السيد النعمان حسن أملى أن تكون فى تمام الصحة وراحة البال. اطلعت على مقالك فى موقع صحيفة "الراكوبة" الغراء، عن تواطؤ الحزب الشيوعي السوداني على الحكم الديمقراطي. وأستميحك عذراً في إبداء ملاحظاتي على ما تطرقت إليه. وبداية أرى أن تناول أي أحداث تاريخية يحسن أن يتم تناولها فى سياقها التاريخي، بدلاً عن المنحى الإنتقائي الذى انتهجتهCherry picking والذى ينتزع الحقائق انتزاعاً حتى يخلص إلى استنتاجات مضللة. فالتطرق إلى تواطؤ الحزب الشيوعي السوداني لاجهاض الحكم الديمقراطي كما يستشف القارىء من مقالك، ينطوي على قدر من الإبهام المتعمد، الذي يشوش على الأجيال الناهضة فهمها لمعضلة الحكم الديمقراطي فى بلادنا. وأعتقد أنك قد وقفت على موقف الجبهة المعادية للاستعمار خاصة بعد إعلان الحكم الذاتي، وقد كان حسن الطاهر زروق صادحاً في حث ممثلي الأحزاب الطائفية في البرلمان السوداني الأول لوضع أسس سليمة للحكم الديمقراطي. لم يكل من المطالبة الدائمة بإلغاء القوانين التى تحجر الحريات السياسية، وخاصة قانون النشاط الهدام، وحق كل الأقليات الإثنية في الحكم الذاتي كحق إنساني وديمقراطي. وواصل عبد الخالق محجوب هذا النهج في كتاباته عن ضرورة استصحاب الديمقراطية السياسية بالعدالة الاجتماعية كأساس للديمقراطية. ولعل مقالته حول التنمية أسهمت في ترسيخ الوعي الوطني بدرجة كبيرة، لا سيِّما، وأن التنمية هى عصب الحكم الديمقراطي كما نعلم. تلك هى المؤشرات الأولية، ولا غنى عنها لكل من يتصدى بالحديث عن موقف الحزب الشيوعي من قضية الديمقراطية. أضف إلى ذلك اسهامه في إدخال أساليب النضال الحديث ووضعها في متناول أيدى الفئات الكادحة من العمال والمزارعين، وربط نضالاتهم المطلبية بالأهداف السياسية الكبرى ومنها تثبيت دعائم الممارسة الديمقراطية. في تقديري إن هذه المقدمة لن يتجادل بشأنها كثير من المعاصرين المُنصفين، وقد رأيت أنها ضرورية كمنهج بديل للقفز من حدث إلى حدث، على أمل أن يبدو الكاتب فى تمام الانصاف والموضوعية. أما عن ما اسميته تواطؤ الحزب مع الحكم العسكري الأول بالمشاركة فى انتخابات المجلس المركزي، ففى نظري أنك أغفلت النظر عن سياق الحدث. وعما أعلنه الحزب الشيوعي حينها بصدد المشاركة فى الانتخابات الوهمية. فمن حيث المبدأ الشيوعيون لا يعارضون مسألة العمل من داخل البرلمانات الرجعية، وهم يستخدمون سلاح المقاطعة انطلاقاً من المنهج الذى رسخه لينين، والقائل لا يقاطع الشيوعيون الانتخابات فى ظل أنظمة الحكم غير الديمقراطية طالما تهيئة لهم فرصة اختيار مرشحيهم، وحريتهم فى الترويج لبرامجهم، والتصدى بالمعارضة الجسورة من داخل تلك البرلمانات الرجعية. ولعله لو اتيحت مثل هذه الفرصة في ظل حكم الانقاذ الحالي، ربما لا يتوانى الشيوعيون عن استخدامها كوسيلة لمعارضته والعمل على اسقاطه. وقد أوشكت كل القوى المعارضة للانقاذ على خوض انتخابات الرئاسة قبل الأخيرة شريطة أن تتاح لهم حرية المنافسة فى ملعب مستوٍ، وهو ما لم تحقق، فإنسحب مرشحونا وفي مقدمتهم رفيقنا الراحل العزيز محمد إبراهيم نقد. أما عن انتخابات المجلس المركزي التى صارت مثل "قميص عثمان" لعلك تذكر أن مرشحي الحزب في الخرطوموعطبرة تصدوا في الليالي السياسية التى تهيأت لهم، بالنقد الجسور للحكم العسكري، وهم مدركين أن الشرطة على أهبة الاستعداد لاعتقالهم. ومامن شك في أنك تذكر أسماء بعض مرشحي الحزب ممن جرى اعتقالهم في عطبرةوالخرطوم. وقد قرأنا حينها أن مرشح الحزب فى منطقة السجانة واسمه محمد محمود الفكي، وهو فقيه كان الصبية يتعلمون على يديه دروس أولية فى مبادئ الاسلام. كان قد تم اعتقاله بعد أن نزل من المنصة مباشرة. فيا أخى العزيز إن تكرار الحديث على طريقة العامة لا يجدى فتيلاً، وأنت مثقف ومناضل لا أتجاسر على تاريخك في محاورة حبية كهذه. بإيجاز شديد هنالك تجارب عالمية، لا بد أن تكون قد وقفت عليها في أمر المشاركة فى مؤسسات الأنظمة الرجعية. فقبل الحرب العالمية الأولى وقف النائب الشيوعي الوحيد في البرلمان الألماني، كارل ليبكنشت معارضاً للحرب التى اندلعت من ألمانيا. وما أن هم بمغادرة مبنى البرلمان حتى إنهال عليه وابل من الرصاص أرداه قتيلاً. وفى دولة اسرائيل أعاد التاريخ نفسه حينما صوت النائب الشيوعى ماير فلنر ضد قرار الحرب. هذه أمثلة يحسن بمن يتصدى لكتابة التاريخ أن يستصحابها في تفسير ما يلتبث من أمور. ثم نأتي على ما ذكرت من أمر تكويش الشيوعيين على مغانم ثورة أكتوبر واطلاقهم لحملة جائرة استهدفت غير الموالين لهم من كبار موظفي الخدمة المدنية. وهنا سوف أحيلك إلى شهادة أوردها الصحفي المقتدر مصطفى عبد العزيز البطل عن الظروف التى طرح فيها شعار تطهير الخدمة المدنية، وخلاصة ما قام بتوثيقة أن الدعوة للتطهير اقترحها باديء ذي بدء المرحوم الدكتور محمد صالح عمر، ممثل جبهة الميثاق الإسلامى فى حكومة أكتوبر، والعهدة على الراوي فيما ذكرت. لكنني أرجو أن تتحرى في الأمر صوناً لوقائع التاريخ من التزوير. أما في ما يخص مايو وما أدراك ما مايو، فقد قرأت كتاباتك حول تداعياتها. والثابت أن المرحوم أحمد سليمان دعا في ديسمبر 1968 إلى قيام حكومة قومية تحت حماية القوات المسلحة. وتصدى بالرد عليه الشهيد عبد الخالق محجوب فى منتصف يناير 1969. تلك كانت إشارة البدء في تواطؤ بعض الشيوعيين المتطلعين للحكم والمزايا، مع القوميين العرب بزعامة رئيس القضاء الأسبق بابكر عوض الله، إلى جانب ثلة من ضباط القوات المسلحة. وتداول تنظيم الضباط الأحرار في أمر القيام بانقلاب عسكري، وقد هُزم مقترح الانقلاب بعد أن صوَّت لصالحه سبعة ضباط وعارضه ثمانية، من بينهم طيب الذكر أبو القاسم هاشم. والشيوعيون بدورهم كانوا قد تناولوا مقترح الانقلاب بعد أن نقل إليهم أحمد سليمان رسالة من بابكر عوض الله بهذا الخصوص. ولعلك تذكر ما تمخضت عنه تلك المناقشات الساخنة، والتى إنتهت برفض الدعوة للانقلاب على الحكم الديمقراطي. ودونك حديث عبد الخالق محجوب عن أن التفكير الانقلابي هو منهج البرجوازية الصغيرة (ومن بينها صغار الضباط)، وأنهم يتسمون بالتأرجح الذى يلحق بالثورة السودانية مزيداً من الألام. وفي نهاية الأمر انتصر في قيادة الحزب الشيوعى، الموقف الداعم لاتباع وسائل النضال الجماهيري الصبور، للوصول الى سدة الحكم. بدليل أن مساعي بابكر عوض الله ومن بعده جعفر نميرى لمقابلة عبد الخالق محجوب لكسب تأييد الشيوعيين للعملية الانقلابية لم تثمر عن ما كان يطمحون إليه، وهو ما شهد عليه بابكر عوض الله نفسه في مذكراته. فهل يا ترى كان على الحزب الشيوعي أن يبلغ السلطة القائمة آنذاك بأمر انقلاب مايو، بالرغم من معارضتهم له؟ إن مثل تلك الخطوة إذا أقدم عليها الحزب الشيوعي حقيقة، لن تنمحي من مضابط التاريخ ومخازي السياسة. نعم اختلف الشيوعيون مع القوميين العرب ومؤيديهم في أمر الانقلاب، ولكن لم أسمع أو أقرأ عن مطالبة الشيوعيين بالوشاية بقوى سياسية، وربما تكون قد وقفت على ما كتبه المؤرخ والمحقق الناجز، بروفسير عبد الله علي إبراهيم في هذا الصدد. أما عن موقف الحزب الشيوعي السوداني من دعوة عبد الله خليل لاستلام السلطة السياسية. فقد أحاطت بها ظروف مغايرة والتاريخ لا يتسلسل كوقع الحافر على الحافر. كذلك فإن ما حدث قبل انقلاب مايو وتداعياته فقد أحاطت به عوامل مغايرة، لا يمكن للمرء أن يتغاضى عنها. ومن الأجدى أن يتم تناولها فى حيزها الزماني والمكاني المعنيين. ونتطرق إلى ما اسميته بدون وجه حق، تهافت الشيوعيين على المغانم. وما أوردته بشأن المناصب الوزارية بعد انقلاب 25 مايو 1969 فوقائع التاريخ شهدت بأن المنقسمين عن الحزب الشيوعي هم من تساقط على مغانم الحكم، وذهبوا لإتهام عبد الخالق زوراً وبهتاناً بالتواطؤ مع اليمين الرجعي، عندما اقترح على الانقلابيين توسيع الماعون السياسى، بإشراك السادة عبدالله عبد الرحمن نقد الله، ومحمد إبراهيم دريج عن حزب الأمة، وموسى المبارك عن الوطني الاتحادي. وحمل الشهيد جوزيف قرنق رسالة من الحزب الشيوعي إلى بابكر عوض الله تحذره من أن الوزارة "شديدة الحمرة" أم كما قالها الشهيد جوزيف قرنق باللغة الإنجليزية Was too red! لكن بابكر عوض الله رفض تلك المناشدة. وهو مشهود له بالإعتداد الشديد بالرأي والصلف والحماقة والخصومة الفاجرة، وتلك صفات استفاض في ذكرها المرحوم على أبو سن في مذكراته المنشورة. أكتفي بهذا القدر – يا أستاذنا العزيز - وسأعود إلى انقلاب 19 يوليو لاحقاً. فشكراً لجهدك في التنقيب في تاريخنا المعاصر، خدمة للأجيال الناهضة. Em: [email protected]