تعد حالة حنوب السودان واحدة من سلسلة حالات دول القارة السمراء ، جنوب الصحراء ، إذ مرت معظم دول الاقليم بمشاكل وصراعات داخلية عديدة ، و كانت معظم سنوات ما بعد الأستقلال تتصف بعدم الاستقرار السياسي و العنف المصاحب له ، مما جعل الخبراء و المحللين يصفون بلدان الاقليم ، بمنطقة حمامات الدم ، لتعدد أزماتها و أنتهاجها العنف كوسيلة ، ولم تشذ جنوب السودان عن هذه القاعدة ، كأحدث دولة على صعيد المسرح الدولى . وتشير مسألة فشل الدول الأفريقية بعد نيلها استقلالها ، أهتمام الباحثين و المختصين ، لتعدد تجارب و أخطاء تلك الدول مما يحتم العودة إلى منصة التأسيس عند التحليل ، و حتمية السؤال الآتى ، كبداية لمناقشة حالة جنوب السودان ، و السؤال الأهم ، لماذا تستقل الدولة ؟ وأحسب أن أستقلال أى دولة ، ليس فعل عرضى يحث دونما مقدمات بل تسبقه مقدمات و مؤشرات عديدة ، منها السياسي و الاقتصادى و الاجتماعى و الأمنى ، كلها تأخذ في الحسبان التحدايات و الامكانات ثم يحدث الأستقلال ، سواء كان بفعل الاتفاق السياسى أو بالنضال الشعبى المسلح أو بالاستفتاء ، و فى القارة الافريقية نماذج عديدة بذلك . و ماتطرحه حالة جنوب السودان ، كحلقة أخرى من سلسلة أعادة أخطاء التأسيس في التراث السياسى الأفريقي ، أى غياب الرؤية الواضحة لمرحلة ما بعد الاستقلال وهو ما حدث في ارتريا في القرن الافريقى ، التى بدروها فشلت في معالجة جراحات النضال و الأستثمار الجيد للفرص العديدة التى كان يمكن أن تنهض بالدولة الأرترية بلإضافة إلى العديد من الدول الأفريقية التى شهدت الأمر نفسه . و الجدير بالذكر هنا ، لماذا تفشل الدولة الأفريقية ، هل للأمر علاقة لغياب الرؤية أم لضعف الممارسة و التجربة أو أن الأمر له علاقة بالبعد الاجتماعى السياسى لعناصر مجتمع الدولة . و الأخيرة ستكون موضع تحليلنا فى ها المقال . ففى أفريقيا ، ماتزالت التباينات الاجتماعية هى المحدد الأول لعدم الاستقرار السياسى ، و تنتشر بوضوح مسألة الصراعات العرقية و الأثنية بيت مجتمع الدولة الواحدة مما يؤدى في نهاية الأمر إلى ضعف الوحدة الوطنية ثم أعلاء الولاءات الثانوية ( القبلية ) مقام الولاء الأولى وهو ( الدولة ) ، وتعد أزمة الاندماج الوطنى ( القومى ) واحدة من الظواهر الموجودة بكثرة في مسرح سياسة القارة ، مثل تشاد و مالي . فالقوى الاجتماعية التقليدية ما تزالت هى اللاعب الرئيسى في حلبة السياسة و كثيرا ما تتعارض مصالح تلك القوى مع مصالح الفئات الأخرى داخل مجتمع الدولة أو على الأطار الحزبى ، فضعف الأحزاب الأفريقية و تأثراها بالواقع الاجتماعى السياسى أفضى إلى هيمنة القوى الاجتماعية التقليدية على مسار الحياة السياسية ، ففى السودان ، أدى قيام الاحزاب السودانية على أساس طائفى إلى حالة عدم الاستقرار السياسيى لسنوات ما بعد الاستقلال ، وصاحب صراع تلك القوى التقليدية مع القوى الحديثة من احزاب اليمين و اليسار ، كالأحوان المسلمين و الحزب الشيوعى السودانى إلى التصادم مرة و اللجوء إلى الجيش في مرات كثيرة لحسم الصراع . و تشير مسألة الصراع بين القوى الحديثة و القوى التقليدية حول القيادة مشاكل كثيرة على المستوى السياسى و الاجتماعى ، وقد وضح من التجارب الافريقية و القوى الاجتماعية التقليدية في العلمية السياسية و بما أن مفهوم الدولة الحديثة في القارة لم تتجاوز القرن الواحد ، بالتالى فمن الصعوبة بمكان أنتهاء تلك المعادلة في ظل الفهم الضيق للمواطنة و الانتماء . برغم من التقدم العلمى إلا أن تجلى ظاهرة الأثنية في كل بقاع العالم أمر لا مفر منه إلا أنها تأخذ شكل خاص في الدولة الافريقية التى ما تزال الخصوصية الأثنية فيها أهم السمات الاجتماعية و السياسية لها حيث لا زالت مؤسسات الدولة رهينة للابنية الاجتماعية و الثقافية المكونة لها ، مما يهدد بأستمرار الدولة و سلامة مجتمعها . و فى كثير من دول القارة نجد أثر الأثنية واضحاً جداً في البنى السياسية ، ففى دول البحيرات الكبرى نجد رواندا ، بورندى ، الكنغو ، يوغندا . و كثيرا ما تسمع دعاوى التهميش و غياب التمثيل السياسى العادل في الخطابات السياسية و أدبياتها بالإضافة إلى التحيز المناطقى كظواهر متوفرة و منتشرة ، كحالة نيجيريا ، وتشاد و السودان .ويتفق معظم المحللين أن هذه المشاكل بجانب الفقر و الآمية و الجهل اضافة إلى غياب التنمية المتوازنة و البعد الدينى ، هى المسبابات و المحرك الأول للصراعات على مستوى القارة ، ففى دارفور – السودان عند أندلاع أزمتها في 2003 م ، وجد هذا الواقع أرضية مهيأة ، ثم هنالك رواندا في تسيعنيات القرن الماضى ، وسيراليون ، ليبيريا ، و كثير من دول القارة ، و يؤكد الدكتور آبكر آدم اسماعيل على الترميز التضليلى في الحكم ، كواحدة من اسباب الصراعات في افريقيا ، أستناداً عل حالة السودان . بالمقابل ، بعض دول القارة نجحت بالخروج من هذا المنعطف و الزاوية الضيقة للعلمية السياسية ، كجنوب افريقيا ، غانا ، نيجيريا ، و الملاحظ الجيد لصراع جنوب السودان يدرك أن ما سبق ذكره من تحليل يتوافر شروطه بشدة في الدولة الوليدة . الجنوب ، حروبات الأستقلال بين الكفاح و الانهزام . منذ أن بدأ النضال المسلح في خمسينيات القرن الماضى ، لم تطرأ أى تغييرات كبيرة في الفكر السياسى لنخب جنوب السودان ، فما زال الماضى حاضراً بكثرة في عقول تلك النخب و تجربتها السياسية تقف شاهدة على ذلك ، فحزب الأحرار و الحزب الليبرالى كانا من أوال الاحزاب الجنوبية التى شكلت العمود الفقرى لتنامى الوعى السياسى في الجنوب ، خاصتاً بعد أن فتح مؤتمر جوبا 1947 الباب واسعاً للنخب الجنوبية للمشاركة السياسية ثم تلى ذلك عقد الستينات التى برأى تمثل بداية مرحلة الانشقاقات و سيطرة الفكر الانتهازى الفردى و القبلى و الطائفى كما يصفه ، طيجى مادوت ( سنكارا ) ، في معرض تحليله ، فمع انقسام التنظيمات و الحركات السياسية في الخارج ، من سانو إلى الحركات الأخرى ، جبهة تحرير أزانيا ، حكومة النيل المؤقتة ، جبهة الجنوب بالداخل ، بدأ الوعى الأثنى و الجهوى بالظهور تدريجياً في عقول النخب و تلى ذلك تجارب الانقسامات العديدة لتلك الحركات و التنظميات مع سيادة الانتهازية و غياب تام للرؤية ، إذ كانت تطالب تلك التنظيمات بالفيدرالية و أخرى بالانفصال دون تخطيط مسبق أو أصطحاب العوامل الاخرى في الحسبان ، حتى أتى جوزيف لاقو ، ووحد تلك التنظيمات تحت أدراة واحدة ، حركة تحرير جنوب السودان SSLM ) ) ووقع اتفاقية مع نميرى ، عرفت باتفاقية أديس أبابا ، قم ما لبث أن وقع الجنوب تحت الصراع مرة أخرى و شهد ذلك عودة الأثنية ( القبلية ) و الاقليمية على المسرح السياسيى و فى عقول النخب و تميزت هذه الفترة بالانشقاقات العميقة مما أدى في نهاية الأمر إلى وأد الاتفاقية من قبل مؤقيعها بعد تنامى الصراع و سيطرة خطاب التهميش و التمثيل و الهيمنة على المشهد العام وقتئذاك ، وهو أمر يعكس مدى تأثير الواقع الاجتماعى في البنية السياسية ، و عموماً لست بصدد الكتابة التاريحية هنا أنما محاولة تقديم لمحة عابرة للتأكيد أن الصراع الحالى ليس هو الأول بل سبقه عدة صراعات وأن لم تأخذ مثل هذا الشكل من قبل . و بعد تكوين الحركة الشعبية في 1983 م ، أصدم المؤسيين وحدث صراع دموى ، أنتهى بمقتل القيادات التى طالبت بتبنى خيار الانفصال و رجح خيار كفة التيار الذى كان يطرح خطاب للمحاربة من أجل سودان موحد بدعم من النظام الأثيوبى لظروفها الداخلية أنذاك . و لست بصدد الحديث عن تاريخ الحركة أيضاً و صراعاتها الداخلية بل بيان كيفية تأثير ذلك على الصراع الحالى في بنية الدولة الوليدة . لان عند التحليل يتطلب العودة بالمشكلة لاصولها الأولية و لضرورة البحث عن الحل ، إذ لابد من خلفية تاريخية لرؤية الأبعاد الحقيقة للأزمة الحالية و لتبين الأصول التاريخية لمواقف ما تزال تتحكم في مسار تفكير نخب الحركة . فعند توقيع اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا 2005م ، توقع الكثيرون أن تطوى نخب الحركة التاريخ جانباً و الاستفادة من أخطاء الفترات السابقة من أجل الانطلاق نحو المستقبل ، لكن مع خروج الدولة إلى العلن ، بدأ الخطاء المميت الأول ، وهو عدم التوافق الوطنى ، فى مؤتمر الحوار الجنوبى – الجنوبى 2010م ، الذى انعقد بمدينة جوبا ، تم الاتفاق على أهمية الوحدة الوطنية و ضرورة البدء في عقد اجتماعى لمرحلة ما بعدر الاستقلال وهذا تم بجماع غالبية القوى التى حضرت المؤتمر ، وتم التامين على ذلك ضمن توصيات المؤتمر ، و كانت واحدة من التوصيات تكوين لجنة مؤسعة تضم كل القوى السياسية بالإضافة إلى منظمات المجتمع المدنى ، للأعداد مسودة الدستور لكن الحركة الشعبية نفسها اجهضت حلم التوافق الوطنى و نظرت إلى السلطة و لم تنظر إلى الشعب و مصلحة جنوب السودان ، و هنا كان الخطأ المميت الأول و كما يقول الدكتور منصور خالد أول القصيدة كفر ، حدث الكفر و خرج الجنين مشهوه و غير مكتمل النمو . و في العام 2013م ديسمبر ، انفجر الصراع المميت داخل الحركة الشعبية الحزب الحاكم ، و انتقل ذلك إلى المواطنيين فتم قتل النوير و استهدافهم بجوبا ، نتيجة الخلاف داخل أورقة في سابقة تاريخة أن يقتل مواطنيون عزل بسب خلاف تنظيمى ، مما جعل الصراع يخرج من الأطار الحزبى إلى أطار الثورة الشاملة وانقسام البلاد بين المجموعات المختلفة ، و البعض في خطأ يقرأ هذا الحدث بمعزل عن التاريخ ، فالتاريخ هنا حاضر بقوة ، فسلفاكير أكدد و كرر أكثر من مرة أنه لن يسمح للدكتور مشار أن يكرر أحداث 91م و المقصود هنا حسبما أعتقد تكوينه بجناح مستقل مع رفيقه الدكتور لام أكول و غوردن كونق شول انذاك د قيادة قرنق ، لاسباب داخلية بالحركة ثم ما لبث أن تحول ذلك إلى صراع دموى بين الجناحين ، ذلك الخلاف القى بظلاله على تفكير نخب الحركة بين مؤيد و معارض ، لكن الحركة تؤحدت و حدث الصلح بين قرنق و رياك . فانشقاق الحركة راح ضحيته الالاف من الابرياء و قبل ذلك صراع النخب الجنوبية أدى إلى القاء اتفاقية أديس أبابا ز تقسيم الجنوب لثلاث اقاليم بدلاً عن الاقليم الواحد الموحد المنوصص عليه في الاتفاقية ، ليبدو الحال بعد ذلك أن نخب الحالية لم تتعلم من أخطاء التاريخ ، أنما تستدعى الأحداث التاريخية للحشد و الاستقطاب السياسيى عند الضرورة ، و يقول الكاتب البولندى آدم مهينيك إن الكلمات هة التى تقتل أولاً أما الرصاصات ففيما بعد و برأى أصاب آدم فالكلمات هى التى تبداء دائماً ، و بالشك أن منهج استدعاء التاريخ للفصل في التنافس السياسيى ينم عن فقر معرفى و جهل مركب ، فالحاجة للتاريخ يجب أن تكون من أجل الاستفادة من الاخطاء و لانارة المستقبل و ليس من أجل بعث الخلاف و التدمير و الاصطفاف المصلحى ، لتكرر نخب الحركة اخطاء السودان بالكربون ، فالصراع بين الامة و الاتحادى من جهة و الاخوان المسلمين و الشيوعيون أدى إلى أدامة أزمات السودان لمتتعظ تلك النخب من الاخطاء بل وقع الشعب هذه المرة ضحية ، فالحركة لم تتحول بعد من الشرعية الثورة إلى الحزب السياسيى يمارس العمل السلمى ، بل يغلب تفكير قيادتها على الآحادية في التفكير السياسيى ، فالأزمة الحالية أما هى أمتداد لما سبق حدوثه و نتيجة لغياب الممارسة الديمقراطية داخل التنظيم و عدم اعطا الاحزاب السياسية الاخرى فرصة مزاولة نشاطها للتنافس السياسيى الحر، وقعت الحركة الشعبية في فخ الآحادية بحجة الإرث النضالى ، فالمفكر الأيطالى غرامشى مقولة الكتلة التاريخية ، لتوحيد جهود القوى المختلفة لتحقيق غاية أسمى ، وهذا ما كان يجب أن يحدث . ما هو الحل :- تبدو الحاجة ملحة أكثر من ما مضى للوحدة الوطنية ، بين مختلف الشرائح الاجتماعية و الفاعللين السياسيين ، لكن ذلك لن يحدث دونما عمل . لاسيما أن الصراع الحالى في البلاد ، أخذ في التوسع الداخلى و الاقليمى ، و ليس هنالك مخرج أخر سوى المفاوضات في أديس ابابا ، باعتبارها البوابة التى يمكن ان تعيد الاستقرار للبلاد ، و بالنظر إلى الأوضاع الحالية ، نجد الحاجة المآسة لمشاركة الآطراف المختلفة في العملية السياسية للوصول إلى تسوية شاملة ، ومن أجل الاتفاق على منهج وطنى و معالجة واضحة لمسبابات الأزمة الحالية ، فراوندا بعد المذابح الفظيعة التى شهدتها عادت إلى سكة الاستقرار ، كذلك جنوب افريقيا بعد نهاية نظام الفصل العنصرى ، و سيبريا بعد الحرب الاهلية ، سيراليون . و يقينى أن الأزمة الحالية هى أساساً نابعة من نظام لسفاكير ، فمرحلة ما بعد الأستقلال تتطلب قيادة واعية لمتطلبات بناء الدولة فضلاً عن ضرورة حشد جميع الطاقات الممكنة للعمل دون أستخدام منهج الأقصاء الذى يتبعه ، و العمل على محاربة الأمراض الأسياسية التى تحول دون التقدم ، مقل الفساد بكل أنواعه ، المحسوبية ، و الجهوية و الاقبلية ابالاضافة إلى التركيز نحو القضايا الرئيسية كالتعليم ، الخدمات وهى أشياء بلا شك عجز نظام كير عن تنفيذه منذ عام الاستقلال و حتى نهاية شرعيته ، لحظة كتابة هذه السطور . ز كما أسلفت ، و البلاد تشهد الذكرى الرابعة و لن أقول الأستقلال بل الأستغلال من قبل النظام ، و أركانه ، لم تخرج بعد من الفكرة الضيقة للدولة ، فمع أنتهاء شرعية سلفا اليوم ، يجب أن تكون هنالك حكومة أنتقالية تستطيع ابرام السلام ، و العودة لوحدة الصف الجنوبى ، و يحمد لرياك مشار طرحه السياسيى الوفاقى لمعرفته ان السياسة البناءة هى تلك التى ترتكز على وعى استراتيجى و تتشرق آفاق المستقبل لمصلحة الدولة كلها ، عكس احلاف جوبا الذين يرتكزون على المناورات الانتهازية قصيرة المدى في دنيا السياسية . [email protected]