على افتراضٍ أن فكر ومبادئ ونتاج (الإسلامويين) منذ النشأة قامت على جذور جاهلية صلبة ترجع إلى ما قبل المائة والخمسين عامًا لظهور الإسلام، وبطرح الأدلة العقلية والنقلية على ذلك يتأتى إثباتها. وبعرض نماذج من تاريخها الطويل يإن الوقوف على الكثير من فساد فكر الإسلام السياسي الماثل، وما داعش إلا مرآة مصغرة لانعكاس حقب متراكمة من مظان الفكر السياسي الديني السالف. ونظرًا لأن الجاهلية حسب التصور الإسلاموي الديماغوجي مجبوبة إسلاميًّا لكونها محل تقاطع مع الدين والعقل إلا أنه أُخذ الكثير الغالب من معاييرها أخذ -being taken for granted- على أنها الإسلام الصحيح من خلال الالتفاف عليها برفضها خطابًا واستصحابها تطبيقًا وذلك مرده لأن الطبع الجاهلي متجذر وغالب على التطبع الإسلامي حيث أن الشواهد الثقافية للمجتمعات عمومًا هي اصطحاب أبرز عصور تراثها وتسخيرها كمُحرّك جمعي لثقافتها اللاحقة . تبرز الشواهد على قوة الأثر الجاهلي إبان ثلاثة عشرة عامًا دعا الرسول محمد (ص) سلمًا فيها الأمة الجاهلية إلى الإسلام لم يستجب لدعوته إلا القليل وأغلبهم من غمار الناس الذين هم على هامش العصر الجاهلي، وبعد عشرة سنوات أخرى حروبًا لم تثب الجاهلة إلى رشدها بعد، وبرهان ذلك في أن مجمل المعارك التي خاضها الرسول (ص) وصحبه ضد الجاهليين لم تكن محصلتها الانتصار الغالب لشوكة الإسلام وإنما ظلت كفتا المتحاربين متكافئتين ميدانيًا لتدلل على أن الجاهلية ما زالت شوكتها متأصلة حتى بعد أن شارفت الرسالة على الاكتمال. أما بعد ذهاب الرسول الكريم للقاء بارئه سرعان ما خرجت الجاهلية من عباءة الإسلام أفواجًا ومن دخل من الطلقاء في حيّز دائرتها ألح في الطلب لوراثة دولة نموذجية قامت لأول مرة في عالم وجودهم السياسي المتناحر رغم أنها شُيدت قواعدها بالوحي وأحكمت أركانها بأمراس النبوة المتينة. لا غرو أن السعي بمعاول جاهلية في طلب وراثة دولة السماء لهو خرقٌ بائن وهدم لصروحها وقد تجدد ظهوره في حقبة (الحاكمية لله) الذي سيرد تفصيلها، إذ أيقظ صراعات الجاهلية وتأبط الخطاب الإسلامي بمجمله وأسس لإمبراطوريات جاهلية صرفة اعتمدها التبع الطارف كمرجعٍ تراثي وفكريٍ وسياسيٍ وحيد، وسنعرض لاحقًا نماذج الإمبراطوريات التناسلية الجاهلية المتسلسلة المنسوبة للإسلام حيفًا، كيف قامت لقرون دون أن يكون العدل أحد مبادئها بالرغم من أن العدل هو أحد أهم الفوارق بين الجاهلية البشرية والإسلام الإلهي ، وكيف آلت نهايتها جميعًا على ذات النسق المأساوي ولم تُزرف في شأن سقوطها الداوي غير دموع الإمساك بنسيج الوهم وبكاء الطلل الجاهلي. إن مبدأ التمسك بتراث السلف على أنه صالح جملة وتفصيلا والركون إلى فجر الإسلام اليوتوبيا نشأ لهزيمة فكرية وعسكرية ماحقة فأفرز نوستالجيّة (Nostalgic) وهرولة بائنة إلى الوراء حيث تخطت من شدة الهلع عصر الإسلام ذاته وانتهت إلى معاقل الجاهلية ومضاربها وكل ذلك تواريًا من مواجهة الحاضر بشجاعة يعتمل فيها العقل الفقهي قدراته، علاوة على أن هذه الهرولة البائنة كشفت عجز القدرات العقلية الإسلاموية في إيجاد إجابات تشبع فضول الحاضر المتسارع الوتيرة ، وأما وعلى الجانب المظلم فقد نُحرت صلاحية الإسلام لكل زمكان على مقصلة الاسترجاع والهرولة وهنا انفضح مرة أخرى قصور الإسلام السياسي عامة في إدراك أهم نواميس الإسلام كرسالة رب العالمين للعالمين جميعا، وليست رسالة إقليمية محدودة أو موجهة لأهل قرية بعينها أبَوا أن يستطعموا رسولها. إن شرط فهم الإسلام الصحيح يكمن في كونه دائم الحركة بين إحداثي الزمكانين تمامًا كسنن دوران الكواكب حول نفسها وفي مدارها حول الشمس وفي حركة الشموس والمجرات الدائبة. لقد تم حصر خمس سمات للجاهلية عضّ عليها فكر الإسلام السياسي بالنواجذ على النحو التالي: أولها معيار إزكاء القبلية ويقوم على رفع المنتمي من شأن عصبة الدم على الدين ويتجلى في أدب التفاخر والتقيّد بالتسلسل في النسب، وصمام الحفاظ على مكانة القبيلة يتطلب بالضرورة نفي الآخر الذي خارج القبيلة فتترعرع مشروعية الخطاب العنصري وتفرّخ، أما مكانة القبلية فهي دائمًا فوق كل الاعتبارات الموحِّدة كمفهوم الأمة والوطنية والتراب ومجمل القيم السامية الأخرى وإنما يتم نفي القيم تلك صراحًا باعتبارها أفكار غربية مجلوبة من خارج تراث الأمة وما أنزلها الله في القرآن. إن إزكاء القبيلة يولد مبدأ وراثية الحكم، وهو فرض لواقع مفاده أن ذا المنعة والقوة تأهّل لمقام (الشرف) وبالتالي يحق له وحده خلاف (الآخر) أن يتحكم مطلقًا على الجميع، ليس هذا فحسب بل ويحق له أن يوّرث نطفه السلطة كابرًا عن كابر دون أي اعتبارات أخرى، ولم يدر بخلد فقهاء الحقب مطلقًا كيفية تولية والي على أحد أمصار الكرة الأرضية خارج تخوم الجزيرة إذا كان من غير هذه النطف حال قيام دولة الإسلام فيها، رغم أن التراث الفقهي الافتراضي في ما يخرج من بين السبيلين لوحده قد ملأ مجلدات ضخمة رُدِم بالكثير منها نهر دجلة إبان غذو جنكيز خان لإمبراطورية داعش الثانية. اقتصاد النهب: وهو اقتصاد سلبي استئثاري لا يقوم على إنتاج معلوم ونماء مشهود وإنما يعتمد على ما يملكه (الآخر)، وآلته العنف المتمثلة في الغارات والسبي والرق والاغتصاب ونهب خيرات الآخرين دون وجه حق. إهمال العقل، إنه متى ما توفّر عنصر النوع المميز -نظرية الجنس الآري- توارت كل قدرات العقل من علم وعمل منتج ومعرفة ووعي وتم تسفيهها وتصنيفها خارج القدرات الإنسانية ومعاييرها واستُعيض عنها فضلاً عن الشرف بالفراسة والطيرة والشؤم والنحس والحظ والتخبط والتكرار والماورائيات. قانون المحاباة المكيالي وهو قانون جاهلي بامتياز وذلك في اعتماده على معيارين كقسطاس، قانون معطّل وهو مفصل لسُرَاة القوم وأشرافهم وأفراد القبيلة وهم فوق القانون وذلك بحق فيتو الجاهلية العام، وقانون فاعل مفصّل للعامة والرجرجة والدهماء وهو ناجز وماضٍ وصارم دون رأفة، الحديث: (إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد). الانتقاص من المرأة، نظرًا لغياب دورها في الحروب والغارات عماد الاقتصاد وصمام البقاء وتأخرها فيمن تأخر في حمل سارية الشرف فتأتي المرأة في الدرك الأسفل في السلم الاجتماعي بعد العبيد وقد بلغ الفهم العام الجاهلي من بغضها بأن ساواها والعدو في مرتبة واحدة واعتُبرت خائنة للعشيرة لأنها بعد سبيها تتحول إلى مخزون محاربين للأعداء ومن هنا كان مشروع قمعها راكزًا عبر العصور وما فكرة وأدها التي لم تخطر بمخيال أي أمة من الأمم الأخرى من لدن أول البشرية وإلى يومنا هذا إلا محصلة تجارب جاهلية نوعية، كما وظل على الدوام أن من أقسى أنواع الانتقام من العدو هو اغتصاب نسائه والتسرّي بهن. إن مفهوم العيب واللفائف الكثيفة التي ضربت على جسد المرأة ما هي إلا عادة جاهلية تم تمريرها تحت عباء الإسلام بكل سلاسة وجرأة. في المقال التالي –بمشيئة الله- سيتم عرض تاريخ الإمبراطوريات الجاهلية يليه نظرية (الحاكمية) ومراميها. آدم صيام [email protected]