* اتسم الصراع السياسي في السودان بأنه صراع على الموارد,التي يتيح استلام السلطة السيطرة عليها, ويجري استلام السلطة بوسائل شتى, تزوير انتخابات أو انقلاب عسكري. * في العهد الاستعماري, كانت الخدمات تقدم بانتظام, بل وكانت الخدمة المدنية الأكثر دقة في العالم, وهذا ورد في كتاب تم نشره في بريطانيا في العام 1948 من القرن الماضي. ورغم ما يشوب الاستعمار من سوء واستغلآل للموارد, الا أن الانتاج كان وفيرآ, وكان هنالك دائمآ فائض في الميزانية, وأدلل على هذا بأنه حين أراد نظام الفريق عبود انشاء خزان الرصيرص, رفض طلب قرض, حسب أمر البنك الدولي, واصر النظام حينها على تشييد الخزان من الموارد الذاتية, وبعد ضغوط شديدة من البنك الدولي, وافقت الحكومة السودانية أخذ قرض ولكنها اشترطت تسديده بعد عام واحد, وهذا يعني فيما يعني أن هنالك فائض ميزانية يكفي لبناء سد ويزيد. * بعد الاستقلال حكم السياسيون عامين فقط , بعدها تم اقحام العسكر في السلطة ولم يكونوا راغبين فيها, فقد كانوا أبعد الناس عن السياسة. وتجربة الحكم في السودان أثبتت أن اسوأ أنواع الحكم العسكري ذلك الحكم المرتبط بالأحزاب العقائدية, أيآ كان نوعها شيوعية كانت أم بعثية أوحتي اسلامية. فالاستيلاء علي السلطة بالقوة المسلحة يعطي منفذه شعورآ بقوة زائفة, لذلك يبدو وكأنه لا يُسأل عما يفعل, وشيئآ فشيئآ تنمو فيه روح الديكتاتورية, وبفعل الساسة الذين استخدموه للاستيلاء على السلطة, يطلقون عليه الألقاب الوهمية, كالقائد الأوحد, والزعيم الذي لا زعيم قبله ولا بعده, أسد افريقيا...الخ. * دخول الجيوش في السياسة يصرفها عن مهمتها الأساسية ، كما أنه يعوق و يؤثر تأثيراً بالغاً على عقيدتها القتالية و يضعفها إلى الحد الأدنى ، و الأمثلة على ذلك كثيرة ، ففي السودان مثلاً تتم الاستعانة بقوات من خارج المنظومة العسكرية لمواجهة الفصائل المسلحة ، و قد كان دخول الجيش في السياسة سبباً في هزيمة 67 و احتلال الجولان ، ثم احتلال العراق ، و في ما بعد احتلال "داعش" مساحات واسعة من العراق . و الآن يتقدم السودان نحو التفكك بذات السبب. * برلمانات صورية, انتخابات معروفة النتائج قبل قيامها, أقل نتائجها تحسب بالتسعات الأربعة. وبذا يترعرع ما يعرف بالسلطة المطلقة والتي هي مفسدة مطلقة دون شك.(الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد) واذا وصفنا الفساد بأنه الوليد غير الشرعي للطغيان لما جانبنا الحقيقة. * ثلاثة انقلابات عسكرية من تدبير السياسيين,الشيء الذي شجع الأحزاب العقائدية على الدخول في عالم السلطة دون عناء وهي الطريقة المثلى بالنسبة إليهم لاستلام السلطة, وقد دخلت البلاد في العام 89 في أول ماراثون من نوعه¬¬, ماراثون الانقلابات, خاصة وقد حمست ناره الأحزاب العقائدية, فكان أن فاز بالماراثون الجبهة الاسلامية, رغم إنكارها في بادئ الأمر. * وقد كانت الجبهة الأسلامية قد أثرت على الشارع السياسي, وملكت قدرة هائلة على تحريكه, مستغلة في ذلك الشعارات الدينية التي ان لم يقبلها المواطن العادي فهو لن يرفضها صراحة, لما للدين من هيبة في الشخصية السودانية.وقد لعب الاسلاميون جيدآ على هذا الوتر. * تصوروا كل الأحزاب السياسية وفي زمن الديمقراطية, تسعي لانقلاب عسكري..!!؟ وهذا يتضح اذا أجرينا احصاءً بسيطآ, فمنذ الاستقلال وحتى يومنا هذا حكمت الأحزاب ثلاثة مرات في ما مجموعه ثمان سنوات, ولم تكمل دورتها في أي منها, فكلها انتهت بانقلاب عسكري, المرتين الأوليين كانتا تسليم وتسلم, اما الثالثة فكانت الجبهة الاسلامية هي من فاز بالماراثون.فتحول انقلابها الى ثوره, وتعريف الثورة في مفهومنا هو الانقلاب الناجح. * المواطن العادي تقبل الوضع الجديد زهدآ في القديم, وقد لعبت الشعارات المعلنة دورآ كبيرآ في قبول الانقلاب, وصبر علي أوقيات من السكر ولقيمات من الخبز تصرف له بالبطاقة آملآ في غد أفضل, ولكن النظام الجديد كان له مشاريع أخري باسم الاسلام, لم يجهد نفسه بتطبيق ما رفع من شعارات, ولو فعل لطبق الاسلام الحقيقي, لم يقدم النموذج الاقتصادي الذي يقنع المواطن بل طبق سياسات اقتصادية كانت بمثابة الكارثة عليه. وصرف ما صرف من أموال طائلة في حرب انتهت بفقدان شباب يافعين وبعد كل الخسائر البشرية والمادية, سلم النظام ما كان يجاهد من أجله طوال هذه السنين سلمه علي طبق من ذهب لمن كان ينعتهم بأعداء الاسلام. وليت الأمر وقف عند هذا الحد, فقد طمعوا في استلام المزيد. * الشعارات الاسلامية المعلنة لم تجد من التطبيق ما يجعلها واقعاً معيشاً,بل بقيت شعارات بلا مضمون, ملها حتي من صاغها. وقد حمل الإسلاميون أشواقاً بلا برنامج وهذه الأشواق مستمدة من التاريخ الاسلامي العريق, الذي ملأ الارض عدلاً بعد أن ملئت جوراً.وذلك المشروع الذي أخرج العباد من عبادة العباد الى عبادة الواحد الأحد, ماذا نرى الآن؟ فرعون أكبر لايسأل عما يفعل, وكهنة ككهنة فرعون يزينون له قبيح أفعاله. * حرب الجنوب التي أهلكت الحرث والنسل, هي الأخرى لم تكن تحمل مشروعآ بقدر ما كانت أشواقآ. ففي تلك الأيام وفي شهر رمضان حدث أن دعا أحد الجيران بعض الأخوة الجنوبيين المسلمين للافطار, وكعادة السودانيين كنا نفطر في الشارع.وبالطبع تناولنا بعد الافطار موضوع الحرب, وقد ذكر لنا هؤلاء الاخوة ما أثار دهشتنا, قالوا لنا أنهم كانوا يحاربون مع الحركة الشعبية, وانهم عند ملاقاة الجيش السوداني كانوا يتحصنون بسورة يس..!!!؟ * مسلمو الجنوب الذين فقدت البلاد خيرة شيبها وشبابها وعلمائها وأكفأ خبرائها العسكريين, لم يكونوا علي علم بما يدور, وحتي مسيحيو الجنوب كان الكثير منهم يحارب الي جانب الجيش السوداني.أي أساس قامت عليه هذه الحرب, وأي مشروع كان من المقرر تنفيذه ان تم حسمها لصالح النظام!!؟ * ومما تقدم يتضح لنا أن الطرح لم يكن واضحآ لا لمسلمي الجنوب ولا لمسيحييهم وإلا لما كانت هذه التناقضات. بل لم يكن هنالك مشروع أصلآ, مجرد شعارات حركت قلوب شباب مخلص, ولكنها وللأسف عطلت عقولهم. ماذا كان الحصاد النهائي لحريق الجنوب؟ تم تسليمه على طبق من ذهب, رغم المخالفة الصريحة للقانون الدولي, الذي تنص إحدى مواده على أن تقرير المصير يمنح للأمم ذات اللغة والثقافة المشتركتين.لم يكن الأمر يحتاج إلى شعارات بلا أهداف ولا مشروع. فالعالم اليوم يخاطب بما يفهم وليس بما يكره ويحارب.وبعد أن سلم الجنوب هل هدأت الأحوال في الشمال؟ كلا بل ازداد الشمال اضطرابآ, وأصبح جنوب السودان أكثر خطورة مما كان عليه ابان التمرد, فقد أصبح دولة مستقلة ومعادية في ذات الوقت,بينما تغلي دارفور والمناطق الثلاثة في الشمال, هذا الى جانب الحروب القبلية التي بدأت في الاشتعال على مشارف الخرطوم. * في منتصف التسعينيات كنت أكتب بعض الملاحظات عما يدور في مفكرتي, ومن هذه الملاحظات أن الاسلاميين مقدمون علي انشقاق خطير, ليس بسبب خلاف عقائدي, إنما على السلطة, وهذا ربما يقود الى تصفيات, وقد حدث الخلاف بالفعل, فاقصي من اقصي, وبقي من بقي مستأثرآ بالسلطة والموارد. وقد نسي الاسلاميون حقيقة مهمة عندما أمنوا جانب المعارضة التي اضعفوها للحد الأدني, وظنوا أنهم انفردوا بالموارد, والحقيقة التي نسوها أن الحياة لا تستقيم دون صراع, وكان منطقيآ أن ينتقل الصراع الى داخلهم, الأمر الذي أفضى إلى صراع مركب ومعقد, صراع بين الاسلاميين, وآخر بين إسلاميي السلطة والعسكر, فقد كان اتفاق اسلاميي السلطة والعسكر مرحليآ, وصراع آخر بين المبعدين واسلاميي السلطه, وبين المبعدين والعسكر. و لأن العسكر يملكون السلطة والقوة كانوا هم من كسب الجولة, الأمر الذي أجبر الأسلاميين المنقسمين على التوحد. وهي دعوة تثير الكثير من الدهشة والتساؤل, لملذا افترقوا وحول ماذا يجتمعون؟هل كان فراقهم بسبب الخروج على حدود الله؟ واذا كان الأمر كذلك فما الذي تغير؟ هل عادوا اليها كي يلتئم شملهم مرة اخرى؟ * المواطن العادي قد خبر كل السيناريوهات هذه, فهو ذات المواطن الذي كان موجودآ وهم متحدين, وهو ذاته من عاش فترة فراقهم, وفي الحالين ما زادوه إلا رهقآ, فمن أجل من يتم توحيد ما يسمى بالاسلاميين, في حين أنهم أقرب إلى التوحد منهم إلى الوحدة؟. إنه الصراع على السلطة والموارد في داخل النظام, وهو أخطر أنواع الصراع, فهو لا يراعي في الأمة الاً ولا ذمة. * يخطئُ الاسلاميون وغيرهم ان ظنوا أن العسكر سيرضخون لمطالبهم,جل ما يمكن أن يناله طلاب السلطة من شظايا الأحزاب السياسية, هو وزارة صغيرة يعيثون فيها فسادآ دون حسيب ولا رقيب,لا يسألون عما يفعلون , طالما لم تمس الذات الرئاسية بسؤء. * في احدى الوزارات تم تخصيص ألف وثمانمائة لتر بنزين شهرياً(تعادل اربعمائة جالون) للوزير ،لأن سيادته أو (سيادتها) "بشتغلو سياسة", ياربي سياستهم هذه كم بستم؟هذه الكمية تصرف لأربعة سيارات تخدم سيادة الوزير أوالوزيرة وما خفي أعظم. * واليوم يعيش السودان بسبب صراع السياسيين والعسكر على موارده, أسوأ حالة تعيشها دولة, فالطمع في الموارد,عرضه للفرقة والقبلية والعنصرية,انعكست الصورة تمامآ, ضعف الأحزاب السياسية اضطرها لأن تلجأ للقبيلة, في حين أن القبيلة هي من كان يلجأ للحزب لينال مكاسب, منها حفر بئر او إنشاء مدرسة او مستشفى, وهذه مطالب تندرج تحت حقوق الانسان الأساسية , وتحقيقها فرض عين على الدولة, وما قامت الأزمة في دارفور الا بسبب المياه. * اختفاء الطبقة الوسطى التي تدير الثورات يجعل أي تحرك شعبي أقرب إلى الغوغائية منه الى الثورة, واهمال الأنظمة الحاكمة لشئون المواطنين, عزز في النفوس الشعور بعدم الانتماء, كما أن كميات لا تحصي من السلاح بيد القبائل والفصائل المتمردة,الأمر الذي يصب في معين الفوضى الخلافة التي خططوها لنا وما علينا الا التنفيذ. * والمخرج العقلاني الذي يجنب البلاد المصير المظلم, يتمثل في الاصلاح, وتكوين حكومة تعيد بناء ما تهدم من بنيات أساسية, كالسكك الحديدية والطرق والمشاريع الزراعية والكهرباء وغيرها, والشعب لا يريد أكثر من هذا. فالسودان غني بموارده والا لماذا يتقاتل على حكمه الساسة والعسكر؟ * وكلمة أخيرة أود أن أذكر بها الغافلين من سياسيين وعسكر ، وهي ان المولي عز وجل فد حذركم في محكم تنزيله ولعلكم تقرأونه ولكن لا تشعرون,(وإن تتولوا يستبدل قومآ غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) صدق الله العظيم. [email protected]