أقرب إلى القلب : (1) بعض من يقول عن السودان أنه كان مستعمرة بريطانية، قد لا يكون دقيقاً في ذلك التوصيف، بل يجوز إلقاء حديثه جانباً، بحسبانه نوعاً من رميّ الكلام على عواهنه، والعواهن هي الساقط من يابس قضبان النخيل، واليباس بالطبع لا نفع فيه ولا رجاء منه. لقد كان السودان محكوماً باتفاقية ثنائية فريدة، صيغت في العام الأخير من القرن التاسع عشر، قننت إدارته لستين عاماً تحت التاج المصري نظرياً، وتحت السيطرة البريطانية فعلياً، بحكم وقوع مصر نفسها وخضوعها للإرادة البريطانية. كثيراً ما كنت أسمع صديقنا السفير بشير أبو ستة، حين يأخذنا الحديث عن العلاقات السودانية المصرية، يقول عن السودان، أنه "حاشية" على "متن" مصر، أي هو محض "فوت نوت"-كقول الفرنجة -على أصل الكلام. . ظنّي أن ذلك وصف دقيق، درجتْ على اعتماده أكثر الأنظمة التي حكمت مصر في عقود القرن العشرين المنصرم، ورسمت صورة غير حقيقية في الذهن المصري، كما في الذهن الآخر البعيد. ليس أدلّ على ذلك، إلا إصرار المخابرات المصرية الإمساك بملف السودان، وكأنه شأن مصريّ داخليّ، دون أن تسمح لوزارة الدبلوماسية المصرية بالتوغل في تفاصيله، وهي الجهة التي تتولى رسمياً معالجة علاقات مصر الخارجية. هذا جانب كثيراً ما لا يلتفت إليه المحللون، فيما هم عاكفون على النظر في ملفات معقدة تكتنف أجواء العلاقات السودانية المصرية. لم يفلت ملف السودان يوماً من يد المخابرات في القاهرة، منذ قبل الثورة المصرية في يوليو 1952، وهو التاريخ المفصلي الذي انبرتْ مصر بعده، في انتهاج سياسات نصّبت نفسها خلالها عرّاباً للوحدة وللقومية العربية. من ذلك أن اتفاقية الحكم الذاتي عام 1953، التي أفضت إلى استقلال السودان، قد أنجزتْ بعد أقل من عام من قيام الثورة المصرية، بقيادة اللواء محمد نجيب ثم جمال عبدالناصر بعده. وقتها، وجدتْ الحركة الوطنية السودانية من يتفهّم توجهاتها. . (2) بذات القدر من الأهمية، علينا أن نتنبّه إلى الوضعية التي عليها السودان في الدوائر البريطانية. إذ أن طبيعة اتفاقية الحكم الثنائي الموقعة في 1899، لم تمنح بريطانيا، تلك الصفة الدستورية التي تجعل من السودان "مستعمرة" بريطانية بالمعنى الحرفيّ، حتى وإن كانت لندن تعيّن الحاكم العام، بعد موافقة شكلية من قبل التاج المصري. في الحقيقة أن "وزارة المستعمرات" في لندن، هي التي تشرف على المستعمرات التاريخية لبريطانيا في القارة الأفريقية جنوب الصحراء، ولم يكن السودان من بينها. شئون السودان تعالج جميعها في وزارة الخارجية البريطانية، فالسودان ليس "مستعمرة" (colony) بالمعني القانوني. لقد كان استقلال السودان، تبعاً لهذه الطبيعة الاستثنائية، سهلاً ميسورا من وجهة النظر البريطانية، ولا تقارن سنوات الحكم الثنائي التي تقل عن الستين عاما في السودان، بسنوات الوجود البريطاني الطويل نسبياً، في مستعمرات بريطانيا الأخرى في القارة الأفريقية، والتي كانت تدار شئونها بواسطة "وزارة المستعمرات". (3) لتأكيد أهمية هذا الجانب، فإن البلدان الأفريقية التي نالت استقلالها خلال العقدين اللذين تليا نهاية الحرب العالمية الثانية، شكلت جميعها، وباقتراح بريطاني منظمة "الكمونولث" وهي التي أبقت للتاج البريطاني طرفاً من السيادة الشكلية على هذه البلدان. السودان، وبوضعه الاستثنائي، لم يكن مؤهّلا لأن يلتحق بمنظمة "الكمونولث"، حتى وإن تطلعت بعض النخب السودانية إليها ذات يوم. من مظاهر هذه السيادة البريطانية الشكلية على البلدان الأعضاء في "الكمونولث"، أن لا يحمل رؤساء البعثات الدبلوماسية ممثلو الدول الأعضاء في منظمة "الكمونولث"، لقب "سفير" في لندن، بل يسمّى الواحد منهم "المفوّض السّامي"، (commissioner high)، ولا يمنحون – تبعاً لذلك-امتياز رفع أعلام بلدانهم على سياراتهم الدبلوماسية، أو دور مكاتبهم وسكناهم. على أن ذلك الترتيب لا يحرمهم من بقية الامتيازات الدبلوماسية العامة، التي نصّت عليها اتفاقية فيينا لعام 1961، والتي تنظم العلاقات الدبلوماسية بين الدول. (4) لخصوصية وضع السودان، وبعد نيله الاستقلال، فقد كانت له قدرة عالية على المناورة والتفاعل في محيطه الجغرافي، فتراه يلعب أدواراً إيجابية وسط بلدان القارة الأفريقية جنوب الصحراء، في العقود الوسيطة من القرن العشرين. دعني أعدّد لك في السطور المختزلة التالية، بعضاً من تلك المبادرات المميزة على مستوى القارة الأفريقية: في عام 1955 وللسودان صيت كبير ودور رائد في لعبة كرة القدم الأفريقية، شهدت العاصمة السودانية ميلاد اتحاد الكرة الأفريقي، وباقتراح من السودان. . في عام 1960 كان للسودان دور إيجابي فاعل في أزمة الكونغو، واستضاف السودان ثوار تلك البلاد الذين كان يقودهم باتريس لوممبا والذي اغتيل بدم بارد بتواطؤ خونة كنغوليين وجنود بلجيكيين. في عام 1963 لعبت دبلوماسية السودان دوراً محورياً في لمّ شتيت القارة الأفريقية، وقد توزّع بين مجموعة "الرباط" ومجموعة "منروفيا"، لتكتب الأقلام السودانية بين أول الأقلام، ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية في أديس أبابا، والذي صار اسمه الآن "الاتحاد الأفريقي". . في عام 1958 أنشأتْ هيئة الأممالمتحدة اللجان الاقتصادية للقارات، فكان أول رئيس للجنة الاقتصادية في أفريقيا، هو الخبير السوداني مكي عباس، وقد عينه الأمين العام للأمم المتحدة في عام 1960، ممثلا عنه لحل مشكلة الكونغو. . في عام 1962 يقترح السودان إنشاء مصرف للقارة الأفريقية، سمّي "بنك التنمية الأفريقي"، فكان أول رئيس له هو الخبير الاقتصادي السوداني مأمون بحيري. . في 1972 عرض السودان على البلدان استضافة المصرف العربي للتنمية في أفريقيا، فكسب المصرف مقراً له في الخرطوم. . في سنوات السبعينات من القرن الماضي، كانت للسودان ولدبلوماسيته الناهضة، دوراً محموداً في مساندة حركات التحرّر في القارة الأفريقية.. بل مضى السودان إلى أكثر من ذلك، فكان هو اللاعب المؤثر في استقرار جيرانه الذين يحيطون به: إثيوبيا وإريتريا وتشاد ويوغندا والكونغو. . (5) لك أن تسأل، بعد أن انطوتْ سنوات حقبة الحرب الباردة، والسودان غير السودان الذي كان: أين دور السودان على مستوى القارة الأفريقية، منذ أوائل الثمانينات في القرن الماضي، وإلى العقد الثاني في الألفية الثالية الماثلة. .؟ فقد السودان مكانته القيادية في الاتحاد الأفريقي في أديس، إذ ليس له أيّ مفوضٍ في مفوضياتها العديدة، وفقد بنك التنمية الأفريقي في تونس آخر وجه سوداني مشرف فيه بخروج الدكتورة زينب بشير البكري، لأن حكومة بلادها لم تساند بقاءها في منصبها نائبة للمدير العام في عام 2009. . وفي منظمة "الإيقاد"، غادر السفير الدكتور عطا الله حمد بشير قيادة دفتها، وكان يمكن بقليل جهد، أن يحظى بموافقة للبقاء في منصبه، و أمينا عاما لها وهو الدبلوماسيّ السودانيّ الذي لعب دوراً متوازناً ومقدراً وراء الكواليس، لإنجاز "اتفاقية السلام الشامل"، التي ولدتْ بمبادرة منظمة "الإيقاد". . أما في اللجنة الاقتصادية في أفريقيا، وفي اتحاد الكرة الأفريقي. . فالحال يغني عن السؤال.. ترى هل سنسأل سؤالاً شبيهاً بذلك السؤال المأساوي، الذي طرحه الأديب الراحل الطيب صالح، قبل وفاته بسنوات: من أين أتتْ قيادة هذه الدبلوماسية التي أفقدت السودان بعضَ أو كلّ إرثه الدبلوماسيّ المقدّر، على مستوى القارة الأفريقية. . ؟ قال هاملِتْ في سؤاله الملحميّ: أكون أو لا أكون؟ أمّا الدبلوماسية السودانية فكأنها آثرتْ أن لا تكون.. ولنا بقية قول سيتبع. . +++++++ 10 يوليو 2016 [email protected]