هكذا أنقضت أيام رمضان سراعاً بعدما أنعشت أرواحنا بتلاوة أي الذكر الحيكم طرفي النهار وزلفاً من الليل وعمرت المساجد بالصلوات من فريضة وتراويح وتهجد أو قيام. وبهذا انطوت صفحة من مواسم الخير والرحمة والغفران ونحن إذ نودع هذا الشهر الفضيل والأيام والليالي المباركة نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال وأن يعتق رقابنا ورقاب والدينا وأزواجنا وذريتنا وجميع المسلمين من النار وأن يصلح حال الأمة الإسلامية والعربية ويحقن دماءهم ويصرف عنهم الفتن والمحن والحروب وأن يولي عليهم خيارهم ويصرف عنهم شرارهم إنه ولي ذلك والقادر عليه وأن يجزي عنا نبينا وشفعينا وحبيبنا ورسولنا الكريم محمد بن عبد الله بخير ما يجزي به نبياً عن أمته وأن يصلي ويسلم ويبارك عليه في الأولين والآخرين فقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة حتى تركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ونحن على ذلك من الشاهدين. وإن كانت الأرواح قد تعلقت بأسباب السماء في رمضان فقد أهلها أيضاً موسم عظيم آخر هو عيد الفطر المبارك الذي ينبغي أن توصل فيه الأرحام وتزال الضغائن وتفتح صفحات جديدة بين الناس حتى يتأهبوا لمواسم الخير القوادم بإذن الله؛ فها هي حياة المسلم تسير من موسم إلى آخر وهو في كل الأحوال ينتظر الرحمة والغفران من رب السماء والأرض الذي لا تنقطع آلاؤه ولا تنفد خزانه بل كل يوم هو في شأن يكلأ عباده برحمته وعنايته جلا وعلا جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولداً ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم، له الثناء والحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه. وكلما حل العيد نجتر ذكريات الأيام الخوالي حين كان الناس في ديارنا على قلب رجل واحد أخوة متحابين لا يفرق بينهم أمر عارض ولا لعاعة دنيا ولا سياسة ولا مطامع يسعون إليها بل هم إخوة كأنهم قد خرجوا من رحم واحدة. فما زلت أتذكر في مثل هذه الأيام كيف كان الناس يستعدون لاستقبال العيد معنوياً قبل أن يكون الاستعداد مادياً فيعود الغائبون من كل بقاع السودان إذ لم تكن هنالك يومئذ هجرة ولا اغتراب وغاية ما في الأمر أن يذهب بعض الناس إلى الصعيد بحثاً عن لقمة العيش في أبو قرود أو غيرها من الأماكن وبعودتهم يجتمع الشمل وتكتمل الفرحة وكأنهم قد عادوا إلينا من كوكب آخر فقد كانت النفوس طيبة والقلوب ملؤها المودة والتآلف والإخاء الذي لا تشوبه شائبة ولا يعكر صفوه شيء ولذلك كانت النعم تنهال علينا من أمطار غزيرة وخير وفير ورزق مبارك يكفي ويزيد عن الحاجة فلم يكن هنالك حقد ولا تباغض ولا تنافر ولذلك كانت الحياة حلوة ولها معنى. في صبيحة العيد كان أهل القرية يخرجون إلى مصلى العيد في أزيائهم البيضاء ومنهم من يأتي من القرى المجاورة من الفولة والمقران وأم حامد والحمرة وهم يرددون "الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد" وبعد أن ترتفع الشمس قيد رحم وأكثر ينطلق صوت الفكي مهدي ود اللازم أو الفكي الأمين ود شبو، رحمهما الله، بتلك النبرة الشجية وهو يعظ الناس ويذكرهم بما ينبغي فعله في مثل هذا اليوم العظيم فيبكي من يبكي وينصت الكل بكل خشوع. وبعد أداء الصلاة يعانق الناس بعضهم بعضاً طالبين العفو والسماح بكل أريحية وصدق مشاعر فتطيب الخواطر وتصفى النفوس ومن ثم يتناول الجميع طعام الفطور في شجرة البئر ويذبحون ما يتوفر لهم من بهيمة الأنعام وبعد ذلك يتحول الأمر إلى ما يشبه المهرجان الشعبي فتنطلق زغاريد الفرح وتقلّب الخيل والجمال ويضرب السلاح وينخرط الجميع شيباً وشباباً ورجالاً ونساءً في جو من الفرح يعيد للأرواح توازنها ويروح عنها. ثم يزور الناس كبار السن في دورهم ويتبادلون الدعوات الصالحات مما يردد الناس في مثل هذه المناسبات الدينية العظيمة وعند منتصف النهار يلتقي شباب القرية في "سيالة أم حسين" وهم يشدون بأنغام الجراري ويلعبون حتى ينقضي اليوم دون أن يعترض أو ينكر عليهم أحد إذ أن ذلك من الطرب المباح ترويحاً عن النفس حتى إذا جن عليهم الليل تحولوا إلى مكان الميس "المدى" ليواصلوا الفرح حتى الساعات الأولى من الصباح وينصرف الجميع منشرح الصدر؛ فيعود على ود جمعة صاحب الصوت الرهيب ومجموعته إلى الفولة ويقود أرنعوط شباب أم حامد إلى ديارهم. وفي ثاني أيام العيد كانت تلك الثلة من الكبار من أمثال عيال الفكي الناير وجدنا محمد شلاع وموسى ومحمد ود أبو شناح والحاج عبد المنان ود يوسف وغيرهم يجتمعون عند الوالد في دميرة ويخرج إليهم هو وعلي ود مهدي والسيد ود جودة وضو البيت ود فضل في الأيام التالية؛ أما نحن عيال دميرة فنخرج لزيارة الأهل في القرى المجاورة من الفولة إلى الحمرة والمقران لزيارة جدنا على ود بابكر وبقية الأرحام ومنها إلى أم حامد لنزور الفكي يوسف وآدم ود أرنعوط وعلي ود آدم وغيرهم من الأحباب. وفي ثالث يوم نتوجه جنوباً إلى الفكي التجاني ود يوسف وحامد ود جابر وغيرهم في دميرة التوم ومنها إلى الزرائب لتكتحل أعيننا برؤية الحاج عيسى ود يوسف الذي لم نكن نخرج منه إلا بفائدة وتمتد رحلتنا إلى حلة الفكي حيث نقضي بقية اليوم في حضرة جدنا الفكي الأمين ود عيسى ود الناير وأحياناً نذهب إلى أم خيرين وأم عيدان لزيارة أعمامنا إبراهيم محمد أب شناح وحمد ود عبد الصادق والأهل وقد نقضي معهم يوم أو يومين فهل يا ترى يعود ذا الزمن؟أيام كانت الدنيا صبية وحلوة أما وقد تبدلت الحال والنفوس ولم يعد الوضع كما كان فلا الناس هم الناس ولا طبعهم هو ذات الطبع نسأل الله أن يعيدنا لسالف عهدنا إذ لا يصلح آخر هذه الأمة إلى بما صلح به أولها. ونحن هنا في ديار الغربة نظل نتذكر تلك الأيام فتثير فينا لواعج الذكرى والأشجان ونظل نردد مع أبي الطيب المتنبي قوله وهو يومئذ في بلاط كافور الإخشيدي: عيد بأية حال عدت يا عيد بما مضى أم لأمر فيك تجديد أما الأحبة فالبيداء دونهم فليت دونك بيداً دونها بيد لم يترك الدهر من قلبي ولا كبدي شيئاً تتيمه عين ولا جيد [email protected]