السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حسن الترابي : البريق والصدأ ( 6 )
نشر في الراكوبة يوم 27 - 05 - 2016

كانت الأمة في ذهن حسن الترابي هي الأمة الفقهية الهلامية التي تحدثت عنها كتب المؤرخين , ووردت في الموروثات الثقافية الدينية , دون أن يسأل نفسه عن علاقة الأمة بالدولة , وعن القوميات بالدول التي نشأت في القرن العشرين . كان كجميع الإخوان المسلمين يوسع معنى الأمة بنفس حدوده التاريخية القديمة التي انتهت بزوال الخلافة العثمانية في محاولة لإعادتها , وإلغاء الحدود الناشئة بين القوميات العربية والإسلامية بحجة أنها صناعة استعمارية معادية للأمبراطورية العثمانية التركية كآخر خلافة إسلامية انتهت في القرن العشرين . ولذا كان يكافح ومعه جماعته وانقلابيوه في فك الارتباط بين القوميات ودولها , وبين القومية ومعنى الأمة فيها وارتباطها بالدولة التي تعبر عنها وتنمو بداخلها وتتناسب حدودها مع طموحاتها وثقافتها وهويتها . فجماعة حسن الترابي هم أول من عمقوا مسألة الهوية في السودان وشككوا فيها من كل النواحي حتى تلك التي لا علاقة لها بالدين , فأثاروا المسألة الإثنية التي دعتهم إلى محاولة التخلص من بعض القبائل الإسلامية في غرب السودان من أجل قبائل أخرى ظنوها الأقرب من حيث الدم والسلالة والجينات الوراثية ومن حيث التطابق السكاني والثقافي والعروبي . ولما كان علماء السياسية يؤمنون أنه لا توجد دول من دون أمة حاولوا كذلك تفكيك هذه الدولة وصبغها بصبغة دينية ظنوها كافية لتحويلها وتحويل مفهوم الأمة ( السودان ) بها , ولكن الدولة من دون قومية ليس لها فرصة بقاء , وهذه هي النقطة التي يقف فيها السودان الآن من أجل دمجه ببقية الولايات الإسلامية المنتظرة في ليبيا وتونس .... إلخ كأساس اجتماعي للخلافة المزعومة . ولإزالة الحدود , بل ولإزالة الشعوب من أجل الأمة الخيالية التي قرأوا عنها في كتب التراث والتي كانت فكرة لينة لا حدود لها ولم تأخذ شكلها الطبيعي إلا بعد تكوين الدول القومية كبديل تاريخي وواقعي وطبيعي لنهاية عهد الأمبراطوريات الكبيرة التي يحكمها ملك أو خليفة في بقعة نائية في من الكرة الأرضية .
كان قهر الشعب السوداني بأدوات الاضطهاد الأمني هدفه الرئيسي التجهيز للأمة الكبيرة التي يسعى لها التنظيم الدولي للأخوان المسلمين أي إعادة هذا الشعب إلى فوضى ماضوية وفقر أخلاقي وثقافي وعلمي تركته الخلافة العثمانية في كل مكان قبل حلها النهائي في الربع الاول من القرن العشرين . الدولة من دون قومية ليس لها فرصة بقاء , وهذا هو الهدف الذي سعوا له طويلا بإملاءات خارجية كانوا هم على رأسها بحسبان أنهم أول من وصل إلى سلطة كاملة في دولة عربية وإسلامية , ولذلك قاموا بخلخلة النسيج الاجتماعي , وفصل الجنوب , وإدخال عناصر سكانية أخرى غير سودانية , لأن الدولة لابد أن تتحول حسب تصوراتهم إلى دولة أكبر عابرة للحدود تضم أوطان أخرى لا يعترفون بحقها في أن تعيش داخل قوميتها منسجمة مع تكوين الدولة بداخلها . فأزمة الدولة , وشكلها , ووظائفها , وأجهزتها , وأيدلوجيتها , لا تسأل عنها العولمة أو الفيدرالية وإنما عقلية الإخوان الرافضة لفكرة الوطن التي استبدلوها برابطة الدين والخليفة الإسلامي الذي يلغي الحدود ويلغي القومية ويلغي الدولة الوطنية لتسود رابطة الدين والخليفة الذي هو ظل الله في الأرض .
كان حسن الترابي في تفكيره عن الدولة لا يلقي بالا بتاتا إلى تأثيرات العولمة على دولته ( الإسلامية ) كأنه لا يعيش في هذا العصر , ولا يحس بها , ولا يدرك توجهاتها . كان لا يلقي بالا , ولا ينبه حتى أقرب أتباعه إلى أن هناك موجات تهدق إلى خلق سوق عالمي موحد . ولهذا السوق شروط تخترق لب الدولة ( الإسلامية ) , فليس هناك نظام يطبق أبجديات السوق الحر يكاد ينفك من النظام الليبرالي العالمي الذي يعتمد على حرية الفرد الكاملة كقوى أخلاقية مساعدة في التطور الصناعي وحل أزمات الرأسمالية ومضادة لكل أخلاق أخرى اعتباطية مربوطة باحتياجات العالم الآخر وضروراته .وإذا كانت أيدلوجيا الليبرالية قد اسهمت بما لا يدع مجالا لشك متشكك في قيام أعتى أشكال العولمة التي عرفت منذ القرن الثامن عشر وأحدثها فكرة وأساليب وسيطرة فإن الدولة التي أقامها حسن الترابي قضت وقتا ليس بالهين في مكافحة هذه العولمة أو الالتفاف حول شروطها الأخلاقية أو محاولة الاندماج معها وفي نفس الوقت التميز عنها والمخالفة لها تأسيا وراء شعارات قديمة جعلت منها موجات العولمة أو الضغط العالمي بأدواتها فضفاضة لا تخيف المجتمع الدولي ولا تقنع المجتمع المحلي الفقير . وبسبب قوى العولمة فقدت الدولة السيطرة على نفسها مع أنها دكتاتورية مستبدة تنشد الانسجام الداخلي وفقدت قدرتها على الحفاظ على الدولة كنسق موحد من المؤسسات . فالفيدرالية التي أحدثها ليست كل شيء بل التوافق العولمي مع القوى الاقتصادية الخارجية . وبدا الحكم الاسلامي غير متوافق مع الدولة الحديثة المنتسقة مع العالمي , وبهذا فككت العولمة الدولة ( الإسلامية ) وجعلت الحزب الحاكم في أيدي الشركات العالمية والسياسة الدولية , وهذا الخطر كان بعيدا جدا عن ذهنية الترابي المحلية التي كانت تضع الحسابات أكثر للخطر الداخلي من أحزاب كالأمة والشيوعي والنقابات والطلاب . وهي لا تدري أنها في معركتها هذه ومهما انتصرت فستمهد الساحة لمعركة أخرى أكثر شراسة وديمومة وستكون غير متكافئة مع قوى العولمة وأنها ستهزم بصورة واضحة ومعها مبادئ الشريعة .
أول ما فشلت فيه دولة حسن الترابي أنها فشلت في توزيع الثروة والعدالة الاجتماعية بأسس دينية أخلاقية معتمدة على الزكاة أو الضرائب , ولم تجد غير الأسس الرأسمالية الأحدث , ففشلت مسألةالتوزيع المباشر كما كان يتم في دولة المدينة الصغيرة , بل فشل التوزيع المباشر بأسس رأسمالية كما يتم في الدول الأخرى , وانتهت الدائرة الاقتصادية وأصبت تسير في خط مستقيم , فلا تعطي الدولة ما أخذته كتنمية وخدمات , بل يسير العطاء في خط مستقيم لا يعود مرة أخرى للمواطنين , معلنا عن فساد اقتصادي , ينم عن التخلي عن وظائف الدولة في المراقبة والحصر وإعادة ثمرات الإنتاج مرة أخرى حيث يتم إنتاجها مرة أخرى .
الدولة دولة عاجزة لم تستطع تنمية أدواتها الاقتصادية ولا جعل السكان أداة من أدوات الاقتصاد من حيث التوظيف والاستهلاك والانتاج . وأكثر ما منيت به دولة حسن الترابي من فشل أن مبادئ العولمة ومبادئ اقتصاد السوق الحر والمبادئ العالمية والانسانية التي تنظم المجتمعات وإتجاه المجتمع إلى نزعات التنظيمات المدنية والحرية الفردية واكتساح المجتمع إعلاميا وجنوحه الإدماني نحو الصورة والأفكار المصورة تحل محل الشريعة بطريقة جبرية لا يمكن إيقافها . فحسن الترابي الذي ورث الدولة العلمانية ولم يستطع خلق دولة إسلامية خاصة بالإسلام يتورط الآن في مستنقع دولة يمكن أن تبتلع ديكاتوريته والدين الذي حاول أن يفرضه بالقوة المجردة .
ولما كانت الدولة الإسلامية منصاعة منذ البدء لقوى السوق ولا تستطيع المشاركة فيه بصورة كاملة ولا أن تملي عليه أدنى قواعد الأخلاق والقوانين التي تعرفها , فإنها تحولت بفعل سيطرة الشركات التي تقف خلفها دول كبرى إلى أن تكون دولة تابعة حتى لمعسكر ( الكفر ) كالصين , وأن تكون بؤرة منتهبة للمواد الخام بلا قيمة مضافة وتحاول للأسف بكل عزمها أن تحفظ على هذه المرحلة من التصدير بشكله غير المصنع كعلامة على الانصياع والتردد .والدونية .
عندما كان حسن الترابي يرهق نفسه من أجل صناعة الدولة الإسلامية كان أيضا لا يلقي كثير بال وهو يخطط مشروعه الحضاري الثقافي من أجل تغيير الإنسان السوداني كأول شعب مسلم تعاد صياغته وتراجع ذاته ويخترق ضميره الحديث لم يكن يلق بالا لسيطرة تكنلوجيا الاتصالات الحديثة فأهمل صناعة الثقافة السائدة عالميا بوسائل التحريم والمنع والرفض الفقهي والسلفي القديم فأنتج دولة تحيط بها الأقمار الصناعية وهي لا تنتج ثقافة أي لا تنتج دينا ولا تعمقه بوسائل الوجدان والإيمان وتعزيز الأخلاق , فنظر لكل منجزات العصر الثقافية كعدو يجب كبحه وتعقبه ومنعه بوسائل القهر والاضطهاد فهجر دولته صناع الثقافة والمشاعر المكونين أصلا في بيئة إسلامية صرفة . سيطرة تكنلوجيا الاتصالات الحديثة بكل هذه المد الكبير للمواد الثقافية ولتبادل الأراء ولتكوين الرأي العام ولإدخال قطاع عريض من المتعطشين للمعرفة والتواصل سيشكل ( الغول ) الذي سيبتلع دولة حسن الترابي حتى آخر عظم كما ابتلع من قبل المنظومة الشيوعية حتى آخر كادر فيها . فالمسلم الذي وجه له حسن الترابي مشروعه الحضاري القديم صار معولما حتى النخاع , وبهذا فقدت دولته أهم عناصر قوتها وبقائها واستمرارها : الفرد أي الشعب أي أجهزة أمنه وقوته التي تحميه .
دولة حسن الترابي مثال صارخ للدولة الإسلاميةالتي وقعت بأدوات دينية تحت سنابك الهيمنة الغربية التي ستحولها بالكامل في القريب العاجل إلى نمط آخر من الدول المدنية مما يدل على استحالة وجود دولة إسلامية بأطر أخلاقية , فكثير من التراث أخلى الآن طريقه لأنماط ثقافية أخرى , فالهيمنة على دولة حسن الترابي ليست عسكرية وحسب وإنما كذلك أيضا ثقافيه .
الاقتصاد الإسلامي كنتائج لا أثر له في الدولة الترابية , فأنت لا ترى سوى مبادئ التجارة الحرة كما هي في الدولة الليبرالية , والحركة الحرة لرأس المال , وحركة العمال دخولا وخروجا في هجرة لا تتوقف , والخصخصة التي تتسارع كلما خلت خزائن الدولة من التمويل مما يؤدي إلى فشل عام , وتعظيم الربح مع دور ضعيف للشركات في العمل الخيري الاجتماعي والتنموي , وتراكم الثروة لذاتها وليس لدور رأسمالي واجتماعي كتقليل الفقر وإنشاء المشاريع . الاقتصاد الإسلامي أخلاقي ولذلك خلت منه الدولة تماما , ونشأ هذا الاقتصاد أولا في القرآن ثم قوته السيرة النبوية ثم الفقهاء . ولا يتوافق نظام الشريعة الأخلاقي مع الرأسمالية الحديثة وقيمها , ولم تستطع دولة الترابي تحوير قيم الرأسمالية في صالح دولته الإسلامية فكان الفساد هو معلمها البارز من ناحية مؤسسات الدولة , وكان الفقر هو المعلم الثاني من ناحية السكان عصب التجارة والصناعة والاستهلاك . فالذين يكنزون المال و لايقومون بدور اجتماعي به ( ولا يزكونه في إطار دولة إسلامية ) بل يخفون حساباتهم خوفا من المعاقبة والإدانة كما نراه واضحا في طبقة دينية كاملة أقامتها الإنقاذ كطبقة مميزة يمكن أن يكون مقبولا في إطار رأسمالي ولو إلى درجة محدودة ولكنه غير مقبول في نظام الشريعة الديني الذي يرفض الحصول على الثروة من أجل الثروة ويرفض إخفائها وعدم المشاركة بها أو إظهار القليل الزهيد منها في الحالات العامة تهربا ليس من الضرائب كما يحدث في الأنظمة الرأسمالية وإنما تهربا من المساءلة والحساب كما نراه في دولة الترابي التي تخلت عن المعايير الرأسمالية وكذلك معايير الشريعة . فدولة الترابي كما يتضح لنا في كل منحن أشبه بعصابات المافيا التي لا تقوم بأي دور اجتماعي ولا يقوم أغنياؤها بأي عمل يفيد الكافة بل هم دائما وابدا في صراع مع الزمن وفي هروب من أعين المحاسبين والقضاة .
دولة حسن الترابي كدولة إسلامية متحللة مارست الربا على نطاق واسع وأصبحت تعتمد عليه في كل حركاتها وسكناتها في حركة المال العالمية وهو الذي نخر في فكرتها الإسلامية ومحاولة إعادة الدولة الإسلامية التي ليس لها أصلا أي وجود تاريخي , فالدولة الإسلامية المزعومة لم تعرف المؤسسات لا في التعليم ولا في القضاء ولا في السياسة ولم تعرف نظام الجيوش حامية الأوطان بل اعتمدت على جيوش المرتزقة والانكشارية ولم تعرف أي نوع من الديمقراطية حتى في عصور الاقطاع حينما كان الملوك يطلقون أيدي الأمراء في أراض واسعة نظير إتاوة سنوية متفق عليها . وفي الوقت الذي قامت فيه دولة حسن الترابي على البنوك فإنها لم تستطع أن تصنع لها أي مخرج أو طريق وسط بينها وبين الربا بتعريفه الفقهي المعروف . وبينما تدينه شرعيا وفقهيا فهي تعتمد عليه عمليا ونظريا .
لقد حاول حسن الترابي أن يبعث دولة صحراوية أو يقيم دولة إسلامية وسط بيئة عالمية جد غريبة وغير مواتية إطلاقا , لقد حاول أن يقيمها إن جاز القول في نهاية التاريخ , وبعد تصفية الصراعات الحضارية بين الحضارات المعروفة . وبمحاولته هذه نستطيع أن نعرف ونستدل على عدم جديته بل صبيانيته وتلاعبه بمصير وطنه ومصير ديانته , فهو قد حاول أن يقيم هذه الدولة في ظل تحديات دولية عظيمة قامت على نتائج الثورة الصناعية , وعلى ثورات فكرية وعلمية وفلسفية متعددة انتعشت في قرنين بلا توقف , وعلى نتائج ثورة الاتصالات , والثورة المالية الاقتصادية , وجابه بدولته هذه المجتمع الغربي المنتصر على الشيوعية , فقد حاول أن يقيم هذه الدولة التي لا ملامح لها باعترافه هوبنفسه في ظل أجواء يخيم عليها الطبيعية العسكرية لدول فاقت الدول الإمبراطورية القديمة ونجحت في التمركز عسكريا داخل حدود دولته هذه بسلاحها مالها ومنظماتها واتصالاتها , دول لها نظرياتها الاقتصادية وتنفذها عسكريا في كل بقاع المعمورة , وثانيا حاول أن يقيم هذه الدولة الأكذوبة في بيئة يسطو عليها الغزو الثقافي والسياسي العالمي مسلحا بتكنلوجيات ووسائط نقل المعلومات الفورية والقدرة على تغيير الوعي العالمي بقوة ملحوظة هائلة وحشد الدول والشعوب لأي فكرة يشاء ويريد , وثالثا حاول أن يقيم دولته بالضبط في ذلك الوقت المستحيل وسط زخم السوق العالمية والسياسة الليبرالية المؤثرة الباحثة عن الموارد والأسواق والاستثمارات وفي وقت تخلت الدولة عن جزء من سيادتها وعن جزء من خصوصيتها وأصبحت تبحث عن الانسجام مع النظام العالمي الجديد , فأي دولة إسلامية أراد الترابي أن يبعثها واي خلافة إسلاميةأراد أن يقيم . إنها الانقلابات العسكرية .
الشيء الذي سيطر على دولة حسن الترابي ليس الشريعة وليس الإسلام وإنما الرأسمالية المعولمة التي فرضت على العالم فرضا بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي ونظريته في الاشتراكية وتوزيع الثروة والديمقراطية الموجهة , القوى الرأسمالية وأداتها الفعالة ( الشركة ) التي تفصل الأخلاق من القيمة والربح من الخير الجماعي , وهذا المفهوم للرأسمالية كان بعيدا عن تفكير حسن الترابي الذي كان متجها إلى النقود والتجارة فيها وتأسيس البنوك الإسلامية اللاربوية , أما مفهوم الشركة والرأسمالية المعولمة فلن تجد لها أثرا في برامجه السابقة للإنقلاب في 1989 وخاصة في آخر برنامج للجبهة القوميةالإسلامية . وظهر لنا أن الشريعة نفسها لا تتوافق مع الرأسمالية الحديثة , فقد فطن الاقتصاديون إلى أنه لابد أن يواجه أي اقتصاد قومي حديث مصاعب كبيرة في الحفاظ على النمو الاقتصادي وهو يطبق في نفس الوقت قدرا مقبولا من العدالة الاجتماعية والاقتصادية , هذه السياسات خلقت الفقر والتفاوت الشديد في الثروة وجعلت الشريعة أبعد ما تكون عن تحقيق الخير العام ورخاء الشعب وتوزيع الثروة وحتى الزكاة عجزت عن مكافحة الفقر وبناء مجتمع إسلامي نظيف , وبدا أن البون شاسع بين الرأسمالية المتجهة والمحبذة للأرباح والشريعة الإسلامية الباحثة وسط هذه الزخم المالي والصراعات التنافسية المالية في خلق مجتمع مسلم مكتف ذاتيا برافعة إسلامية وفكرة دينية مستقلة . فضعف الحكم وأصبح أقل فاعلية , مما خلق مشكلات سياسية واجتماعية , بل صار معتمدا على المساعدات الخارجية والقروض التي لا تسدد , وبالتالي فقد استقلاله لصالح صندوق النقد والبنك الدولي التي فرضت عليه قواعدها في التنظيم ونوعية الحكم وأحبطت بالتالي أي محاولة لإقامة حكم مستقل وإسلامي .
لم تستطع دولة حسن الترابي أن توفق بين الرأسمالية الحديثة ونزعتها إلى الأرباح وهي نزعة مشروعة ومطلوبة للنمو وبين الشريعة الداعية للعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة والفرص , فخلق الدولة الإسلامية مجتمعا عضوضا وبائسا . من الذي مكن للرأسمالية بهذا المعنى حتى تقضي على أهم أهداف الإسلام في مجتمع التكافل والاكتفاء , إنها فكرة حسن الترابي في الدولة المسيطرة القادرة على تحويل كل شيء إلى إسلامي .
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.