يقول إنه بدأ الآن النزول من الطرف الآخر للجبل في تمهل وهو أمر يجعل التأمل ممكناً في هذه التجربة العجيبة التي تسمى الحياة وتظل لغزا عصيا على الفهم ولكن تُعاش. فنحن لا نعرف كيف جئنا ولا متى نذهب؟ ومع ذلك نجيب من خلال الحياة نفسها، على سؤال: لماذا نحن هنا؟ نحن هنا نحاول كتابة سيرة ذاتية لإنسان عاش أزمنة مختلفة وكان هو ذاته أزمنة للريح والحرية والقلق: "يدافع عن شجر ترتديه الطيور بلادا ومنفى.. يدافع عن بلد خطفته الأساطير.. يقول سنحيا ولو تركتنا الحياة إلى شأننا... فلنكن سادة الكلمات التي سوف تجعل قراءها خالدين". سنان المحاريث يسبق كل ذلك الاسم حيدر إبراهيم علي الرجل الذي يطلق عليه البعض (أيقونة) التنوير في نسختها السودانية، ربما يستعيد كثيرون مقولة الخاتم عدلان إنه لو تبقت لحظة في عمري لأنفقتها في نشر (التنوير) كانت تلك هي رسالة حيدر إبراهيم طوال سنين عمره الممتد ربما كان ذلك من العام 1943 حيث ولد الرجل في منطقة القرير بالولاية الشمالية. هناك حيث تنغرس سن المحراث عميقاً في الأرض لتنبت البذور باخضرارها.. خرج الرجل محاطاً بالطلاسم وواضحاً كما ينبغي للوضوح أن يكون وقالها: جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ولقد أبصرتُ قدامي طريقاً فمشيت. ومن ساعتها يمشي الرجل في طريقه يزيح الأشواك ويتعايش مع تلك التي تعلق بثوبه السوداني ناصع البياض ويواصل في مسيرته دون انقطاع. لم تكن الشهادات التي حصل عليها الرجل لتكفيه وهو الباحث عن حياة ليست مثل الحياة وهو ما دفع به في الثامنة والعشرين من عمره لتستيف حقيبة أمله والتوجه نحو ألمانيا وتحديداً مدينة فرانكفورت، حيث وصل هناك مع بدء مرحلة جديدة في عالم بدأ يفتح أبوابه على مصراعيه أمام اليسار الطلابي وهو يسعى حثيثاً من أجل مواءمة العالم مع رؤية البحث عن عالم بديل يحقق طموحات الشباب القادم من أفريقيا حاملاً رؤى التحرر وباحثاً عن الانعتاق من الإرث الاستعماري. وبالنسبة لابن القرير فإن الأمر يتعلق بضرورة تحصيل شهادة الدكتوراة التي قطع البحار من أجلها وهو ما حدث بالفعل حين انتصر الشاب لمقولته (لقد خلق الأمل لهؤلاء الذين لا أمل لهم)، كانت مرحلة ألمانيا فتحا جديدا وفترة نشاط وتضامن سياسي مع مختلف قضايا التحرر في العالم، ومؤكد أنها مرحلة للاغتراف الأكاديمي للرجل الذي وجد نفسه عائداً في رحلة العودة وفقاً لمقولة يرددها الكثيرون (من نهل من مياه النيل لابد أن يعود ليرتوي مرة أخرى) فما بالك برجل يسكنه النيل. لولا فسحة الأمل من الغربة يعود الدكتور ليكتشف أن الوطن هو منفى آخر وأن الأرض التي حلم بها تضيق الآن بأحلامه وأحلام جيل كامل فلا فرص للعمل وكل ما تقدمه لك أرض الجدود هو أن تطردك وأن تخبرك بضرورة البحث عن واقع جديد للحياة كما أن التحولات الاقتصادية وأن الواقع الاقتصادي لم يعد يسعهم وعليهم البحث عن فرص بديلة. يحكي عن تفاصيل هذه الفترة بطلنا حين يقول إنه في سبعينيات القرن الماضي فكر جدياً في الانتحار، ويمضي: "زاحم فكرة الانتحار في رأسي خياران آخران، وصارت ثلاثية الخلاص عندي، تقول: إمّا الانتحار، أو التصوف، أو الهجرة البعيدة بلا عودة. وبالمناسبة القاسم المشترك الأعظم بينها هو: الموت، فالانتحار موت مادي مباشر، والتصوف انتحار عقلي، والهجرة أن تقتل تاريخا وعمرا سابقين، لتبعث من جديد في الغربة والمنفى المختلفين جذريا عن نسغ وروح الوطن. ويبدو أنني لم أطلق الحياة ولم أيأس يأسا بائنا، وأبقيت شعرة معاوية، وأنا ممانع وراغب فيها، علاقة حب-كراهية في تناولها. ولذلك انتصر خيار الهجرة، وهذا يعني غياب الخيارين الآخرين بلا رجعة".. هي غربة أخرى عقب تجوال متعدد عاد دكتور حيدر إلى السودان الذي بدأ عهداً جديداً في تسعينيات القرن الماضي، الخرطوم التي ضاقت بالرجل في السبعينيات بدت في التسعينيات مثل (خرم الإبرة) تماماً فهي تضيق بكل مختلف عن دعاة المشروع الإسلامي الجديد، لذلك حزم الدكتور حيدر إبراهيم حقائبه نحو منفى جديد.. كانت القاهرة هذه المرة هي المتكأ واستقبلته المحروسة وهي تضج بصخب المعارضة لمشروع الحكام في الخرطوم كانت هي التجمع الوطني وهي الحركة وشوارعها تكتظ بالمثقفين السودانيين وبالباحثين عن مفتاح يحملهم بعيداً عن البلاد التي لم تعد هي البلاد. وكان هناك أيضاً حيدر إبراهيم نسيجا لرجل وحده مختلف تماماً عن الكل يصنع تجربته المختلفة في القاهرة وعند بداية تسعينيات القرن الماضي كان حيدر نقطة التقاء السودانيين وإجماعهم كان يقف خلف مواقفه الخاصة يواجه بأسلحته. الفكر والثقافة والتنوير يقول الصحفي فيصل محمد صالح وهو أحد الذين عاصروا الدكتور حيدر في فترة القاهرة إنه يعرف القلائل الذين نذروا حياتهم من أجل الآخرين وليروا أهلهم في اعلى مكان ولو أن ثمة تمثالا قدر له أن ينهض في سماوات الخرطوم يجب أن يكون لحيدر إبراهيم لا سواه فالرجل بحسب محمد صالح افترع طريق مقاومة مختلفا، فالرجل أنفق عمره يقاوم عبر الكتابة والتنوير، كان سياسياً ومعارضاً ودفع فاتورة ذلك، يقول فيصل إن واحدة من الصفات التي اتسم بها حيدر في حياته هي قدرته على المواجهة وبشكل مباشر وهو أمر أدخله في مشاكل عدة لكنه لم يكن يخاف في الحق لومة لائم فهو رجل لم تكن تستهواه حياة القطيع.. وبحسب فيصل فإن ثمة تماهيا كاملا بين ما كان يعتقده الرجل وبين ما يفعله وبحسب فيصل فإن مساهمات حيدر إبراهيم في مشاريع الفكر والثقافة والتنوير وسط المجتمع السوداني عجزت عنها مؤسسات كاملة وقام بها هو وفي كامل الرضاء كانت فقط تشع من وجهه الابتسامة وهو يؤلف الكتب ويؤلف بين الثقافات السودانية ويجعلها متاحة للكل وكان مركز الدراسات السودانية نقطة إشعاع في القاهرة يؤمها كل السودانيين يقرأون ويكتبون ويتجادلون. بغض النظر عما حدث على المستوى السياسي فقد مثلت عودة دكتور حيدر إلى الخرطوم وفتح أبواب مركز الدراسات السودانية في قلب المدينة انفتاح كوة للضوء وسط العتمة ومؤكد أن المركز في ذلك التوقيت كان المدخل عند الكثيرين لرؤية البلاد بوجه آخر غير ذلك المرسوم وكان المحجة لكثير من طلاب الجامعات في ذلك التوقيت، كانوا يأتون للإبحار في السلسلة الموضوعة من قوائم الكتابات لعدة كتاب من فرانسيس دينق إلى محمد على جادين وآخرين — هناك أيضا مثقفون حملوا رؤية بديلة لسودان مختلف وكافحوا وما زالوا يكافحون من أجل بناء هذا السودان. في مستشفى براغ وفي واقع الأمر فإن مساهمة حيدر نفسه ومركز الدراسات السودانية جزء لا يتجزأ من هذا الكفاح. وحيدر محقّ كل الحقّ عندما يربط رسالة مركزه وعمله بنوع معين من المثقفين ويقول إن المركز "امتداد لمشروع عرفات محمد عبد الله ورفاقه في (الفجر)" وإنه الابن الشرعي "لكتابات أحمد خير ومعاوية نور والأمين على مدني وحمزة الملك طمبل والمحجوب ومحمد محمد علي وعبد الرحمن علي طه وعبد الخالق محجوب ومحمود محمد طه والتجاني الماحي"، وإن "هذه هي الروافد التي تشكل نهر الثقافة الوطنية الجادة بكل تنوعها الخصيب". إن توصيف حالة الإخفاق وتحديد أسبابها يجب أن يكون الخطوة الأولى الضرورية التي يعقبها طرح سؤال: ما العمل؟ إننا، كسودانيين (وخاصة كمثقفين) قد صنعنا أزمتنا وحلّ هذه الأزمة لن يأتينا من إله في السماء وإنما سيكون على أيدينا وبكفاحنا. الآن يستشفي الدكتور حيدر إبراهيم في أحد مستشفيات براغ بجمهورية التشيك تحفه دعوات السودانيين والسودانيات ممن يعرفون فضله، فيكتب الشاعر ود بادي بلسان الحال وهو ينادي عليه: يا أبا مظفر.. أيها الظافر المطهر.. لقد أعطيت ما استبقيت شيئا.. كيف نتعامى عن دورك الطليعي وأنت تقود مواكب التنوير والتثوير والتغيير.. وتخوض وحيدا في وحل المستنقع الاخطبوط.. يا عزيزي هذه بلاد تمتص رحيق المبدعين حتى الرمق الأخير.. ثم تلفظهم لفظ النواة اليابسة.. ولكن رغما عن هذا القبح الرسمي المقيم.. ورغما عن ميزان العدالة المقلوب. شكرًا للدنيا يقول الأطباء المشرفين على حالته إن استجابة الرجل للعلاج متسارعة وهو يفعل ذلك فقط بشجاعته الموروثة فقد قال حيدر إن "حياتي كانت ملحمة من المصاعب والصدمات ولكني عشتها سعيداً لأن مطالبي من الدنيا قليلة" ويقول حيدر: "شكرا للدنيا، إنني مازلت بذهن صاف، أقرأ وأكتب وأستمتع بالفكر والثقافة والفنون. ومازلت أقف على أرجل تمشي رغم الوهن، والغضروف، والتعب السريع. فقد سمحت لي الدنيا - حتى الآن - بالمشي في الأسواق والمكتبات. والتمتع بمعدة تأكل الفول، والرّجْلة رغم (القاوت) وتحذيرات الأطباء التي أطبق عليها الوصية: "شاوروهن وخالفوهن". وتركت لنا الدنيا عيونا تقرأ، وتستمتع باللوحات الفنية البهية، وبهبات الطبيعة والفصول، وأحيانا قد "تبصبص" للصبايا. كما حبتني الدنيا رغم السنين بلسان يتذوق الشاي بكل أشكاله ومنابته، وبالحلو مر، والشربوت، والدليخ، والكُسكُسي. وسمحت لنا الدنيا بأذن مازالت تصغي لعثمان حسين، وفيروز، والشيخ إمام و(Donna Summer). وتركت لي أنفا يستمتع بشم النعناع، والياسمين، وفواح الحنّا في الامسيات عند اركان بيوت القرية، والرياحين، ورائحة العشب المبلل) ونكمل: كتر خير الدنيا التي منحتنا سودانيا اسمه حيدر إبراهيم نقرأ في كتابته أن هذه الأرض يمكنها أن تنعدل متى تجاوزنا الخاص لصالح العام، إذا لم تجد شهيتك فلا تلومن الطعام ويختم حيدر سيرته الذاتية بالقول: "ولو عاد الزمن كرة أخرى لعشت نفس حياتي. بالتأكيد لن أحاول نزول النهر الواحد مرتين، سأعيش حية أخرى ولكن بنفس الرؤية والمبدأ اليوم التالي