نفسية لكلٍّ ردود أفعالها.. ذاقوا معه الأمرين وهم يتنقلون ضمن جيشه يجوبون معه الهضبة، وأحياناً يحفظهم في سجونه المنتشرة.. مهددون بالموت في أي لحظة، وكان رفضه (مغلظاً) أوصد الأبواب في وجه كل المحاولات التي أرادت حلاً سلمياً لموضوع الأسرى، ولم يكن أمام بريطانيا إلا خيار واحد هو الحرب.. ولكن الحرب في هذه البقعة من العالم حرب معروفة النتيجة سلفاً.. لا تكون في صالح الغزاة.. لأن التحصين الطبيعي جعل من إثيوبيا وطنا يخشاه الغزاة.. وفي الدرس البليغ الذي قدموه للعالم في معركة عدوة 1896 ضد الغزو الإيطالي وهزيمة روما بكل جبروتها من جنود حفاة عراة يقاتلون بأسلحة متخلفة.. كان درساً مر المذاق تلمظه الإيطاليون وفي خاطرهم الانتصار الخاطف الذي حققه البريطانيون على جيش ثيودور المتمرس في صخرة مجدلا والسهوب والربى التي حولها.. (مجدلا حصن طبيعي فسيح يطل شامخاً على نهر الباشيللو عند انحداره نحو النيل الأزرق في أواسط إثيوبيا، وهي عبارة عن ركام لبركان ساكن تكونت منه هضبة من حجر الصوان يبلغ طولها نحو ثلاثة أرباع الميل وعرضها نحو نصف الميل.. ترتفع نحو ألف قدم عن السهل المحيط بها، ولا يوجد غير درب واحد يؤدي إليها عبر الجبال ذات الأخاديد السحيقة، وتعترض هذا الدرب بوابة ضخمة أقيمت عند مدخل الحصن). هكذا وصفها ألن مورهيد في كتابه (النيل الأزرق) الذي أعانني في التعرف مبكراً على سيرة ثيودور.. ولفتت نظري أقواله التي صارت جزءاً من أدبيات نظام الدرق الذين حاولوا استنهاض الحس القومي بأقوال ثيودور.. ومن يومها ظللت أبحث عنه مثله مثل (شاكا). مجدلا مكان يستنزف الجهد للوصول إليه.. كما يصعب الهروب منه لأن الطبيعية منحته هذه الخاصية الفريدة.. اتخذ ثيودور من هذه الصخرة قاعدة رئيسية يلجأ إليها كلما أصاب الوهن جيشه المتنقل بين هضاب الهضبة وسهوبها.. أمنتها الطبيعة ولكنها لم تكن تأمن شر (القالا) المسلمين الذين تقع الصخرة في وسط ديارهم، وهم ألد أعداء ثيودور ولا يقلون في مرتبة العداء عن جيرانه في بلاد السودان التركي.. بها ثلاثة آلاف كوخ مبعثرة حول الهضبة التي تحوي أيضاً كنيسة مستديرة البناء ومنزلا رحبا يحتوي على خزائن الملك المكدسة بجميع ممتلكاته وخزائنه، بجانب جناح خاص لزوجاته ومحظياته، وموقع للأسرى وجمهرة النبلاء الأوروبيين. كان قرار الحرب لتحرير الأسرى قراراً حاسماً حشدت له بريطانيا حملة هي الأكبر في تاريخ الحملات البريطانية، واختير الفيلد مارشال نوبير الذي يطل تمثاله الآن في ميدان الملكة بلندن Queen gate square وهو يشرئب برأسه نحو السماء.. اختير نوبير قائداً لهذه الحملة، فقد كان تاريخه في آسيا مجيداً وكان مهندساً ومحارباً شجاعاً سقط جواده من تحته مرتين وجرح أكثر من مرة وتولى القيادة في الصينوالهند وتولى جيش بومباي الذي وقع عليه الاختيار لغزو إثيوبيا ومواجهة ثيودور. يقول عنه ألن مورهيد مقارناً بينه وبين قادة وادي النيل إنه يفتقر إلى الروح السمحة التي تميز بها غردون إلا أنه كان ألطف من كتشنر وأكثر منه اعتدالاً، بينما لا يقل كفاءة عنه.. تميزه الابتسامة العذبة التي لا تفارق شفته التي تدخل الثقة في جنوده، وربما يكون ويفل wayvel، قائد جيش النيل، هو أقرب الشخصيات لنوبير بين قادة ذلك القرن. كان على رأس حملته على ثيودور أربعة وأربعون فيلاً مدرباً من الهند لحمل المدافع الثقيلة، واستؤجرت البغال والحمير لنقليات الحملة وأقيم عبر السهل الساحلي خط حديدي يبلغ طوله نحو عشرين ميلاً وجلبت له القطارات البخارية بكامل معداتها، كما أقيمت المرافئ الكبيرة والفنارات والمخازن وأجهزة تقطير الماء المالح إلى ماء عذب، وتم تمديد خط تلغرافي لعدة مئات من الأميال وثلاث سفن كمستشفيات وتجهيزها بماكينات صنع الثلج، وتم تجميع العملة المتداولة في إثيوبيا (ريال ماري تريزا) من كل أنحاء العالم. وضمت الحملة المستكشفين والكهنة والمبشرين.. كل ذلك لدعم حملة قوامها 32 ألف جندي و55 ألف دابة، فهي معركة ضد الطبيعة أكثر منها معركة ضد عدو مرتقب يقوده رجل مثير للجدل.. عندما علم ثيودور بمقدم الجيش البريطاني في أوائل 1867 حدث خاصته عن أسطورة قديمة تقول إن ملكاً عظيماً من إثيوبيا وملكاً أوروبياً عظيماً سيلتقيان يوما ما بإثيوبيا وسيتقرر على يديهما مصير هذا البلد. أستغرب لحديث القادة والزعماء في المواقف المفصلية عن أساطير ورؤى غيبية، مثلما جاء في أسطورة ثيودور المزعومة، أو رؤيا الخليفة عبد الله التي ألهمته بأنه سينتصر على (الكفر) بالقرب من بقعة المهدي، ولا أدري من الذي أوحى له توقيت الهجوم بعد انبلاج الصبح مخالفاً بذلك علوم التكتيك الذي ألهمت الإمام المهدي أن يحارب ليلاً فاستطاع أن يكسب معاركه بسهولة بعد التحييد التام للسلاح الناري وحرمان عدوه ميزة (التنشين)، وكان الليل للمهدي عنصراً قتالياً فريداً يدخل الرعب في أعدائه. عندما (دخل الكلام الحوش) وأيقن ثيودور بأنه مغلوب مغلوب مغلوب، قرر أن يصمد في مجدلا معولاً على مدفع هاون يزن سبعمائة رطلاً صنعه له عماله الألمان. في الليلة التي سبقت المعركة اعترته لحظات جنونية فقام بقتل أكثر من مائة وسبعين من الأسرى ورميهم من أعلى الصخرة إلى أسفل الوادي، وحاول قتل ابنه ألمايو حتى لا يؤخذ أسيراً ولكن الفتى تفادى الطلق الناري ووضع الإمبراطور الغدارة في فمه ليموت بيده، ولكن لسوء حظه ضغط على نفس الزناد الذي أطلقه قبل قليل على ألمايو. عندما اقتحم البريطانيون حصن مجدلا قاد المقاومة بنفسه واستمر يطلق الرصاص وبواباته تسقط الواحدة تلو الأخرى، وأخيراً تقهقهر متخطياً آخر البوابات وأشار لمن تبقى معه بأن ينجو بعد أن انهارت المقاومة.. ووضع ثيودور فوهة غدارته التي كانت هدية من الملكة فكتوريا.. وأطلق النار. دفن ثيودور في اليوم التالي في كنيسة مجدلا وتم وداعه كبطل قومي.. هكذا قضى ومضى ثيودور، الطفل الفقير ابن بائعة الكاسو، الذي ادعى أنه من السلالة الملكية ذات الدماء السليمانية المقدسة.. وفي الواقع لم يكن شيئاً من هذا القبيل، ولكنه بفضل كاريزماه وشجاعته وطموحه صار من صغار زعماء الأقاليم إلى أن صار ملكاً باسطاً سيطرته على جميع ممالك الهضبة بجبروته الذي أخضع الجميع.. نصب نفسه بنفسه ملكاً ورحل دون أن يخلفه أحد من ذريته إلى الحكم، وبقي في ذاكرة الأمة عند البعض ملهماً وباعثاً للمد القومي، ولدى بعضهم رمزاً لجبروت الحكام عندما يكون حكمهم مطلقاً. [email protected]