الحكم الوطني افرغ الاستقلال من مضمونه لأنه فشل في ترسيخ قيمه لافتقار الأحزاب السياسية التي تبادلته أي رؤية وطنية وبرامج سياسية لمؤسسية ديمقراطية تنجح في إعادة صياغة السودان بعد الاستقلال بما يحقق التعايش والمساواة بين جهوياته وعرقياته وعنصرياته وأديانه المختلفة حتى تحكمها مؤسسية ديمقراطية وبرامج وطنية تحقق المساواة والعدالة بينها وعدم التفرقة بينها بأي شكل وهو ما لم تكن تملك التأهيل له لأنها لم تكن إلا ملكية أسر طائفية وتهيمن عليها العنصرية العربية والإسلامية ويغيب عنها عمق الرؤية السياسية التي يحتاجها السودان. ولكن من يمعن النظر في هذه الأحزاب التي تعاقبت على الحكم ستين عاما لابد أن تستوقفه ظاهرة غريبة حيث إنها ظلت طوال فتراتها تحت قبضة شخصيات قيادية انفردت بالقرار لغياب المؤسسية الديمقراطية وان هذه الشخصيات هي التي أفشلت الحكم الوطني رغم تميزها كشخصيات تملك الكفاءة ولا يمكن التقليل منها في شخوصها ولكن انفرادها بالقرار غيب النظرة عن الوطن ومتطلباته في تلك المرحلة الحساسة التي كانت تحتاج لمؤسسية ديمقراطية تساوى بين مختلف مناطق الوطن فالأوطان لا تبنى برأي شخص واحد أو مجموعة محدودة منهم. لهذا فإنني لو رصدت مسيرة هذه الشخصيات في هذه الحلقات فان هذا ليس استهدافا أو تقليلا من قدرهم وإنما افعل ذلك لأؤكد على خطورة تغييب المؤسسية الديمقراطية لأنها لو توفرت طوال فترة الحكم الوطني لشكلت صمام الأمان لعدم وقوع هذه الشخصيات فى الممارسات التي أضرت بالسودان لانفرادها بالقرار ولغياب أي وجود لقوى قادرة لتصحيح الأخطاء حيث إن مراكز القرار يحتكرها أفراد أما تحت دكتاتورية عسكرية قابضة على السلطة بالقوة رغم أي مظاهر خادعة تقول غير ذلك أو دكتاتورية مدنية لهيمنة شخصية واحدة على الأحزاب السياسية مما غيب المحاسبة وديمقراطية القرار. هذه الشخصيات يصعب حصرها ولكنى أتوقف مع الأكثر أهمية منها والذين أقدم منهم على سبيل المثال لا الحصر الشهيد إسماعيل الأزهري والشيخ على عبدالرحمن الأمين والسيد عبدالرحمن المهدي زعيم طائفة الأنصار والسيد على الميرغني زعيم طائفة الختمية والبكباشى عبدالله بك خليل و الدكتور منصور خالد و احمد خير وحسن بشير نصر والصادق المهدي ومحمد عثمان الميرغني وعبدالخالق محجوب واحمد سليمان وجعفر نميرى وبابكر عوض الله والدكتور حسن الترابي رحم الله من رحل منهم ومتع الله من بقى منهم بالصحة والعافية وهؤلاء على سبيل المثال لا الحصر لاهميتهم ومسئوليتهم الأكبر فيما لحق بالسودان إنها بلا شك شخصيات مميزة إلا إنها تتحمل جماعيا فشل الحكم الوطني لأنها جميعها ظلت تنفرد بالقرار طوال فترة الحكم الوطني وتلعب دورا سالبا في حقه. وأول هذه القائمة وأهمها بلا شك هو الشهيد إسماعيل الأزهري الذي استحق الزعامة عن جدارة منذ مكنه مؤتمر الخريجين أن يتزعم ويترأس أهم حزب عرفته الحركة الوطنية الحزب الوطني الاتحادي وكان يملك كل مفاتيح الحكم إلا انه ورغم تميزه القيادي تنقصه الخبرة والرؤية السياسية لمتطلبات أول مرحلة لأول حكم وطني تقع على رأس مسئولياته تحقيق التوافق على مستوى الوطن الذي كان عدة دويلات متنافرة عنصريا وعرقيا ودينيا مما يتطلب تحقيق حكم وطني يوفق بين هذه التناقضات ويؤسس بصفة خاصة على مستوى حزب الأغلبية الحاكمة لمؤسسية ديمقراطية تحقق التوازن بين كل هذا القطاعات ولأنه فوجئ بالاستقلال الذي لم تتحسب له أي قيادة في ذلك الوقت لأنه كان وليد الصدفة مما جعل الأزهري تائها لا يملك وحزبه أي رؤية مستقبلية للوطن وهى ذات الفترة التي شاركه فيها الأخطاء التاريخية في حق السودان الشيخ على عبد الرحمن الأمين. فالشهيد الأزهري هو الذي دانت لحزبه أول وأخر حكومة تحققت لها الأغلبية للحكم منفردا في تاريخ السودان وهو الرئيس والزعيم الذي هيمن على القرار منفردا حتى أصبح إمبراطورية قائمة لذاتها فلم يولى التعقيدات التي يعانى منها الوطن الذي يحتاج لتجميعه وتحقيق التوافق بين جهوياته وعنصرياته وأديانه المختلفة من عناصر زنجية وغير سلامية خاصة وانه حقق أغلبيته بشراكة عربية إسلامية مع دولة مصر وتجاهل طبيعة السودان وتناقضاته الداخلية مما فحر يومها تمرد الجنوب الزنجي المسيحي في أحداث توريت وهو ذات الواقع الذي يصعد من تفجير الأوضاع في السودان حتى اليوم بالرغم من انفصال الجنوب. أما على مستوى الحزب فلقد اغفل زعيم الحزب القابض على السلطة منفردا في أن يعمل على إعادة بنائه مؤسسيا ديمقراطيا للحفاظ علي أغلبيته من جهة ولضمان سلامة قراراته بان تكون الحاكمية للقاعدة التي حققت له الأغلبية ولكنه لم يولى هذا الأمر أي أهمية بل تحول نفسه لمصدر خطر على مستقبل الديمقراطية وحربا عليها عندما سخر زعامته المجمع عليها لان ينفرد وحده بالسلطة لدرجة انه شيد أول قبر للديمقراطية عندما ابتدع شعار (لمن يهمم الأمر سلام) وهى المقدمة التي يقدم بها قراراته الشخصية لفصل من يخالفه الرأي في الحزب كما انه رفض احترام قواعد حزبه في الدوائر الانتخابية فكان يصر على فرض من يريد ترشيحه رغم انف قواعد الحزب في الدائرة الانتخابية ولعل ما شهدته دائرة البراري في الخرطوم اصدق مثال يوم فرض عليها ترشح السيد إبراهيم جبريل ورفض لها من اختارته مرشحا لها الشريف زين العابدين الهندي (رحمة الله عليهما) بل وبلغ به الأمر أن يفصل الشريف مرشح القاعدة من عضوية الحزب بتك الكلمات لأنه لم ينصاع لأوامره بالانسحاب لمرشحه هو وكانت الأصوات القليلة التي حققها مرشح الأزهري سببا في خسارة الحزب للدائرة التي وقفت قاعدتها مع مرشحها الشريف فقدم الدائرة هدية لمرشح الحزب الشيوعي احمد سليمان رغم إن حزبه حقق الأصوات التي تفوزه على مرشح الحزب الشيوعي إلا إن عدد الأصوات القليلة التي حققها مرشحه إبراهيم جبريل أفقدت الحزب الدائرة ثم يلغ به الأمر أن يقحم حزب الحركة الوطنية في اخطر جريمة وآدت الديمقراطية في السودان يوما أعلن من موقعه رئيسا لمجلس السيادة انه سيقود المظاهرات ضد البرلمان إذا لم يحل الحزب الشيوعي ويطرد نوابه المنتخبين من القواعد الانتخابية وبهذا أصبح حربا على الديمقراطية في السودان بدلا من أن يحرص عليها في حزبه ليؤمن أغلبيته التي تشتت وتمزقت بعد ذلك بل ويشهد التاريخ انه حل البرلمان ليحرم الصادق المهدي من الجلسة التي كانت ستنصره في صراع الحزبين حتى إن الصادق دعي البرلمان للاجتماع تحت الشجر. بل ظل الشهيد الأزهري زعيم الحزب يتجاهل هيئة نواب حزبه نفسه في البرلمان ويرفض أن يشركهم في تحديد مواقف الحزب في البرلمان مع إنهم هم الذين نالوا تفويضا من قواعد الحزب مما دفع ب 17 نائبا تقدموا للأزهري بمذكرة رسمية يطالبون بإشراكهم في قرارات الحزب حتى لا يكونوا آليات لا رأي لها وهى المذكرة الأشهر في المطالبة بديمقراطية الحزب من نواب لهم الشرعية الديمقراطية. لهذا فان مسلك الزعيم الشهيد الأزهري هو الذي أجهض بناء حزب الأغلبية بناء مؤسسيا ديمقراطياً والذي افرز اخطر انقسام في الحزب والذي تسبب في أزماته التي يعانى منها حتى اليوم بعد إن لم يعد هناك حزب مؤهل لتحقيق الأغلبية البرلمانية وهو الانقسام الذي أقحم الجيش في صراعات السلطة في نهاية الأمر وهنا يأتي دور الشيخ على عبدالرحمن والبكباشى عبدالله بك خليل والدكتور منصور خالد والسيدين عبداالرحمن المهدي وعلى الميرغني وكونوا معي.