Suleiman Hariga جي دبليو ويلز G. W. Wells ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص لمقال صغير نشر بمجلة "السودان في مذكرات ومدونات Sudan Notes and Records " في عددها رقم 20 الصادر في عام 1937م، عن سليمان حريقة. وقد نشر باحثان بعد هذا المقال مقالين في نفس المجلة عن ذات الرجل (الذي يسمى أيضا سليمان إنقر) ، وذهب أحداهما إلى أن ذلك "الأمير" لا يعدو أن يكون محتالا دجالا ليس إلا، ولم يسبق له العمل في جيش المهدية قط. انظر Sanderos, G. N, Sudan Notes & Records, 35, 1954, 22 - 71 Andrew M. Brockett (1970). Emir Suleyman ibn Inger Abdullah — a further episode. Sudan Notes & Records.51, 47-55 المترجم **** **** أود في البداية أن أشير إلى أن معظم معلومات هذا المقال استقاها الكاتب من الملازم أول علي أفندي صبحي، والذي عمل في الفرقة السودانية السادسة بالجيش المصري، وهو يعيش الآن (أي في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي. المترجم) بعد تقاعده من الخدمة في تلودي. وأتت عائلة علي أفندي من تقلي، حيث إنه كان قد أسر وذهب به لأمدرمان وهو صبي صغير، وألحق بعيد وفاة المهدي بجيش "الدراويش" (وهذا هو لفظ الاستحقار الذي يشير به البريطانيون للمهديين. وكان البريطانيون (كما ذكر لي أحد الثقاة) مغرمون بإطلاق أوصاف الازدراء والاحتقار على مقاوميهم في البلاد المستعمرة فاسموا قائد الثورة الصومالية الذي أوقع بهم (الملا المجنون)! ووصف ونستون تشرتشل في خطاب بالبرلمان المهاتما غاندي بأنه (قرد). وكانت صحيفة (العروة الوثقى) التي كان يصدرها الإمام محمد عبده من باريس تصف أنصار المهدى بالدراويش عند إيراد اخبارهم ، رغم أنها كانت مشايعة لهم! المترجم). وترقى الشاب سريعا فبلغ رتبة المقدم وألحق بقوات الأمير حمدان أبو عنجة التي أرسلت إلى جبال النوبة لتأمين تزويد الجيش المهدوي في أمدرمان بالرقيق والمجندين الجدد بصورة منتظمة. ولما أعلن يوحنا ملك الحبشة الحرب ضد الخليفة عبد الله رافق علي أفندي قائده حمدان أبو عنجة إلى القلابات، وشارك معه في معركتين في قوندار وأم بشر. وكان رئيس هيئة الأركان في جيش خليفة المهدي في كل الحملات ضد ملك الحبشة هو سليمان حريقة. ورجع علي أفندي صبحي من الحبشة لأمدرمان للمشاركة في حرب أخرى، ثم التحق بعد ذلك بسنوات بالجيش المصري. وكان علي أفندي صبحي عند زيارة جورج الخامس ملك بريطانيا عام 1912م لشرق السودان في رتبة "الجاويش"، وتم اختياره ليحمل شجرة الجميز الصغيرة التي قام الملك بغرسها في سكنات. وتمت ترقيته لرتبة "ملازم ثاني" في عام 1916م، وتقاعد من الخدمة في عام 1922م ، بعد أن نال وسام الصليب Military Cross مكافأة وتكريما له لخدمته في خلال حملة الحكومة ضد السكان في جبال النجمنق Nyimang Patrol (بين عامي 1917 – 1918م). ونشرت صحيفة الأوبزيرفر البريطانية الحكاية التالية عن علي حريقة في 8/9/1935م: ---- "توفي رجل كان قبل أربعين عاما خلت حاكما على أكبر أقاليم الحبشة، وذلك بعد صراع طويل مع المرض ، في قلعته بالقرب من أوراديا – ماري من أنحاء ترانسلفانيا برومانيا. كان الرجل معروفا باسم الأمير سليمان إنقر (Soliman Inger)، غير أن اسمه الحقيقي كان هو الكسندر إنقر. وهو ابن لأمير نمساوي ، وتلقي تعليمه في مدرسة التدريب العسكري في ترايسكرشان Traiskirchen وفي الأكاديمية العسكرية في مدينة Wiener Neustadt (مدينة تقع جنوب العاصمة فينا). وترك تلك الأكاديمية وهو في رتبة الملازم ثاني ليلتحق بجيش الإمبراطور فرانسيس جوزيف. ثم ترقى لرتبة الملازم أول وكان عمره حينها 24 عاما. ثم نقل الرجل بعد ذلك للعمل في حامية بوسنية صغيرة، غير أن الحياة هنالك لم تعجبه، فتوسط له والده الذي كان يعمل في خدمة الدولة التركية عند عثمان باشا (والذي عرف أيضا باسم نوري أو غازي عثمان باشا، والمشهور بحروبه في القرم ولبنان وبلاد العرب والصرب، ودفاعه ببسالة عن بلافانا ببلغاريا ضد الجيش الروسي. المترجم) فتم إلحاقه بالجيش التركي، وأرسل لمصر ضابطا للمخابرات، ولدراسة حركة المهدي الثورية وخليفة المهدي عبد الله. غير أن الكسندر إنقر هجر الجيش التركي بعد ذلك وفر للسودان وأعلن إسلامه أمام الخليفة عبد الله. وأعجب الخليفة بذلك النمساوي الطويل الوسيم صاحب الشعر الأشقر ، فعينه أميرا على السودان (!؟ المترجم)، وألحقه بالحملة التي سيرها ضد ملك الحبشة. واشترك الرجل في المعركة التي أفلحت فيها قوات المهدية في الانتصار على القوات الحبشية التي كان يقودها نيقس تكلاهايمنوتNegus Tachlehaimanot في قوجام (Goggiam)، وبعدها في غندار، تلك المدينة التي قضى عليها أنصار المهدي حرقا. وغزا المهدويون الحبشة مرة أخرى في عام 1889م, ورغم نجاح الأحباش في صد هجوم "الدراويش" عليهم في البدء في معركة جرت في "المتمة"، إلا أن قتل ملكهم يوحنا الرابع في تلك المعركة أدى لتصدع قواتهم وهزيمتهم في نهاية المطاف. وبعد هزيمة الأحباش نصب الأمير سليمان إنقر نفسه أميرا (حاكما) على الحبشة لمدة ثلاثة أعوام، ولم يسقط حكمه إلا بعد أن أفلح منليك الثاني في توحيد الحبشة. ولما قتل الخليفة في أم دبيكرات في نوفمبر من عام 1899م آب إنقر إلى امبراطورية النمسا – المجر وابتاع لنفسه قلعة بالقرب من أوراديا – ماري وقام بتأثيثها على الطراز الشرقي بتحف ومفروشات ومقتنيات نادرة جلبها من السودان والحبشة ، وبقي فيها مستمتعا بتقاعده. ولما سمع الرجل بأنباء غزو الإيطاليين للحبشة هاجت أشجانه وذكرياته عن شمال شرق أفريقيا فبعث قبل وفاته بشهرين بمذكرة إلى "رابطة الأمم" مطالبا إياها بإعادة تنصيبه حاكما على الحبشة (التي كان قد حكمها لأعوام ثلاثة) عندما تكمل إيطاليا سيطرتها عليها". ----- كانت تركيبة جيش المهدي وتنظيمه عند سقوط الخرطوم في غاية التباين والعشوائية والجزافية. فقد كان المهدي هو القائد العام للجيش، وكان يقسم جيشه لثلاث مجموعات رئيسة – الراية الخضراء، والراية السوداء، وراية "الأشراف". وتحت تلك الرايات الثلاث كان هنالك جنود غير نظاميين من رجال القبائل الذين كانوا لا يحملون غير الحراب والدرقات والسيوف، ويسمون Angaranya (أهي "أم قرنايه"؟ المترجم) وهنالك أيضا "الملازمية" وهم جنود أكثر تنظيما ، ويحملون بنادق نارية ، ولهم رتب وقادة. وتتكون أصغر وحدة من "الملازمية" من 50 رجلا، بقيادة "مقدم" و"وكيل مقدم". وتكون كل وحدتين من هذه الوحدات الصغيرة بيرقا تحت قائد يسمى "راس المية" أو وكيله. وهنالك "الأمير"، ولفظة "أمير" في المهدية لفظة مطاطة لها معان كثيرة، غير أنها في المفهوم العسكري المهدوي تعنى الضابط المسئول عن خمسة من "البوارق / البيارق". وفوق مرتبة الأمير توجد رتبة أخرى غير محددة تماما هي رتبة "القائد". وكان المهدي (والخليفة من بعده) يعرفان ب "راس الجيش". وصار للملازمين في جيش المهدي تسليح جيد، خاصة بعد هزيمتهم لجيش الحكومة في قدير وشيكان وإسقاطهم للأبيض. فقد حصلوا من عدوهم على بنادق ريمنقتون، وأصناف أخرى من الذخائر والبنادق مثل تلك التي كانت تسمى flintlock ومنها "أبو صفرا، وأبو لفتة، وأبو روحين"، وهي من مخلفات الحملات التي كانت تشن لاصطياد الرقيق. غير أن خبرة الجيش في مجالي التكتيك والرماية كانت بخسة جدا. واقتصرت تدريبات ذلك الجيش على عصر الجمعة من كل أسبوع، حين يخرج جمعهم في استعراض لا تزيد فيه جرعة التدريب على القيام بحركات عديمة الفائدة لهجوم وهمي بسلاح الفرسان. وبعد تنصيب عبد الله خليفة للمهدي، أمر بتعيين الكسندر إنقر ضابطا مسئولا عن تنظيم الجيش المهدوي. وقد أحرز الرجل في عمله بعض النجاحات في تعليم وتدريب أفراد الجيش المهدوي البائس التدريب، ولا غرو، فالرجل كان قد تلقى تعليما وتدريبا عسكريا رفيعا، ومارس العمل العسكري من قبل في الجيشين النمساوي والتركي. ويبدو أن أول ظهور للرجل في أمدرمان كان في عام الخليفة عبد الله الرابع في الحكم. وأعلن الرجل عند قدومه للبقعة أنه مصري الجنسية، وأنه سمع بالمهدي وآمن بدعوته، وسمع كذلك بالخليفة، وأنه به من المعجبين، للحد الذي دعاه لفراق الأهل والأحباب والوطن والقدوم للعمل تحت رايته. وسرعان ما استحوذ القادم الجديد على إعجاب الخليفة ونال عظيم اهتمامه، ربما بسبب إجادته للغة العربية، و/ أو ما بدا منه من إخلاص وقدرة على الخدمة (العسكرية)، فأمر بتعيينه مسئولا عن تدريب وتسليح الجيش بأكمله. لم يأت سلاطين باشا على أي ذكر لاكسندر أنقر. وليس من الصعوبة تخيل أن ذلك التجاهل قد يكون مرده قلة التعاطف التي أبداها سلاطين للرجل، أو لرأيه السيئ في شخص زميله ومواطنه الذي فر من موقعه العسكري في مصر (يجب تذكر أن سلاطين نفسه كان مبغضا من كثير من الأوربيين بسبب ارتداده عن دينه وخدمته للخليفة. المترجم). ولعل سلاطين كان ينظر إليه باعتباره مجرد رحالة مُضَلَّل بأكثر مما عُرف عن اوليفر بين (المقصود هو Olivier Pain وهو صحافي فرنسي عاش بين 1854 و1899م، كان قد عرض خدماته للعمل مراسلا حربيا في السودان لصحيفة فرنسية، غير أنه لجأ لمعسكر المهدي، ومرض في تلك الأيام ومات بعد أن طاح من على جمله. المترجم) وكلوتز Klootz الذي فر من الخدمة العسكرية. وبعد مرور وقت قصير على قدوم إنقر إلى أمدرمان قاد الملك أبو عرف ، شيخ قبيلة جهينة في المنطقة الواقعة بين سنار وسنجة تمردا على الحكم المهدوي. وشارك إنقر في الحملة التي سيرها الخليفة للقضاء على ذلك التمرد، وتم إنجاز ذلك دون كبير عناء. غير أن الدمار الذي حاق بالريف في ذلك العهد أجبر قوات "الدراويش" للتقدم جنوبا إلى الحدود الحبشية، والقيام باشتباكات مع جيش الأحباش على تلك الحدود. وقام في تلك الأيام الأمير المهدوي يونس ود الدكيم بالاستيلاء غدرا على قافلة تجارية (مسالمة) مما دعا يوحنا ملك الأحباش لإعلان الحرب على دولة المهدية. وعلى إثر ذلك أتت لأمدرمان تعزيزات عسكرية من جبال النوبة ومن أقاصي غرب السودان. وعين الأمير حمدان أبو عنجة قائدا لتلك الحملة الحربية التي وجهها الخليفة لقتال الأحباش. ورافق سليمان إنقر تلك الحملة رئيسا لهيئة الأركان. وأنزل جنود الجيش المهدوي بالأحباش هزيمة كبيرة في القلابات، ثم تقدموا إلى قوندار وأم بشر. وأنشئت بعد ذلك عدة مخافر لحاميات (Garrison posts) جديدة في شرق السودان، مثل ود الكركر (بالقرب من خشم القربة)، والتي يرجع الفضل في تخطيطها وإنشائها للأمير سليمان إنقر. وفي حملة الحبشة تلك عرف سليمان إنقر باسم سليمان حريقة. ولا يعتقد بأن اسم "إنقر" قد حرف إلى اسم "حريقة" كما قد يتبادر للذهن للمرة الأولى. وللحد من ظاهرة فرار أعداد متزايدة من جنود حملة الحبشة أمر حمدان أبو عنجة بوشم جلد المفصل السفلي لإبهام اليد اليمنى بحرف ج (وترمز لكلمة جهادي). ولا تزال تلك الندبة التي خلفها ذلك الوشم واضحة في يد علي أفندي صبحي. وأفلحت الحملة المهدية ضد الحبشة في السيطرة على مديرية الأمهرا بكاملها. وحاول الملك يوحنا استعادة القلابات، غير أنه قتل في أثناء محاولته الخاسرة تلك، بعد فرار جنوده، وبقيت كل أنحاء الحبشة بعد موته في أتون حرب ضروس بسبب الصراع حول من يرث الحكم بعده. ثم أتى تقدم القوات الإيطالية الغازية نحو مصوع، وسقوطها في أيديهم في عام 1885م. وظل أنصار المهدي يحتفظون بما سيطروا عليه من أراضى الحبشة. وحل الزاكي طمل محل حمدان أبو عنجة، وبقي سليمان أنقر يعمل تحته رئيسا لأركان جيشه. ومن صفات سليمان أنقر الجسدية أنه كان رجلا طويلا وضخما وجذابا، و("يمكنه حمل سلاطين على كتفه" كما يزعم علي أفندي صبحي) وكان أبيض اللون وحليق الذقن دوما. وعند مقدم جيش كتشنر للسودان، كان سليمان إنقر في أرض الحبشة، وظل بها إلى حين مقتل الخليفة عبد الله ، حين آب بعد ذلك للنمسا.