لك الله يا سودان ، فقد غاب الوعي عمّن يحكمونك ، و عمّن يظنون أنهم معارضون ، فقد جفّت أقلامهم و طويت صحفهم. لنأخذ ، مثلاً ، أكبر المعارضين الذين يظن البعض أنهم يمثلون الخلاص بالنسبة للسودان، الصادق المهدي الذي آثر البقاء خارج السودان يتابع أخباره عن كثب ، و قد صدر القرار 2265 لمجلس الأمن و الذي يتيح ضرب السودان حتى من قبل جيرانه تحت شعار الشرعية الدولية ، لم يحرك فيه القرار ساكناً و لم يكتب حرفاً واحداً يحذر فيه الشعب الذي يتحدث باسمه خارج الحدود..! و لنأخذ أيضاً محمد عثمان الميرغني الذي ما عاد السودان و السودانيون يذكرون ملامحه لطول غيابه عنه و عنهم ، حتى ابنه الذي تركه "خميرة" هو الآخر لحق به ، رغم أنه يشغل موقعاً دستورياً في رئاسة الجمهورية ، و لعل الميرغني و أولاده لا يعرفون عن القرار 2265 شيئاً بعكس الصادق المهدي الذي يعرف كل شيء و لا يصدر عنهُ شيء!!.. و لنعد من منافي الصادق و الميرغني ، إلى داخل السودان ، و نذكر المعارضين الذين استوعبهم النظام ، أعلن أحد زعمائهم أن المؤتمر الوطني يصرف عليهم ، فأمثال هؤلاء لا خير يُرجى منهم ..! و نتجاوز هؤلاء و أولئك إلى من انتبذ ركناً قصيّاً من الإسلاميين ، و ابتعد عنهم و واصل عبادته الخاصة ، ما بين أداء الفرائض و صيام الأثنين و الخميس تقرباً إلى الله ، و نسوا واجبهم تجاه الوطن الذي يؤويهم و تربّوا على ترابه ، و المجتمع الذي إليه ينتمون، فمثل هؤلاء كمثل ذلك العابد الزاهد في قرية سادها الفجور و الفساد ، بينما انتبذ هو مغارة ليعبد الله فيها غير آبه بما حوله.. أمر المولى عز و جل بأن يخسف الأرض بهذه القرية ، فلمّا أراد تنفيذ الأمر الإلهي وجد ذلك العابد ، فرجع إلى ربه يقول : لقد وجدتُ فيها عبدٌ ينقطع لعبادتك يا رب ، فكان أمر المولى عز و جل لجبريل عليه السلام أن قال : (به فابدأ..)..فقد رأى المنكر و لم يُنكره ..!! و إذا كان هذا مصير العابد الذي لم يستفد المجتمع من إيمانه ، فكيف يا تُرى مصير أولئك الذين يخوضون مع النظام ممّن يسمّون أنفسهم "علماء" وظيفتهم التأييد لا النصح ؟!! إذا نظرنا إلى الأحزاب السياسية و على رأسها المؤتمر الوطني ، نجدها أحزاباً مصنوعة أوجدتها الضرورة ، فهي أحزاب تخضع لقوانين صانعيها ، فالمصنوع هو من يخضع لقوانين صانعه لا العكس ، فمن ينتظر أن يخرج المؤتمر الوطني ، و إن عزّز نفسه بالشعبي ، فإن مثله كمن ينظر إلى السّراب الذي يحسبه ماءً و يسير طلباً له.. و قد عمل المؤتمر الوطني على تفتيت الأحزاب ، و من سخرية القدر لم ينس نفسه فتفتت هو الآخر ، حتى صار الاتحادي الديمقراطي كقطع غيار السيارات الكورية ، ما بين أصلي و تايواني ، و أما حزب الأمّة فحدِّث ولا حرج ، فزعيمه المعارض و الذي يعيش في المنفى الاختياري نجد ابنه الذي هو من ظهره يتبوّأ مركزاً دستورياً مرموقاً في رئاسة الجمهورية ..!! الإبن في القصر و الأب في المنفى الاختياري ، إفهموها كما شئتم!!.. بلدٌ هذا حال حاكميه و معارضيه السياسيين ، ماذا ينتظر؟؟ أليس هذا شبيه بتلك القرية التي أمر الله عز وجل جبريل بخسفها؟. قال تعالى في حديثه القدسي : (من يعرفُني و لا يخافُني ، سلّطت عليه من لا يعرفُني ).. و هذا ما سيحدث بالضبط ، فالقرار 2265 صدر بالإجماع من مجلس الأمن ، و شارك فيه حتّى أولئك الذين يعتبرهم النظام من أصدقائه المقرّبين!!. أليس عيباً أن يتكتّم النظام الحاكم على هذا القرار؟! و هو الذي حدّد مصير السودان بألاّ يكون؟ أليس عيباً أن يكتب أربعة أفراد فقط عن هذا القرارمحذّرين من الخطر الماحق الذي يحل بالسودان و أهله ، و أيٌّ منهم لا يشغل أي مركز قيادي إلا المسؤولية الفرديّة تجاه الوطن و المواطنين؟ أليس عيباً أن تصمت وسائل الإعلام عن ذكر و لو كلمة واحدة تفسِّرُ فيها القرار الخطير الذي يهدّد وجود أمّة بأسرها ؟ أليس عيباً أن تُصرف كل جهود الوطن في تضميد جراح حزبين مصنوعين هما المؤتمر الوطني و الشعبي ، و كلاهما يدار بواسطة حركة لا وجود لها قانونياً ، أضفت على نفسها ، زوراً ، إسم (الحركة الإسلامية) ، و كأنما الآخرين مشركون ، في حين أن الحراك الإسلامي تمثله أوجه عدة ، منهم المتصوفة و السلفيون و حتى الشيعة وجه من وجوه الحراك الإسلامي مهما كان رأينا فيهم سلباً أو إيجاباً ، فالحراك الإسلامي ليس حكراً على على فئة بعينها و إلا لكان منسوبو الحركة الإسلامية هم المسلمون وحدهم في هذه الدنيا.. لم يمُنّ الله تعالى على الحركة التي تدّعي أنها إسلامية أن يتحدث أي من عضويتها و لو بصفة شخصية عن خطورة القرار على السودان و أهله المسلمين منهم و غير المسلمين ، ألا يوجد بما يسمّى بالحركة الإسلامية أحد ليحدث عن خطر هذا القرار ؟ إنهم يجتهدون الآن لما يسمونه "رأب الصدع" بين مكونات حركتهم ، و الخلافات الشخصية في ما بينهم ، رغم أن الإسلام يدعو الجميع إلى كلمةٍ سواء يحتكمون إليها ، إنهم يحملون مرارات تسبّبوا فيها بأنفسهم ، و كان كيدهم ببعضهم عظيما. كل هذا يقود إلى أمرٍ واحد ، وهو أن الحركة المسماة بالإسلامية خارج الصورة تماماً ، و مشغولة بنفسها بينما الوطن مهدد بقرار أجمعت عليه كل دول العالم. جميع من ذكرت يتآمرون على بعضهم البعض ، الأمر الذي يزيدهم ضعفاً على ضعفهم ، فيستمدُّ الفرعون من ضعفهم قوّة غير حقيقية ، فقوة أي نظام تستمد من قوة معارضيه لا من ضعفهم ، و يعمل الفرعون – متأسياً بما فعل الفرعون"سيد الإسم" بمبدأ الإستخفاف (استخفّ قومهُ فأطاعوه) . هل ممّا تقدم ترون أملاً ، أو بصيص أمل ، سواءً في نظام الحكم أو في معارضيه الذين ضربهم الوهن قبل أن يضربهم النظام؟ هل سيجد الشارع من يقوده كما حدث من ثورات من قبل؟ و الثورة بلا قيادة واعية هي الغوغائية بعينها ، و الغوغائية تفتح الباب للمنظمات الإرهابية كداعش و غيرها ، و التي تجد تشجيعاً من القوى الاستعمارية للتدخل حتى تكون ذريعة لما يسمونه "محاربة الإرهاب" ، فيصيب الدمار ما بقي من السودان.. أليس هذا ما حدث بالعراق و ليبيا و سوريا ، و قد بدأ في تونس ، و يدور الآن في مصر ؟ و هل السودان بعيد عن هذا ، و قيادات معارضته قد تم استئناسها من قبل النظام ، و يصرف عليها من قوت الشعب الجائع؟!! غياب القيادة هو ما يشجع الجيوش على الانقلاب ،و في السودان أُقحِم الجيش إقحاماً في السلطة ، فالحكم العسكري في حالين من ثلاثة ، كان تسليماً و تسلماً ، أما في الحالة الأخيرة فكان وهن الحزبين الحاكمين السبب في استلام المتأسلمين السلطة التي سرعان ما اختلفوا عليها مع العسكر ، فذهبت ريح الأثنين معاً ! و قد تحسّبوا للجيش فأضعفوه ، رغم أنه كان أداتهم لاستلام السلطة ، فكان بديلهم له "الدفاع الشعبي" ، الذي سرعان ما وأده النظام باتفاقية نيفاشا ، فلم يكن أمام النظام إلا ما أسماه بقوات الدعم السريع التي تمثل الغوغائية في أبشع صورها بقاءُ هذا النظام حاكماً هو الخطر الحقيقي على السودان ، فقد قرّر العالم ، كل العالم ، في مجلس الأمن و بالإجماع أن السودان و ليس النظام خطر على السلام و الأمن العالميين !!... و المقصود هنا السودان ، و ليس النظام ، فقد اختزل النظام السودان في نفسه ، و أذاب معارضيه فيه ، فالذين كانوا في المنافي الغربية ، أصبحوا في أحضانه ، بعدما كانوا في أحضان الغرب الذي اعتمد عليهم و زوّدهم بأدوات تدمير السودان ثم قذف بهم في أحضان النظام!! (و اتفوا فتنةً لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصّة) فالفتنة تقضي على الجميع ، و حتى لا تقع يجب أن نتفاداها ، وقرار مجلس الأمن هذا هو أكبر فتنة تلحق بالسودان و السودانيين. فإن وقعت فعلى السودان السلام.. فالذي حدث و يحدث في السودان فتنة يتمنى الطامعون فيه أن تكتمل فصولها على أرض الواقع ليطبقوا ما تأمروا عليه . هنالك أمران يمكن حدوثهما في السودان : إما ثورة غوغاء بلا قيادة ، تسمح لحاملي السلاح و - ما أكثرهم – بنشر الفوضى فيه ، و من ثم تدخل المنظمات الإرهابية كداعش ، و ما هي ببعيدةعن حدودنا ، الأمر الذي يبرر دخول القوات الأممية ، و قد حدث هذا في سوريا و العراق و ليبيا و بذات السيناريو، فهل في السودان من عاقل؟؟ و الحل الوحيد المتاح هو ، كما اقترحت من قبل ، استلام السلطة بواسطة مجلس عسكري مؤقت ، ربما يعارض البعض هذا ، و لكن في مثل هذه الظروف لا يمكن لأي مؤسسة غير الجيش الحفاظ على الأمن ، فالأحزاب السياسية أصبح تأثيرها على المواطن صفرا ، و قد تلاشت و ذهبت ريحها ، و لعل الذي يعارض المجلس العسكري ينسى أن العسكر من ستين عاماً بعد الاستقلال حكموا البلاد اثنين و خمسين عاماً ، و حكمت الأحزاب ثمانية أعوام، و هي من أقحم العسكر في السلطة . و الجيش أيها الإخوة فيه الصالح والطالح ، فهو من أبناء هذه الأمة ، و قد انحاز إلى جانب الشعب في مناسبتين ، فهو منه و إليه ، و إن أخطأ بعض منسوبيه الذين حكموا البلاد بالبطش ، فهذا لا يمثل اتهاماً لجيش البلاد الذي عانى هو الآخر من البطش ، فتارة يستبدل بالدفاع الشعبي ، و أخرى بالجنجويد ، و ما فعله النظام بالجيش لا يقل عمّا فعله بالشعب ، فجيشنا الباسل يعاني ما يعانيه ، فهو منا و إلينا ، و إن كنتم تألمون فالجيش يألم كما تألمون. بعد استلام المجلس العسكري المؤقت ، تتشكل حكومة تكنوقراط ، لبناء ما تهدم من بنيات أساسية بعد إزالة كل مكونات النظام البائد حكومة التكنوقراط تمنح مدة خمس سنوات ، و هي كافية لإعادة المشاريع الإستراتيجية كالسكة حديد و الجزيرة و المشاريع الزراعية الأخرى ، و الكهرباء و توفير المياه للزراعة و الرعي و شرب الإنسان ، و ما قامت أزمة دارفور إلا بسبب عجز النظام عن توفير المياه في دارفور. بعد السنوات الخمس ، سيكون يإذن الله سودان يحفظ لمواطنيه كرامتهم و عزّتهم ، و ستتشكل أحزاب جديدة تتخلص من مومياءات السياسة الذين تجاوزوا الثمانين ، و سيختفي مرتزقة السياسية الذين احترفوها مهنةً يقتاتون منها اللقمة الحرام. و إن كان للآخرين إضافة لهذا المقترح فليتقدموا بمقترحاتهم ، و من له رأي مغاير فليطرحه ، فلكل الحق في إبداء الرأي ، فالخطر يهدد السودان و الأمة بالفناء ، و على أهل السودان صنع مصيرهم حتى لا يفاجؤا بمن يصنعه لهم. [email protected]