رأيت أول ما رأيت ساقي اليسرى مرفوعة على حافة السرير وملفوفة بمادة بيضاء سميكة، حاولت النهوض للتحقق مما يجري، لم أستطع، لا يمكنني، مستحيل!. لم أكن أشعر بأي ألم برغم أنني في اللحظة التالية مباشرة أكتشفت أن ثلاثة أرباع جسدي مجبص. وبالرغم من كل ذلك لم أشعر بألم ممض كما أنني لا أذكر ما حدث لي قبل أن تخبرني المرأة الطيبة البدينة التي وجدتها بغتة تجلس بجانبي!. قبل أن أفيق كلية من غيبوبتي بثانية واحدة تشتت الصور في خاطري. طغى على المشاهد الغريبة المرعبة وجه حبيبتي "فيولا" الجميل ثم تترت مشاهد المأساة والحيرة!. المرة الأخيرة قبل الحادثة مباشرة كنا نتسامر على شاطيء دبي الشهير جي بي إر. شواطيء مدينة دبي/الإمارات نفحات من الفراديس في بلاد يطوقها الأمن والسلام من كل ناحية. وكنا أنا وفيولا في منتهى الإنسجام والحميمية، كانت فيولا، لا تنظر ناحية البحر الرقيق الصافي، بل في عيوني كي تقرأ البورصة لتدفع بكلما تملكه في الدنيا وديعة عندي: روحها الشفيفة وقلبها الذي ينبض بالحياة بينما هي تهب جسدها كله للظمأ!. كنا في غاية الإنسجام في الحركة والسكون، غير أن فيولا اشتكت ذلك المساء ثلاث مرات من أنني أوجه ناظري أكثر ناحية البحر دون عينيها: "أنت عاص، انظر هنا في عيوني، كن مطياعاً لأوامري، انظر هنا في عيوني دعك من البحر"!. الآنسة "فيولا ألفيرا" في غاية الجمال والوعي الإنساني والإتساق الروحي، من أب إيطالي وأم أثيوبية. ولدت بمدينة دسيي الأثيوبية وعاشت النصف الأخير من حياتها متنقلة بين نابولي الإيطالية ودسيي حيث ما تزال تعيش والدتها وأخ واحد من أب من دبرسينا بالجوار أرتبط بوالدتها بعد إنتهاء علاقتها بالسيد ألفيرا الذي كان يعمل باليونيسكو لعدد من السنين بمدينة دسيي الأثيوبية. كانت فيولا في الخامسة والعشرين من العمر عندما ألتقيتها أول مرة قبل ثلاث سنوات خلت في إحدى رحلات الخطوط الجوية الألمانية "ليفتهانزا" التي كانت في طريقها إلى أديس أبابا. لم نلتقي بعدها أبداً وجهاً لوجه إلا هذه الأيام في دبي وفق ترتيب مسبق. كنا بين الفينة والأخرى نتواصل عبر الوسائط السايبرية ونتحدث قليلاً أو كثيراً ونتبادل كلمات الغزل التي كثيراُ ما كانت وقحة بطريقة ودية تروقنا معاً. فيولا تنطوي على عقل منفتح و روح شديد المرح نادراً ما توفرت لإنسان هذا الزمان. كما هي فتاة حرة، تفعل كل شيء وفق قناعاتها الذاتية وما يمليه عليها ضميرها وحدها بلا رقيب. أخذت مفتاح غرفتي، ساعدني عامل النظافة البنقالي الأسمر النحيف القصير في حمل حقائبي إلى غرفتي بفندق "جراند ملينيام دبي" الواقع في منطقة البرشا بالقرب من مجمع الإمارات مول . أستحممت وصففت شعري وتعطرت بخير ما عندي ونزلت إلى مول الإمارات حيث كانت تنتظرني فيولا التي وصلت إلى دبي عدة أيام سابقة قادمة من نابولي كما هو معلوم لدي. الأمور ليست دائماً كما تبدو أول مرة!. كانت فيولا تتظاهر بالعادية المزيفة وأنا أفعل مثلها عندما قبلتها ثلاثة مرات، مرة واحدة على خدها الأيمن ومرتين على خدها الأيسر. كان هناك بعض القلق، القلق المعتاد في مثل تلك الحالات، قلق التوقعات المتناقضة الشهية والإحتمالات العديدة المبهجة والأخرى المحبطة. إنه اللقاء الأول الحاسم وفق ما نضمر معاً ونخبيء في الأعماق السحيقة التي نحاول جهدنا أن لا ندعها تتكشف قبل أن تأتي اللحظة المناسبة!. أشعر فيولا تليق بي وكان بالضبط هو شعورها كما تكشف لاحقاً عبر الإعترافات العاشقة التي تترت مبهجة. في مساء اليوم الثاني وعند الساعة السادسة والنصف جاءتني في محل سكني المؤقت جلسنا أربع ساعات بمطعم الفندق. كان ذلك اللقاء أكثر حميمية وسلام. لقد أنقشعت سحب كثيرة في طقس المسافة الفاصلة بيننا وحلت محلها طمأنينة لذيذة يعكرها بين الفينة والأخرى السؤال الحتمي: ماذا بعد!. بعد عدة أيام استأجرنا سيارة خاصة بنا مع سائق من أصول هندية. كنا كل مساء نذهب إلى شاطيء جي بي إر بدبي ونعود الساعة الرابعة صباحاً. في اليوم الأخير، قبل المأساة بعدة ساعات، شرب معنا السائق ثلاثة كؤوس من النبيز الأحمر وأتضح لاحقاً وفق الحيثيات التشريحية الطبية أنه شرب أكثر من ذلك بكثير، أكثر من اللازم، لم نكن أنا وفيولا نعلم كل شيء!. وبينما كانت فيولا في طريقها إلى التوليت جاءني السائق يقول لي أنه جائع وسوف يذهب إلى إحدى المطاعم القريبة، فأذنت له، كما ينبغي، كان لنا كل الوقت فنحن هنا من أجل السياحة لا شيء غير ذلك، أو هكذا كان هدفي الذي أعلم!. غير أن السائق إستغل غياب فيولا وثرثر معي قليلاً ليخبرني أن صديقه الذي يشتغل كعامل نظافة بالفندق الذي نقيم به أنا وفيولا في غرفة واحدة أخبره أن تلك الغرفة منحوسة. "ماذا؟". " الغرفة التي تقيمان بها انت ورفيقتك منحوسة، لقد قتل بها ثلاثة أشخاص في خلال ثلاث سنوات فقط بطريقة غامضة ومريبة". يا للهول!. كان الرجل ثملاً بطريقة غير محتملة!. في طريق العودة إلى مستقرنا بفندق "جراند ميلنيام دبي" كانت السيارة مسرعة وتترنح في الشوارع بلا هدى وفي إحدى المنعطفات بشارع الشيخ زايد إرتفعت السيارة قليلاً في الهواء!. كانت فيولا تستحم بعد ثلاث ساعات من العناق الحميم عندما فتشت محفظتها الخاصة لأول مرة بدافع الفضول. فصدمت بشيء زلزل كياني تلك اللحظة!. لم يكن إسمها هو إسمها، إنها ليست فيولا!. وجدت ضمن الأشياء العادية بطاقة غريبة عليها صورتها ومن تحتها عدة رموز وأرقام وفي الختام، إسمها: آرتي إسبينوزا. وكان هناك رقم تلفون. إطمأننت إلى أن باب الحمام مغلق وأن آرتي مستغرفة في الطمأنينة تحت الماء الدافيء الذي ينهمر بكثافة على جسدها الأنيق. أتصلت على الرقم الذي بالبطاقة من الهاتف الذي يقبع ناحية اليسار من السرير "الدبل". جاءني الصوت من الخلف يرحب بآرتي. إنها آرتي إذن وليست فيولا!. يا للهول!. لم أفهم ماذا قال الرجل في الطرف الآخر غير ترديده لكلمة "آرتي"، فلم أنبس ببنت شفة. أغلقت الخط وأنا أضمر خطة ما للهروب كما الدفاع عن نفسي تجاه قدر لا بد أنه مشؤوم. أتصلت هاتفياً بالسائق الهندي أخبرني أن تلك اللغة هي "العبرية" لا أعرف كيف علم، لكنها لا بد أن تكون العبرية!. ولم يقف عند ذلك الحد بل أخبرني باليقين كله: "تلك الفتاة تتبع للموساد الإسرائيلي"!. لملمت الأشياء الضرورية ونويت الهروب غير أنني وجدت باب الغرفة مغلق بإحكام شديد ولا أستطيع فتحه!. جلست على حافة السرير وجسدي كله يرتعد من الخوف. خرجت آرتي من الحمام بطريقة مباغتة وهي عارية كما دخلت الحمام أول مرة ورشت شيئاً ما في أنفي من قنينة صغيرة بلاستيكية كانت تدسها بين أصابعها، فأصبت من بعدها بلا مبالاة غريبة وقسط لا حد له من السعادة وشرعت أرقص في الغرفة بينما أنا أردد "أنا أحبك يا فيولا، أووه حبيبتي فيولا". بعد عدة دقائق دخل الغرفة بشكل مباغت ثلاثة رجال وإمرأة بدينة وجميعهم يلبسون أبيض ويضعون كمامات خضراء على وجوههم التي لا أرى منها شيئاً غير العيون. مددوني برفق على السرير، كانت الرؤية مهزوزة، اصبحت أرى الشخص الواحد في سلسلة غيرة محدودة من التناسخ الذي يتناسخ بدوره. سمعت آرتي تأمرهم بحسم أن يخرجوا الشعرة الشريرة من دماغي!، لم افهم ماذا تعني، لكن المرأة البدينة أجابتها : "لا تقلقي سيدتي سنفعل كل شيء على الوجه الأكمل، أطمأنك أن العملية ستتم بأمان". قليلاً وأصبحت لا أشعر بشيء ثم سمعت من بعدها أصوات تأتي من البعيد وكأنها الصدى وكأنني تحت الماء. كانت آرتي تقف بجانب السرير مبتسمة تراقب العملية الفظة بشهية في إنتظار ما ستسفر عنه النهايات. وسمعتها لوهلة تقول: "إنه رجل طيب ونحن نحبه ولا نريد به شراً، فقط عليه أن يستجيب للأوامر كلما نأمره"!. ثم صاحت في ذعر "لا لا لا، لا تقتلوه" عندها شعرت بألم رهيف بساقي الأيسر ووجدت جسدي ثقيلاً بدرجة لا تستطيع معها إرادتي تحريكه مها تترت المحاولات، أشعرني جبلاً ضخماً من الفولاذ، كنت في حالة سكون شاملة. لكن في لحظة بعينها كانت عيناي تعملان بطريقة لا بأس بها. حاولت جهدي إستبيان المكان والزمان، كان أمراً صعباً، وبينما أنا أفعل كل جهدي كي أذكر ماذا جرى!، رأيت المرأة البدينة تمد ناحيتي ورقة من صفحتين بينما هي تقول: "الحمد لله يا إبني، ربنا أنقذك من موت محقق، هذا هو التقرير الرسمي". قرأت في التقرير أن فيولا أصيبت بكسر صغير في الحوض وعدة رضوض في أجزاء مختلفة من جسدها وأما السائق الهندي "للأسف" فقد مات في ذات اللحظة بينما أحترق نصف السيارة الأمامي في المنعطف الحاد لشارع الشيخ زايد ناحية جميرا. بعد عدة ساعات أخبرتني الممرضة البدينة الإنسانة الطيبة أن "فيولا" بخير وهي في الجناح الخاص بالنساء بالمستشفى وقد أفاقت من التخدير لتوها كما أخبرتني أنها سألت عن أحوالي بلهفة شديدة، فهاتفتها بصعوبة من على سريري الأبيض وقلبي يخفق بشدة، فصاحت فيولا برفق: "أووه حبيبي"!. محمد جمال.. قصة قصيرة [email protected]