انتقل إلى الأمجاد السماوية في 6 أبريل الجاري رفيقي آبي أوشيروف عن 92 عاماً. ولم ألتق بالرجل ولم أعرفه إلا من خلال نعيه بجريدة النيويورك تايمز المنشور في 11 إبريل 2008. وما وثق ما بيني وبينه هو أنه ينتمي إلى جماعة أمريكية يسارية معروفة ب "كتيبة إبراهام لنكولن الدولية". وهي كتيبة من الشباب الشيوعي واليساري الأمريكي الذين ذهبوا إلى أسبانيا في 1936 للدفاع عن جمهوريتها ضد جحافل الفاشستيين الأسبان (المدعومين بالمانيا النازية). وكانت هذه الجحافل بقيادة فرانكوا (ديكتاتور أسبانيا النموذجي لاحقاً) قد انقلبت على الجمهورية. وقد ضحى الغرب بها في سياق مساوماته المعروفة مع هتلر والنازيين في الثلاثينيات لإرضائهم بالقاصية من الغنم حتى يلهونهم عن الحرب. وضاعت جهود الغرب سدى. ولم يضع الغرب أسبانيا فحسب بل أضاع الحبشة التي خضعت لإيطاليا الفاشستية في 1936 ولم يحرك الغرب ساكناً. تكونت الكتيبة من 3000 أمريكي لم يبق منهم على قيد الحياة الآن سوى 39. ووتائر الموت بينهم بالطبع متسارعة. فقد توفي بعد يوم واحد من رحيل آبى رفيقان آخران له هما آبي سموردين (92 عاماً) وتد فلتفورت (92 عاماً). وتبقت منهم الآن دست ثلاث. وظلت صفحة وفيات النيويورك تايمز تعرفني بهم واحداً إثر الآخر بعد موتهم بعد عمر طويل في صالح الأعمال. فسموردين مثلاً ظل أميناً لمال كتيبة لنكولن لزمن طويل بينما هاجر سموردين إلى كوبا ليدرس فيها الهندسة وليدعم حكومة نيكراغو بسيارات إسعاف من تبرعات أمريكية. وقد سبقهم إلى الدار الآخرة في 14 يناير 2008 ملتون ولف. وبلغ هذا الرجل من الشجاعة حتى قال عنه إرنست همينجواي ( الكاتب الأمريكي الذي شارك في الدفاع عن الجمهورية الأسبانية وكتب عنها روايته لمن تقرع الأجراس؟) إنه شجاع وعسكري مميز في مقاس قادة الفرق التي حاربت في قيتسبيرج. وهي معركة فاصلة انهزمت بعدها القوات الكونفدرالية التي حاربت لفصل الجنوب عن الشمال في حرب أمريكا الأهلية الشهيرة في ستينات القرن التاسع عشر. وكان ملتون بارزاً في حملات مقاومة الحرب الفيتنامية. وروي عنه أنه زار اسبانيا في عام 2004 وتفكه مع الأسبان قائلاً: "هي، شوفوا هني، إذا أي واحد غَلَّط عليكم بس أدوني تلفون وخلو الباقي علي" ومات قبل أن يشهد حلم عمره وهو افتتاح النصب التذكاري لكتيبة لنكولن الذي قصوا شريطه التقليدي في مارس الماضي بمدينة سان فراسيسكو. مصدر القرابة الروحية الشفيفة التي أشعر بها تجاه كتيبة لنكولن هو نشأتي وجيلي القارئ الشيوعي على ولع عظيم بأسبانيا الجمهورية. فقد كانت هي نافذتنا على ثقافة هي مضرب المثل في نبل العزائم ومثابرتها. وتعرفنا خلال تلك النافذة على مفكرين وأدباء التزموا بقضايا عابرة للقارات في زمالة إنسانية نادرة. فقد عرفنا بها الشاعر الأسباني فريدريكو غارسيا لوركا الذي إغتاله الفاشست في سنوات الحرب. وقد غلت دماء الشاعر الدبلوماسي التشيلي بابلو نيرودا لمقتل خدن روحه لوركا فأنشغل بالدفاع عن الجمهورية وأتخذ بالتدريج طريقه للشيوعية وانعقدت له أمارة الشعر الثوري. ويكفي في الدلالة على أثر هؤلاء علينا أن صديقنا الشاعر شابو تعلم اللغة الأسبانية على يد قسيس كاثوليكي في السبعينات بمدينة كوستي ليقرا نيرودا في لغته الأصل. فتأمل. وله درك يا شابو. وكنا نتذاكر في حلقاتنا اليسارية في بداياتنا بجامعة الخرطوم خبر المثقفين المناضلين الذين هجروا مدارج العلم والمكتبات وانتظموا جنداً عاديين في الدفاع. وأزهرت من حرب اسبانيا لوحة "غيرنيكا" لبيكاسو التي هي تعبير تجريدي لخراب غيرنيكا أو (هٌدَامها) فغرت بيوتها وخشوم نسائها بعد أن هدها الفاشيون. وبلغ من شدة أسر الصورة في دلالتها عن بشاعة الحرب أن الأممالمتحدة زينت بها قاعتها لجلسات جمعيتها العمومية. وأبلغ صور هذا الأسر تجلت يوم غطوا على هذه اللوحة يوم جاء كولن باول بنذر الحرب ضد العراق يفح بها من تلك القاعة. فطويت الصحف وكسرت الأقلام. وتعلق قلبي ببعض من عرفتهم من خلال هذه النافذة إلي يومنا هذا. وأولهم الفتى الشهيد الناقد الإنجليزي كريستوفر كولدويل. وقضى الفتى نحبه في الحرب التي جاءها متطوعاً في 1936 ومات بعد شهرين من بلوغه ساحة الوغي. وبكيت دائماً على ما لم ينجزه هذا الشاب الولعة. فقد ترك فينا كتب ثلاثة دالة على وسامة باكرة هما "الوهم والحقيقة" و"دراسات ومزيد دراسات في ثقافة في النزع الأخير" و"أزمة الفيزياء". وتناول كولدويل علم النفس الفرويدي بنظر ما يزال مرجعاً للراغبين. وأما الرجل الآخر فهو جورج أوريل الذي اشتهر ب "مزرعة الحيوانات". ولكنني معجب به لكتابه الآخر عن الحرب الأهلية الأسبانية وهو "وداعاً كتلونيا". وقد خرج من الحرب الأهلية الأسبانية بانطباع سيء عن الشيوعية والشيوعيين انعكس في كتاباته اللاحقة مثل "1984" الذي أذرى فيه بدولة ستالين السوفيتية بطريقة ما حصلت. ولكنني محب للرجل ولو انطبقت الأرض. وأعود في يوم السبت احدثكم عن كيف وقاني تعلقي بأسبانيا ثلاثينات القرن الماضي من تجميد تاريخ أسبانيا في محنة الأندلس كما يفعل بعضنا بصورة تجعل أسبانيا ما بعد الأندلس وهم واهمين. كما احدثكم عن رفيقي آبي أشروف وجيله الأمريكي من ذوي القضايا عابرة القارات والحمية التي لا يخمد لها أوار. طبت حياً وميتاً يا رفيق.