إلى الصديق المبدع: سيف الدين الخواجة حتى يظل الخزان مملوءاً بالفرح وبحثاً عن وطن يليق بنا/ نليق به، ولو في المنفى. *(عظماء الرجال جبال لا تنقص الكهوف من شموخهم. .). - كونفوشيوس- .. استوقفني أثناء إعادة قراءة مذكرات الشاعر التشيلي اليساري بابلو نيرودا، والمعنونة (أشهد أني قد عشت)، حديثه عن الصداقة التي ربطته بشعراء يساريين كبار، أبرزهم فيديريكو غارثيا لوركا وناظم حكمت وبول إيلوار ولويس أراغون. لقد وصف الحفاوة التي لقيها في بوينس آيريس عاصمة الأرجنتين، حين زارها مع صديقه لوركا لحضور العرض الأول لمسرحية (عرس الدم)، وتذكّر بدقة ومرارة تفاصيل جريمة غرناطة ليلة التاسع من يونيو عام 1936 التي لقي فيها لوركا مصرعه على يد الفاشية اليمينية الإسبانية، وسرد حكاية طبع مجموعته الشعرية (إسبانيا في القلب) في ظروف الحرب الأهلية، قبيل هزيمة الجمهوريين اليساريين عام 1939 بفترة وجيزة، والكتاب زاخر بحكايات شائقة وتجارب غنية ومريرة. لقاؤه مع الشاعر التركي ناظم حكمت في موسكو ترك في نفسه أثراً عميقاً: شاعران منفيان متهمان بحب شعبيهما من عمال وفلاحين مفقرين، وبكراهية الاستبداد، وفي أحد اللقاءات بينهما تحدث ناظم عن معاملة الجلادين له أيام سجنه، وعن ممارستهم أقسى ألوان التعذيب بحقه كي يتداعى، لكنه في كل مرة كان يستحضر قواه بإباء، ويواجه التعذيب بالغناء: كان يبدأ بصوت عادي هادئ، ثم يرفع صوته بأغنيات غزلية وقصائد ومسادير فلاحية، فتنطلق أصوات الغناء من زنازين كثيرة، وقد علق نيرودا على هذه الحكاية قائلاً: يا أخي إنك بهذا قد أجبت عنا جميعاً، فلم نعد نحتار فيما نفعله، فها نحن معشر الشعراء نعرف متى نبدأ الغناء. وصداقة نيرودا للشاعر الإسباني والمسرحي المجدد لوركا لها أكثر من حكاية: فقد التقى الشاعران الشابان اللذان يكتبان باللغة الإسبانية في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيريس، وكان نيرودا قادماً إليها بعد تعيينه قنصلاً لتشيلي، وكان لوركا قادماً إليها كي يفتتح العرض الأول لمسرحيته المعروفة (أعراس الدم)، فتعارف الشاعران وأصبحا صديقين، وصارا يحضران معاً حفلات التكريم التي أعدها لهما أدباء وأصدقاء كثر في الأرجنتين، والمفارقة العجيبة التي رواها نيرودا أن عدداً من خصوم الشاعرين أزعجهم الاحتفاء الذي لقياه، ولم يجدوا وسيلة للتعكير عليهما سوى إطلاق الشائعات، ونشر أخبار ملفقة بأن احتفال التكريم قد ألغي أو تأجل، أو إجراء اتصالات بالجهات الداعية تؤكد اعتذار الشاعرين عن الحضور، وهذه تصرفات لا تليق بنخب ثقافية أو سياسية. ويتذكر نيرودا بحزن ذلك الموعد الذي لم يتحقق مع صديقه إبان الحرب الأهلية الإسبانية عام،1936 وجريمة غرناطة التي اغتيل خلالها لوركا، فيقول: عرفت الحرب الإسبانية قتل مليون وتشريد مليون، وبدا لي أن هذه الشوكة الدامية لن تمحى أبداً من ضمير الإنسانية. أما اغتيال لوركا يوم 19 يونيو عام 1936 فهو شاهد على وحشية عسكريي اليمين المتطرف، المعادين للإبداع، وكان الشاعران مدعوان لزيارة السيرك الإسباني الكبير بدعوة من شاب تشيلي يدير السيرك، ويؤكد أصالة هذا الاستعراض الجميل في معرض رده على تحفظات صديقه نيرودا، وحضر نيرودا في الموعد لكن لوركا تخلف عنه، (لأن موعده كان مع مردة وسفاحين آخرين)، ويضيف نيرودا: هكذا بدأت الحرب الأهلية الإسبانية التي غيرت شعري، لقد بدأت بالنسبة إلي باختفاء شاعر وأي شاعر، (لم أر شاعراً مثله، اجتمعت فيه اللطافة والعبقرية، القلب المجنح والخيال الشفاف، كان خلاصة أعمار إسبانيا وعهودها، وصفوة الازدهار الشعبي، نتاجاً عربياً أندلسياً ينير ويفوح على مسرح إسبانيا. أما حكاية الوقائع الغريبة لطباعة مجموعته الشعرية الشهيرة (إسبانيا في القلب)، فقد أوردها نيرودا في الفصل الرابع من المذكرات، فحين دفعها للطبع أثناء الحرب الأهلية، كان مقاتلو اليسار قد تعلموا صف حروف الطباعة، لكنهم لم يعثروا على الورق، فدفعوا إلى طاحونة قديمة خليطاً غريباً مما وجدوه من شظايا ورايات وثياب مدماة وخيام ممزقة، ويضيف: ومع قلة خبرة الأيدي الصانعة فقد خرج الورق بديعاً جداً، وما يحفظ من نسخ قليلة من هذه الطبعة تدهش بما فيها من وضوح الحروف وجودة الطباعة، وقد رأيت بعد عدة سنوات نسخة من هذه الطبعة الأولى في واشنطن محفوظة في مكتبة الكونغرس، في واجهة زجاجية تعرض أكثر الكتب غرابة في زماننا. وخصّ نيرودا حرفة الشعر ودور الشاعر والمبدع في الصراعات والأزمات، كما تناول أهمية النقد الأدبي في تربية ذائقة الناس وفي تعميم التجربة الإبداعية، فقال: أنشدت شعري في ساحات وشوارع ومعامل وقاعات ومسارح وحدائق عامة، وجلت في أنحاء تشيلي كلها أنثر قصائدي بين أناس شعبي. وقد ذكر ناقدي أشعاره باحترام، وخص منهم أولئك الذين أضاؤوا تجربته بما سلطوه من أضواء عوالمهم الكاشفة، ومن هؤلاء ليف أو سبات من روسيا وأميز رودرويغيث من الأوروغواي والإسباني أمادو ألونسو الباحث واللغوي المعروف. ولم تخلُ حياة نيرودا من لحظات بهيجة برغم الخيبات والمصاعب، فقد عمل قنصلاً لبلاده في أكثر من عاصمة، وغدا صوتاً منشداً ومدافعاً عن حقوق المفقرين والمقهورين، ونال جائزة نوبل للآداب عام 1971 لكن أشواكاً دامية كثيرة انغرست في صدره حين فقد صديقه الاستثنائي لوركا، وعند اضطراره إلى العيش في المنفى الباريسي بعد أن أعفته حكومة بلاده الديكتاتورية من منصبه الدبلوماسي، وعند تلقيه نعي المناضل المعروف تشي غيفارا الذي كان يحمل في جعبته على الدوام كتاب نيرودا (النشيد العام)، وحين شهد بأم عينه مصرع صديقه الرئيس التشيلي المنتخب سلفادور ألليندي على يد طغمة بينوشيه الديكتاتورية، وهي أشواك نبقت من خيارات شاعر، أحس آلام شعبه وآلام المظلومين جميعاً، وهي الخيارات التي تخلد الشاعر والمبدع والسياسي في وجدان الناس، بينما تخيم الظلال السوداء على وجوه الجلادين والقتلة مهما تبدلت أقنعتهم. [email protected] - - - - - - - - - - - - - - - - - تم إضافة المرفق التالي : د. نائِل.jpg