لا أعلم ديوان شعر سوداني تمّت طباعته أكثر من 36 مرة بخلاف "إشراقة" للتيجاني يوسف بشير.. ومع أنّه كان سِفرا يتيمًا كما "سموط" الجاهليّة بفعل المنيّة التي أنشبت أظفارها في ريعان شبابه. ولن أكون مبالغًا إن قلت أنّه لم ينبغ في الشعر السوداني مَنْ بلغ شأوه أو داناه، وأنّ حفاوة السودانيين بإشراقته التي صاغت وجدانهم جعلته بين شعراء السودان بمنزلة المتنبي من ديوان العرب، ويبرهن على ذلك احتفاء جماعة "أبوللو" به في الأربعينيات، واعتكاف كثير من الباحثين والشعراء على شعره قراءة وتحليلا وسبر أغوار، فقد حظي شعره بالعديد من الدراسات باللغتين العربية والإنجليزية ومن بينها "الرؤية والكلمات: دراسة في شعر التيجاني يوسف بشير1984" وكذلك "التيجاني شاعر الجمال" للمصري عبد المجيد عابدين، وكتاب "حياة التيجاني من شعره" لمحمد الحسن علي فضل، وأيضا كتاب "التيجاني يوسف بشير شاعراً وناثراً" لهنري رياض، وغيرها من الدراسات والمقالات. لقد ترك شعر التيجاني علامات واضحة على درب الكتابة الشعرية في السودان، ظلّت كما يقول د. أحمد الصادق: شفرة تعمل بنشاط في درجة الإبداع العالية في صياغة روح ووجدان الإنسان في السودان.. ومثّل تيارًا رومانسيا عميقا؛ خاصة بتجليات الأبعاد الصوفية والوجودية في متون قصائده التي حملها ديوانه الوحيد (إشراقة). لم يكتف ابن حي الركابية بقرض الشعر فحسب بل كان ناقدًا وكاتبًا بمجلة الفجر اللبنانية في ثلاثينيات القرن المنصرم، كما عدّه البعض رائد مدرسة التجديد الشعري في السودان فهو قيثارة الشعر الجديد الذي استظهر من الوجود سرّ متاعه، وهو الأدب الذي ملؤه الحياة والمشبوب بالعاطفة: عبقري من نفحة الخلد مأتاه ومن مهبط الهوى وبقاعه في الينابيع ما يزال غريقاً سابحاً في هدوئه واندفاعه يستمد القريض حراً ويستلهم سحر الجمال من أوضاعه ولم تمنعه معاناة القهر الاجتماعي وداء الصدر، والفصل من المعهد العلمي بتهمة الكفر والزندقة من التغنّي للجمال: عبدناك يا جمال وصغنا لك أنفاسنا هيامًا وحبًا ووهبنًا لك الحياة وفجرنا ينابيعها لعينيك قربى وسمونا بكل ما فيك من ضعف جميل حتى استفاض وأربى كما لم يمنعه من التماهي مع ما حوله من طبيعة حين تغني لجزيرة توتي: يا درة حفّها النيل واحتواها البر صحا الدجى وتغشاك في الأسرّة فجرُ وصاح بين الربي الغر عبقري أغرُ ويحفل قاموس التيجاني الشعري بدلالات الأمكنة وإشراقات الطبيعة والأزمنة وعدد من الحقول اللفظية التي تزاوج ما بين ثنائية شفافية الروح وحركيّة العقل؛ وتأرجحها بين الشك واليقين؛ وتساؤله - على سبيل المثال- عن كنه الذرّة في قصيدة الصوفي المعذب: هذه الذرةُ كم تحملُ في العالم سراً! قف لديها وامتزج في ذاتها عمقاً وغورا وانطلق في جوِّها المملوءِ إيمانا وبرّا كما تجد في ذات السياق كلمات على شاكلة (استأثر باللذة واستبقي جنوني) (الشك إلي فجر يقيني، قضت اللذة فاسترجعها لمح ظنوني).. وبرغم النزعات الصوفية التي نلمحها بين ثنايا شعر التيجاني إلا أنّ الخيال الشفيف والتفكّر أوقد داخله جذوة الشكّ، رغم محاولته الوصول إلى برد اليقين، وكان يحار بين أمرين، أيبكي من جذوة الشكك تلك أم يسر بقبس اليقين ذاك: أشك يؤلمني شكي وأبحث عن برد اليقين فيفنى فيه مجهودي كما أنّه اتهم باعتناق عقيدة وحدة الوجود واستدلوا على ذلك بقوله: إنّه النور خافقا في جبين الفجر والليل دافقًا في الماء صفه رعدًا مجلجلا في السماوات وصوتًا مدويًا في الفضاء أو هدوءًا أو رقة أو هواءً أو صدى للعواصف الهوجاء هو إن شئت محض نار ونور وهو إن شئت محض برد وماء وحين يفيق التيجاني من جذوة الشك المبكية ويصل نعمة اليقين المُفرحة تغشى قلبه السكينة ويترنم مبتهلا: تبارك الذي خلق من مضغة ومن علق سبحانه مصورًا من حمأة الطين حدق شق الجفون واستل من الليل الفلق واستخرج الإنسان من محض رياء وملق ولم تثنه الأوصاب التي اكتنفت حياته عن مخاطبة الشباب وحثّهم على التطواف في مغاني الفرح كما في قصيدة "أنشودة الجن": قم يا طرير الشباب غنّي لنا غني يا حلو يا مستطاب أنشودة الجن من عبقري الرباب أو حرم الفن وحسبنا دليلا على عبقرية التيجاني سيميائية ذلك العنوان؛ المُعلن عن فحواه، وتهيئته القارئ للشعور بعوالم ميتافيزيقية تقف على الوجه الآخر من الحياة، فالعنوان بغرائبيته الإغرائية يتميّز على مستوى البنية التركيبية هنا بحذف المبتدأ (هذه/هي) ويعرف هذا النوع من العناوين والجمل الاسميّة التي تبدأ بخبر "أنشودة" لمبتدأ محذوف أنّه يولّد نوعًا من الغموض على المستوى الدلالي.. وتتصل مفردة الجن - الواقعة من حيث الإعراب مضافًا إليه - من حيث بنيتها الدلالية اتصالا وثيقا بمضمون الرؤى الشعريّة داخل النص، واستحالت مفتاحا دلاليًا للمتن، ويتجسّد ذلك بوضوح في بيت (من عبقري الرباب أو حرم الفن).. فعبقري نسبة إلى وادي عبقر، ويقال إنّه موضع بالبادية تسكنه الجن، وإنّ من أمسى ليلة في هذا الوادي جاءه شاعر أو شاعرة من الجن تلقنه الشعر، وإنّ كل شاعر من شعراء الجاهلية كان له قرين من هذا الوادي يلقنه الشعر.. يقول حسان بن ثابت: ولي صاحب من بني الشيصبان فطورا أقول وطورا هوهْ ومما يسترعي الانتباه في هذه قصيدة "أنشودة الجن" وملفوظها السردي؛ عبقرية تكرار الدلالة الاستلزاميّة للأمر؛ ففعل الأمر هو طلب الفعل على وجه التكليف والإلزام بشيء لم يكن حاصلاً قبل الطلب وفي وقته على جهة الحقيقة أو المجاز، ويتمثل ذلك في أفعال الأمر التي حفلت بها القصيدة والتي تتشعب بين الحقيقي والمجازي: واقطف ليّ الأعناب واملأ بها دني صح في الربى والوهاد واسترقص البيدا واسكب على كل ناد ما يسحر الغيدا وفجّر الأعواد رجعا وترديًدا حتى ترى في البلاد من فرحة عيدا وأمسح على زرياب واطمس على معبد واغشَ كنار الغاب في هدأة المرقد وحدّث الأعراب عن روعة المشهد حيث تتلخص أفعال الأمر الحقيقية في (قم، غنّي، اقطف، اسكب، حدّث، اغش) أمّا الأفعال المجازية فنشير منها إلى (استرقص البيدا، اسكب على كل ناد، فجر الأعود، أمسح على زرياب، اطمس على معبد).. في رأيي المتواضع أنّ لقب "شاعر الجمال" الذي أطلقه عبد المجيد عابدين على التيجاني لا يفصح كامل الإفصاح عن جمالية السبك وحسن المعنى الشعري عنده؛ فذلك "الصوفي المعذب" والذي أنشد ل "الجَنِّ" "ملاحن فيها الهوى" حين "آلمه شكه" يستحق أن يطلق عليه لقب "عبقري القصيدة العربية" بما ملك من دسامة معانٍ، ورؤًى شعرية موغلة في فضاء النص الإنساني. محمد علي العوض [email protected]