الصحة والأوقاف تبحثان الترتيبات المبكرة لموسم حج 1447ه    مجلس الوزراء السعودي: نؤكد ضرورة الوقف الفوري للحرب في السودان    إثيوبيا ترد على تصريحات السيسي بشأن سد النهضة    بعثة الهلال تتوجه إلى نيروبي لمواجهة البوليس الكيني في أبطال أفريقيا    الجوهرة دفوي تزين عقد المنطقة الفرعية دلقو    أهلي الكنوز في مواجهة نهضة الوطن بالدامر    كوليبَالي.. (أعِيدها والّلا وَقَع ليكُم)؟!!    *(ارزقي).. يبوح بكل الاسرار..!!    وزير الخارجية يبحث مع السفير القطري تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين    تعيين محافظ جديد لبنك السودان    فوضى في "إعلام المنتخب".. والاعلام يستقي الاخبار من "حساب شخصي"    ترامب: أميركا مع السيسي دائما    شاهد بالفيديو.. الفنانة هبة جبرة تهاجم الناشطة "ماما كوكي": (تسببتي في طلاقي وخربتي بيتي..ما تعمليني موضوع وتلوكيني لبانة وشريف الفحيل دفعتي)    البرهان يصدر قراراً بإعفاء محافظ بنك السودان وتعيين السيدة آمنة التوم خلفا له    ترامب : أنجزنا المستحيل والدول العربية والإسلامية شركاء في السلام    مجلس الوزراء..إجازة تعديلات قانون جرائم المعلوماتية واتفاقيات ثقافية    10 منتخبات قد تحسم التأهل إلى كأس العالم هذا الأسبوع    تقرير الموارد المعدنية: 909 ملايين دولار حصيلة الصادرات    شاهد بالفيديو.. شباب سودانيون يثيرون غضب الجمهور بتقليدهم "ترند" خاص بالبنات خلال حفل زاوج    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يدخل في وصلة رقص مثيرة مع "العميد" خلال حفل جماهيري بالإسكندرية    شاهد بالصورة والفيديو.. فتاة سودانية تظهر براعة كبيرة في ركوب الخيل بمصر وتنال إعجاب جمهور مواقع التواصل ببلادها    الفنان علي كايرو يكتب رسالة مؤثرة من سرير المرض: (اتعلمت الدرس وراجعت نفسي وقررت أكون سبب في الخير مش في الأذى وشكراً الشعب السوداني العظيم) والجمهور: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)    قوات الطوف المشترك شرق النيل تدك اوكار الجريمة بدائرة الإختصاص وتوقف (56) أجنبي وعدد من المتهمين    اتجاه في المريخ ل"تقليص" بعثة بنغازي    حاج ماجد سوار يكتب: كيف يكتمل تفكيك المليشيا (1)    انا والسياسة الاقتصادية والكورنة    أم تكتشف مفاجأة صادمة في حديثه مع "روبوت"    السعودية تدين"الهجوم الآثم" على الفاشر    السفارة القطرية: وفاة 3 دبلوماسيين في شرم الشيخ بمصر    وزير المعادن يترأس اجتماع مناقشة الخطة الاستراتيجية لتأمين المعادن ومكافحة التهريب    هكذا جرت أكاذيب رئيس الوزراء!    حريق في الكيبل المغذي للولاية الشمالية يتسبب بانقطاع التيار الكهربائي    احبط تهريب أخطر شحنة مخدرات    هل انتهت الحرب؟    «وحشني جدًا».. كواليس مكالمة أبوتريكة ل حسن شحاتة في المستشفى    منة شلبي: «حاجة كبيرة جدا وأنا لسه صغيرة عليه»    جريمة اغتصاب "طفلة" تهز "الأبيض"    تنبيه هام من "القطرية" للمسافرين إلى دول الاتحاد الأوروبي    ليس ترامب .. إعلان الفائز بجائزة نوبل للسلام لعام 2025    محمود سلطان يكتب: لماذا وافق نتنياهو على وقف الحرب مرغما؟    ويسألونك عَن فَرفور    فصل "فرفور" من "المهن الموسيقية" يثير جدلاً في الأوساط السودانية    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    الفترة الانتقالية شهدت احد اسوأ حقب الادارة الاقتصادية    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    الدولار يبتلع الجنيه السوداني.. أزمة اقتصادية بلا كوابح    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    وزير الصحة يشارك في تدشين الإطار الإقليمي للقضاء على التهاب السحايا بحلول عام 2030    حادث مرورى لوفد الشباب والرياضة    انهيار الجسر الطائر بجامعة الخرطوم إثر اصطدام شاحنة    عملية أمنية محكمة في السودان تسفر عن ضبطية خطيرة    السودان..محكمة تفصل في البلاغ"2926″    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    الاقصاء: آفة العقل السياسي السوداني    ضبط شخص بالإسكندرية ينصب على المواطنين بزعم قدرته على العلاج الروحاني    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    جنازة الخوف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دون كيشوت الفرنسي.. في حاضرة رث الشلك
نشر في الراكوبة يوم 15 - 12 - 2014


إضاءة أولى
عندما كتب (ألن مورهيد) مؤلفيه (النيل الأزرق) و(النيل الأبيض)، لم يكن ما استهدفه فيهما جغرافية حوض النهرين... ولكنه أخذنا في سياق عبر الطبيعة والتاريخ والأدب وعلم الاجتماع والانثربلوجي والاسطورة... استمتعتُ من خلال مطالعتي (النيل الأزرق) على الكثير من تاريخ المنطقة التي يعبرها نهر)(أباي) وهو الاسم الذي يطلقه الامهرا على النيل بعد انسيابه من بحيرة تانا ومساقط تسي سات... (دخان النار)... واستوقفتني سيرة الامبراطور المثير للجدل (ثيودرو) او(تيدروس) كما يناديه مواطنو الهضبة... كنت معجباً به وما زلت، مثله مثل (شاكا) بطل الزولو... كلاهما لم يسجل لهما بالعربية سيرة إلا شذراً مثل تاريخ الهضبة الذي يحتضنه سكانها في حكاياتهم وحبسوه معهم... فهم امة اختارت العزلة التي فرضتها طبيعة الهضبة وطبيعة شعوبها... نسوا العالم... وتناساهم.
تاريخ الهضبة محجوب عنا، وما نعرفه عنها لا يفتح باباً لمعرفة، ولهذا ظللت اسعى اليه في الزهرة الجديدة... في جامعتها العتيقة التي احرص على زيارتها كلما اشتقت الى سيرة (ماكيدا) او بلقيس... وحكاية الامبراطورة جوديت... والملك عيزانا ملك اكسوم وسبأ وحمير وسيدان... الخ، خصمنا الذي لا نضمر له وداً لأنه احرق مروي... كما اجد في حكاية منليك الاول (ابن بلقيس)، ومنليك الثاني مؤسس الزهرة الجديدة وبطل معركة (عدوة)... متعة تقربني من الهضبة وثقافتها.
إضاءة ثانية
حصلت على نسخة من كتاب (النيل حياة نهر) لمؤلفه أميل لودفيغ ترجمة عادل زعيتر، واطلعت عليه صديقي الاستاذ مكي ابوقرجة، الذي سارع الى معرض الكتاب المصري لاقتناء نسخة من الكتاب وهو سفر يربو على أكثر من830 صفحة، .
يقول في مقدمته (النهر في فتوته كالانسان في شبابه يردد مؤثرات البيئة التي اوجدته، على حين ترى النهر في كهولته يكافح تطاول العالم الخارجي بسجيته وللإقليم والبلد تأثيران عظيمان في ريعان الشباب، ثم يبدو تأثير الانسان .
في الكتاب قرأت سيرة مارشان الكولونيل الفرنسي الذي جاء غازياً وهو عاطل من الرجال والسند اللوجستي ووسائل الاتصال، بمعيته 23 فرنسياً و500 جندي من السنغال، فعاد من فشودة خائباً حسيراً بعد رفع علم دولته المثلث الالوان واضطر الى طيه بعد خمسة اشهر.
حينما كانت شمس القرن التاسع عشر تقترب من افق المغيب كان هناك دولتان من البيض تتسابقان نحو السودان لاقامة امبراطورية استعمارية افريقية... كانت انجلترا تسعى للانتقام لمقتل قديسها غردون وإعادة الاعتبار لكرامةٍ داستها اقدام الدراويش الحافية.
أما فرنسا فكانت تبغي نصراً ينسيها (سيدان) التي منيت فيها عام 1870م بهزيمة عظيمة أسفرت عن اسر نابليون الثالث، وهو على رأس جيش من مائة ألف مقاتل كلاهما أراد نقطة ارتكاز على النيل بعدما أصبح السودان ارضاً مباحة (مثلما يحدث الآن )
كان الانجليز يتقدمون من الشمال نحو النيل الاوسط، ويسير الفرنسيون من الغرب نحو النيل الأعلى، وكلما اقتربت فرنسا من النيل الحافل بالأسرار يغمرها الشعور بالقوة، وكان يزعج انكلترا التي تخشى على حبيبتها مصر من سدود قد يقيمها الفرنسيون فيجف حلق المحروسة.
حاولت فرنسا المغامرة ولكنها خسرت السباق قبل بدء المسير لأن الرجال يمنحون القوة ولان بناء خط حديدي من الكونغو الى فشودة ضرب من الخيال... اجتهدت (مفرزة) فرنسا بما هو متاح للوصول الى حاضرة رث الشلك (فشودة
في تلك الاثناء كانت انجلترا تنطلق من قاعدة أمينة...
وبدأت انشاء الخط الحديدي لنقل القوات الغازية الى منحنى النيل ومنها الى عاصمة الخليفة.
وصف وزير الحربية الفرنسية قائده المكلَّف بمهمة (الفتح الافريقي) الكولونيل مرشان بقوله (رخصاً كالمغول وذا عيون كالنبل وهو اذا ما تكلَّم نطق بأحكام... ويبدو كل شئ فيه من أخمص قدميه الى قمة رأسه مشحوناً بالكهرباء)... كان في الثالثة والثلاثين من عمره عندما بدأ مغامرته التي أراد ان يقضي بها على اسطورة النحس الذي لازم فرنسا كلما نزلت شاطئ النيل. فرنسا اعتبرت مغامرته (بعثة ارتياد) ولم تمنحه التأييد الكافي فكان مثل فرنسا القرون الوسطى (متوكلاً) ضارباً بصروف القدر عرض الحائط... أو مثل دون كيشوت متوهماً مجداً غير تليد لا تمنحه منازلة طواحين الهواء وقطعان الأغنام.
في الوقت الذي كان فيه جيش الغازي كتشنر يتقدم جنوباً مخترقاً الصحراء وعواصفها بعيداً عن النيل والدراويش ورماة الحدق، كان مارشان يتقدَّم عبر الدغل يقاوم منسوب النهر المنخفض وسيد قشطة ومحاربين لا تنقصهم الوحشية، كانوا يفترسون صياديه وحماليه فطالت رحلته وتأخرت ستة اشهر إلى أن حط رحاله في نهاية الامر في يوليو 1898م في فشودة، حيث انشأ حصناً صغيراً رفع على ساريته علم فرنسا التي انقطع الاتصال بها لأكثر من ثلاث سنوات بسبب القصور في الاتصالات البرقية في الوقت الذي توفرت للجيش الغازي من الشمال مع القاهرة ولندن وعلى طول خط الحملة، فقد حاول مارشان الاتصال بالكونغو والحبشة وفرنسا... دون جدوى فظل وحيداً بين ثلة من جنوده وبضع بنادق وعلم معلق في سارية في حالة يرثى لها.
بعد خمسة ايام من مجزرة كرري، وبعد ان سكتت اصوات المدافع والنيران وفرغ جنوده من استباحة (المدينة الجريحة) تسللت الاخبار تحمل قصة الفرنسي التعيس الذي رمى به القدر ودولته في فشودة انزعج القائد (الفاتح) لانه كان يدرك جيداً معنى وجود علم دولة منافسة على مرمى حجر من مقرن النيلين، فركب النهر جنوباً في معيته كتائب سودانية ومائة اسكتلندي وبضع سفن ذات مدافع... وفي ذلك مغزى أراد أن يدركه مارشان.
بعد تسعة ايام التقى الضابطان الابيضان في كوخ بفشودة كان القائد الفرنسي يرى ان حكومته قد اقامته وكيلاً عنها في احتلال بحر الغزال حتى ملتقاه ببحر الجبل.. اما القائد الانجليزي كان متمسكاً بالتفويض الذي منحته له دولته بعدم الموافقة على وجود سلطان لدولة من البيض في وادي النيل... وقام الى سارية غير بعيدة عن سارية العلم الفرنسي رفع فيها علم تركيا ولم يشأ أن ينزل علم فرنسا ثم توجَّه في مسيرة يوم نحو السوباط حيث انشأ مركزاً وعاد بعد ذلك وترك في فشودة حرساً سودانياً واربعة مدافع، وابلغ مارشان بأدب لا غبار عليه ان (البلد) خاضع للحكم الثنائي الانجليزي المصري وأنه منع نقل العتاد الحربي على النيل.
ويظل الضابطان واقفين متواجهين
مرشان: (لا أتلقى أمراً من غير حكومتي )
كتشنر: (وإذا ما اضطررت..).
مرشان: (اذاً سأموت هنا ).
ستة اسابيع انهمكت فيها لندن وباريس في هذا الامر الجلل.. تحاولان ابعاد شبح الحرب ونجحا في ذلك ليس بسبب حكمة انجلترا ولكن بسبب ضعف فرنسا آنذاك حملت باريس على الخضوع واعتبر مارشان رسولا للحضارة سترا للجلاء الخجول عن فشودة وصرفاً للأذهان لما منيت به فرنسا عندما لووا ذراعها في حاضرة الرث المقدسة، في مكان ما على ضفة النهر المتهادي القادم من جبال القمر.
بعد النصر السلمي الذي حققته انجلترا على فرنسا يرى كتشنر أن انتصاره في ام درمان هو الذي انقذ مرشان من نصال الدراويش ورماحهم المتعطِّشة لدماء البيض.
رفض مرشان العرض السخي الذي قدمه له كتشنر باستخدام باخرته والسفر بالقطار شمالاً حتى المتوسط والعودة الى بلاد الغال ناجياً بنفسه... وعزم على شق طريقه الى الحبشة... وبدا على الرغم منه مثل دون كيشوت يجوب افريقيا من جانب الى جانب، مفجوعاً بعد أن رفع علم بلاده المثلث الالوان على النيل، وعزَّ عليه ان ينقذ نفسه في الوقت الذي لم يفلح فيه من انقاذ شرف فرنسا الذي تعرَّض لجرح غائر.. (وكان مثل نظرائه الفرسان في القرون الوسطى )
التحق مارشان بالخدمة العسكرية جندياً عادياً وجعلته الأقدار قائداً لفتح فرنسا الوهمي لقلب افريقيا.
تحالفت فرنسا وانجلترا بعد ست سنوات من عودته وحمل مارشان السلاح مقاتلاً بجانب الانجليز في الحرب العظمى.. ومات الفاتح الشقي (جان بابتست مرشان دو تواسيه) عام1934م قبل أن يشهد امبراطورية فرنسا الاستعمارية الكبرى في غرب افريقيا من غير ان يكون النيل جزء منها.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.