وزير الصحة: فرق التحصين استطاعت ايصال ادوية لدارفور تكفى لشهرين    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)    ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك        أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبء الرجل الأبيض ... قبر الرجل الأبيض


White Man's Burden; White Man's Grave
شارلس آلان Charles Allen
مقدمة: هذه ترجمة لبعض ما ورد في الفصل الثاني من كتاب بعنوان " Tales from the Dark Continent حكايات من القارة السوداء" من تأليف البريطاني شارلس آلان. وقد نشر الكتاب لأول مرة في عام 1979م عن دار Futura Publications.
والمؤلف (والذي ولد - مثل والديه- بالهند عام 1940م) هو كاتب مستقل، ومؤرخ هاو، ورحالة وإذاعي. وسبق له أن نشر كتابا مشهورا عن الهند عنوانه "Plain Tales from the Raj".
المترجم
******* ****** ************
دفعت الأحداث التاريخية بالشاب الرياضي الأسكتلندي أنقس جيلان (1885 – 1981م) خريج جامعة أكسفورد للعمل في خدمة حكومة السودان. وكتب الرجل ما نصه:
"كان اسم غردون مألوفا لنا حتى عندما كنا في الروضة والمدارس الأولية. وبدأ كتشنر حملته لاستعادة السودان وأنا بعد في المدرسة. وكان اسم "السودان" يردد أمامنا بصورة لافتة وجاذبة لم تبرح ذهني قط. بقيت تلك الكلمة (السودان) واسم غردون في دواخلي، أحسست دوما بأننا يجب أن نقوم بعمل ما من أجل ذكرى الرجل. ولما ذهبت لجامعة أكسفورد بدأت أفكر جديا في ما سأفعله في الحياة بعد تخرجي، ولم أجد خيرا من العمل في ما اسميه، دون خجل، الإمبراطورية – رغم أن السودان لم يكن (إن شئنا الدقة) من ضمن تلك الإمبراطورية".
وفي عام 1908م تقدم أنقس جيلان للعمل بإدارة القلم السياسي في السودان، والتي كانت تقدم أفضل المرتبات مقارنة بكل الإدارات الاستعمارية الأخرى، إذ أن مرتب الإداري بها كان يبلغ عند بداية الخدمة 420 ج إسترليني. وكتب الرجل أيضا:
"لا بد لي من أن أعترف بأني قد فضلت الخدمة بالسودان لأنه لم يكن مطلوبا من المتقدم للعمل هنالك الجلوس لامتحان تنافسي كتابي. لقد كانت هنالك مقولة شائعة في تلك الأيام عن السودان مفادها أن "السودان بلاد السود الذين يحكمهم الزرق Sudan is a country of blacks ruled by the blues، وهنالك بذرة من الحقيقة في هذا القول المعبر. فقد كان المسئولون البريطانيون (خاصة اللورد كرومر) لا يريدون أن يعمل بالسودان إلا من كان لديهم إحساس عظيم بالمسئولية، وهو أمر مشهود عند المحظوظين الذين أتاح لهم القدر فرص الدخول لعالم الرياضة البدنية (أي الزرق blues). لذا تقدمت للعمل بالسودان مؤمنا بأن مواهبي الرياضية ستكون سندا قويا لي في القبول".
كان أنقس جيلان رياضيا موهوبا في رياضة التجديف (rowing)، وسمح له في صيف عام 1912م وهو في عامه الثالث في خدمة حكومة السودان بالمشاركة في منافسات الأولمبياد في تلك الرياضة بالسويد. وكانت للمواهب الرياضية أثر أيضا في قبول إداريين آخرين للعمل. وفي ذلك كتب أنقس جيلان:
" ذهبنا نحن أربعة من زملائنا في رفقة واحدة للسودان – أنا وشارلس دوبيه من جامعة أكسفورد، وروبن بيلي من جامعة كمبردج وجيفري ساسفيليد من جامعة دبلن. وتصادف أني كنت قد أصبت بعض الشهرة في رياضة التجديف، مثل زميلي شارلس دوبيه الذي كان مجيدا لها أيضا. وكان روبن بيلي من أفضل الحراس في رياضة الكريكت في كمبردج، بينما كان جيفري ساسفيليد من حُذّاق لعبة الهوكي. وبذا كانت لنا بعض القواسم المشتركة أهمها الإجادة لرياضة ما. وجمع بيننا أيضا المستوى غير المميز في الأكاديميات، فقد تخرجنا جميعا بدرجة البكالوريوس من الدرجة الثانية أو الثالثة".
وبعد قضاء سنة تدريب إضافية في أكسفورد قام الأربعة بتوقيع عقد العمل مع حكومة السودان في وظيفة "مساعد مفتش". واشتمل العقد على نص يمنعهم من الزواج قبل حصولهم على حق المعاش، أي بعد انقضاء عامين من الخدمة. وسافروا بالبحر إلى الإسكندرية، ومنها للقاهرة، والتي ابتاعوا لأنفسهم فيها "طرابيش". ويقول أنقس جيلان عن تلك التجربة:
"كان الطربوش في تلك الأيام من مستلزمات زي المكتب. لا أقول إننا كنا به من المغرمين، ولكنه كان مفروضا علينا ولا نستطيع الذهاب للمكتب من دون وضعه على رؤوسنا. أما في غيره، فقد كنا نضع ما نشاء من الخوذات مثل ال pit helmet حتى الساعة الثالثة عصرا. وبعدها كنا نضع عادة طواقي من نوع homburg حتى مغيب الشمس. وفي غضون سنواتنا تلك كان لنا زميلان لا يضعان خوذات على رؤوسهما، وكنا ننظر إليهما وكأن بهما مَسّ، ولم نكن متأكدين من ذلك المس: أهو بسبب عدم وضعهما للخوذة، أم بسبب جنون متأصل؟".
وبعد رحلة بباخرة على النيل وبالقطار بلغوا أخيرا الخرطوم، والتي كانت يومها صغيرة جدا وفي طور التكوين والتطور لتغدو مدينة حديثة. وكتب أنقس جيلان عن ذلك التالي:
"بدا لنا شارع النيل والمباني على شاطئه حضاريا بما فيه الكفاية. وكانت البيوت حسنة البناء وبها حدائق جميلة مبنية على الطراز الأوربي – ولكن ليس على خطوط متوازية. وقيل إن كتشنر أمر بتخطيطها لتشبه علم المملكة المتحدة. والتزم المهندسون بذلك في بداية الأمر ولكنهم عجزوا عن الحفاظ على ذلك التخطيط بسبب توسع المدينة، ولاستحالة بناء مبان على شكل زوايا حادة. أما الأهالي فقد كانوا يسكنون على ضفة النيل الأبيض في أمدرمان.
وتغير بالطبع المجتمع (السوداني) كثيرا مما كان عليه قبل عشرين أو ثلاثين عاما. وتسنم الوظائف الإدارية العليا بالبلاد في البدء من أتوا مع كتشنر في حملته من الضباط. وكان هؤلاء الضباط لا ينظرون إلينا – نحن خريجي الجامعات العريقة- إلا بحسباننا شبابا غضا، عديم الخبرة، ولا يصلح للعمل في مناطق الشدة. وكان العنصر النسائي في أوساط البريطانيين غائبا تقريبا في كل أرجاء البلاد. وكانت حياة الإداريين البريطانيين في البلاد تشابه وضعهم في الأندية الرجالية (في العصر الفيكتوري) حيث يقتصر الدخول إليها على الرجال. وكنا نلملم أطراف شجاعتنا لنقوم بعد تناول الغداء بجولة حول فراندا النادي ولا نرى إلا العجائز يجلسون على كراسي القماش وهم منكبين على قراءة الصحف التي أمامهم. وكأني بهم عندما يلمحوننا من بعيد يسألون بعضهم بعضا: " من هو ذلك المدني العجيب؟"
وصارت البلاد – مع مرور السنوات- أكثر إزعاجا مما مضى، حتى قبل ازدياد أعداد السيارات. فقد كان لكل واحد منا حمار مربوط في فناء بيته. وكان الأغنياء والمحظوظين من هؤلاء يحتفظون بعدد من الخيول أيضا. ولكن كنا نذهب في الغالب للمكاتب على ظهور الحمير. وعندما يبدأ أحد الحمير في النهيق، فثق في أن جميع الحمير في الجوار ستقلده. وكثيرا ما كانت أصوات النهيق الجماعي توقظنا في منتصف الليل مرتين أو ثلاثة".
قضى أنقس جيلان الثلاثة شهور الأولى في الخرطوم، متجولا بين الرئاسة في الخرطوم وعبر النهر في أمدرمان. وقال بأن المرء يحس في أمدرمان و"كأنه تحت تأثير تاريخ حكم المهدي والخليفة السابق. كان لسلاطين بالطبع في تلك الأيام سطوة وسلطة. دعانا مشكورا للعشاء في داره، وسمعنا منه بعض ذكرياته الحافلة بالإثارة والغرابة والطرافة. لقد وقع في أسر المهدي وأسلم على يديه، ليس طلبا للنجاة بنفسه كما أظن، بل لينفع بني جلدته. ولكني لمست في حديثه قليلا من الحقد والغل والمرارة الشخصية لما حدث له".
وقضى أنقس جيلان مع زملائه الآخرين شهرا كاملا في بيت الخليفة تحت إشراف مفتش المركز، ثم غادروه إلى أمكن أبعد. وأدركوا من شهورهم الأولى في السودان بأنه في الحقيقة ينقسم إلى بلدين مختلفين:
الشمال، وهو منطقة صحراوية غالب سكانها من المسلمين الذين يتحدثون بالعربية، عدا البقارة في بعض مناطق تلال البحر الأحمر، والذين يتحدثون بلغتهم الخاصة، والبقارة هم ال "فيزي ويزي" الذين صارعوا ببسالة الجيش البريطاني (خَلَّطَ الكاتب هنا بين قبائل الشرق في البحر الأحمر، وأخرى في غرب السودان. المترجم)،
والجنوب، الذي يقع جنوب خط 12 عرضا بالتقريب، والذي يختلف في الطبيعة والبشر، حيث تقطنه قبائل متنوعة من السود الذين يتحدثون بعشرات اللغات، وبعضهم طوال القامة جدا كقبيلة النوير النيلية، وبعضهم الآخر قصار القامة كالأقزام في الغابات. وكلهم من الوثنيين إلا من أدخلته البعثات التبشيرية في المسيحية. والجنوب متأخر بعدد من الأجيال عما يمكن أن نسميه "المدنية". وفي بعض المناطق يطلق الجنوبيون كلمة "الترك" على الموظفين البريطانيين لأن الأتراك (والمصريين) كانوا هم الجنس الأجنبي الوحيد الذي شاهدوا أفرادا منه يميل لونهم للبياض. ولم يكن البريطانيون يرضون بنسبتهم إلى هؤلاء لأن كلمة "الترك" في ذلك الوقت كانت لها دلالات مرتبطة بالرق.
وبعد انقضاء الشهور الثلاثة الأولى نقل أنقس جيلان إلى محطته الأولى في الأبيض عاصمة مديرية كردفان. وكتب الرجل عن رحلته تلك ما نصه:
"تركت في الدويم على النيل الأبيض، وفيها أعطيت عددا من الجمال الضخمة لتحملني إلى الأبيض، على مسيرة خمسة أو ستة أيام. واكتشفت أن ركوب الجمال هو أريح وسيلة للانتقال يمكن تخيلها في السودان. ولكن عندما يكون جمل الركوب سيئا، فسيؤلمك كل عظم في جسدك. وكان الطريق بين الدويم والأبيض محاطا بالشجيرات الصغيرة وأشجار الصمغ العربي، والمنطقة تبدو في أجمل صورها عند الفجر أو مغيب الشمس. غير أن كل جمالها وروعتها تتبخر بعد أن تطلع الشمس وتسلط شواظ أشعتها على رأسك. وأفلحت وأنا في الطريق في اصطياد غزالين تمتعنا بأكل لحمهما، مما شجعني لاحقا على مداومة هواية صيد الحيوانات الوحشية. وبلغت أخيرا الأبيض، حيث كان في استقبالي عدد من الموظفين، أغلبهم من العسكريين".
لقد كان الميزmess هو محور حياة الإداريين (العزاب) في الأبيض. وكان الميز عبارة عن بيت متواضع البناء يتناول فيها هؤلاء العزاب كل وجباتهم، ويستمتعون ببعض الكؤوس في الأمسيات. وكتب أنقس جيلان عن ذلك الميز التالي:
"عينت رئيسا للميز فور وصولي حسبما جرت العادة هنا. ورئيس الميز هو من يقوم بكل الأعمال الشاقة (شغل الحمير Donkey work). وللقيام بتلك المهمة قابلت عم زياد، وهو كبير النُدُل" السفرجية"، والذي اتخذته فيما أقبل من أيام خادمي وطباخي الخاص، وكان رجلا عجوزا، ولكنه كان أفضل خدمي في طوال فترتي في السودان".
كان "عم زياد" شابا صغيرا في السابعة عشر من العمر عندما وقع أسيرا في معركة "أتبرا". وظل منذ ذلك الوقت يعمل في خدمة الضباط البريطانيين. ووصفه أنقس جيلان كالتالي:
"كان له، كغيره من الأهالي، الكثير من غرابة الأطوار. بإمكانك إن تحضر أي ضيف معك لتناول طعام الإفطار أو الغداء أو العشاء دون أن تخطر الطباخ سلفا بذلك. لا تحمل هما، فالطباخ لديه دوما ما يقدمه لك ولضيفك. ولكن إن دعوت ضيفا لتناول كوب من الشاي ولم تخبر ذلك الطباخ سلفا بذلك، فسوف يقدم الشاي للضيف، ولكنه سيعود إليك فيما بعد شاكيا من أن السيد فلان جاء لتناول الشاي هنا ولكنك لم تخطرني بذلك سلفا. وعلى وجه العموم كان الإداري البريطاني يفضل تشغيل الخدم الذين لا يعرفون اللغة الإنجليزية. وكان "عم زياد" لا يتكلم معي باللغة الإنجليزية، ولكني متأكد من أنه يفهمها. وذات مرة كنت أتبادل الحديث مع بعض ضيوفي عن حادثة معينة وقعت في جبال النوبة قبل سنوات طويلة، وذكر أحد الضيوف أنها وقعت في يوم كذا من شهر كذا. فأجابه ضيف آخر بأن ذلك مستحيل إذ أن فلانا كان في عطلته السنوية في ذلك التاريخ ولا يمكن أن يكون قد شهد تلك الحادثة. وهنا لم يطق "عم زياد" صبرا (وكان يقوم بخدمتنا وأذنه على ما يدور من حديث) فانحنى وأسر إلى في أذني هامسا: "لقد وقعت في الحادي عشر من سبتمبر عام 1904م".
وكان عمل أنقس جيلان نائبا للمفتش في الأبيض يضطره للقيام بعمل أشياء لم تكن في حسبانه، وكان يدعى أحيانا لعمل أشياء تخرج عن نطاق دراسته وخبراته، فصار يعمل في كل شيء، أي أنه صار كما يقول المثل الإنجليزي Jack of all trades"". وكان عليه أن يقضي معظم وقته خارج المكتب في الطواف على مناطق مركزه. وصف الرجل كل ذلك في قوله:
"كان هناك مدير المديرية، مع قليل من المفتشين، كانت مهامهم تنحصر في توجيه الموظفين (وأغلبهم من المصريين). وشيئا فشيئا بدأ مساعدو المفتشون يعطون مسئوليات نواب مديري المراكز، وصاروا يكلفون بمختلف صنوف الأعمال المتباينة، فيجمعون الضرائب، ويفصلون في القضايا بالمحاكم، وفي الأبيض يطوفون على منازل الأهالي ويعلمونها لهم بالمزواة (جهاز لقياس الزوايا في المنازل theodolite. المترجم)، وذلك في الأصل من أعمال المساحين بقسمي الأشغال العامة والأراضي. وبالجملة، فقد كان المفتش يقوم بكل شيء تقريبا.
وكان هنالك الكثير مما يمكن قوله في باب الإشادة بطواف المفتش أو نائبه على مناطق المديرية المختلفة وهو على ظهر جمل أو حصان. فتلك وسيلة مضمونة للقاء الأهالي في مناطقهم. وعادة ما يكون معك شيخ أو واحد من ذوي الحيثية وأنت تقوم بهذا الطواف. وفي الدردشة العادية مع هؤلاء يمكن للواحد منا أن يتعلم الكثير عن المنطقة التي يطوف بأرجائها بأكثر مما يفعل لو طاف عليها وهو في سيارة مغلقة.
وكانت من أسعد اللحظات التي تمر علي وأنا في تلك الجولات بإحدى القرى عندما يتقدم مني أحد الأهالي ويصافحني ويهز يدي في حرارة، ويسألني عن حالي. وكثيرا ما كنت أسأل ذلك الذي يصافحني عن اسمه وإن كنت قد التقيت به من قبل، فيجيبني: "أولا تذكرني؟ لقد حكمت علي بستة أشهر سجنا في محكمة المديرية؟".
لقد كانت أيام الطواف في أطراف الإقليم البعيدة، وحتى السكن في داري بالمدينة أيام معيشة بدائية متأخرة. كنا تستخدم في البدء "الشمعدان" للإضاءة، حتى ظهرت ما يعرف بالرتينة (pressure lamp)، ثم أتت مؤخرا الكهرباء. وكان الواحد منا في تلك الجولات لا يحمل إلا القليل من الأشياء: حمام معسكر (camp bath)، ومقاعد معسكر (camp chairs)، وأحيانا "سرير سفري"، رغم أن حمل المرء لسرير وهو يزور شخصا ما في بيته قد يعد إساءة لمضيفه".
وفي عام 1916م شارك أنقس جيلان في الأحداث التي أدت لضم مناطق جديدة للسودان، وكتب عنها ما يلي:
"نقلت في بداية عام 1913م من الأبيض للنهود، والتي تقع في أقصى غرب مديرية كردفان، والسودان. وهي تجاور دارفور، والتي كانت تتبع للسودان في عهد سلاطين باشا قبل ظهور المهدي. وبعد إعادة احتلال السودان بدا واضحا للمسئولين أن دارفور أكبر من أن تدار كمديرية من مديريات السودان الأخرى، فجعلت النهود هي آخر مدينة سودانية في غرب السودان. وترك للسلطان علي دينار إدارتها على أن يدفع سنويا جزية اسمية لحكومة الخرطوم. ولم يقم واحد من الإداريين البريطانيين بعبور الحدود إلى داخل دارفور.
غير أنه مع قيام الحرب العالمية الأولى، امتنع السلطان علي دينار عن دفع تلك الجزية الأسمية، وصرح علانية بعدم نيته دفعها. وكنت في ذات يوم من أيام يناير عام 1916م أجلس في مكتبي عندما دخل علي حبوا رجلان في حالة مزرية من الرعب والفزع – ولم تكن طريقة دخولهما للمكتب بتلك الصورة من الأمور المعتادة عند من يأتون لمكتبي لتقديم تظلم أو رفع عريضة أو نحو ذلك. ووضع الرجلان على مكتبي حربتين وعصاتين من النوع الذي يقذف (throwing - sticks) وقد كتبت عليهما بعض آيات القرآن التي تصف مصير المشركين – وهو ما كان يعني ضمنيا إعلان حالة حرب".
وبعد أن أخفقت حكومة السودان في احتواء الموقف قامت بإرسال قوة تدخل سريع expeditionary force إلى دارفور. وبعد اشتباك من جانب واحد في خارج الفاشر، تقهقر السلطان جنوبا مع ثلة ممن نجا من أفراد جيشه. فأرسلت قوة صغيرة من الخيالة لتعقبه. وشارك أنقس جيلان في تلك القوة كمسؤول سياسي. ووصف أنقس جيلان تلك الحادثة بقوله:
"عثرنا على المعسكر الذي كان السلطان يختبئ فيه منذ شهرين أو ثلاثة خاليا. غير أن قدور الطعام كانت لا تزال تغلي. وجدنا أيضا عددا من البنادق والمستلزمات الحربية. وتوقفنا عن البحث عند حلول الظلام. حينها أقبل علينا رجلان، تبين لاحقا إنهما من جواسيس علي دينار، كان قد بعثهما لمعرفة مكاننا. اعترفا لنا – ربما من باب الحكمة- بمكان اختبائه. لذا قمنا على الفور بالانتقال لمعسكر السلطان وبلغناه عند السابعة صباحا. ولم يدرك السلطان وجنوده بأننا في معسكره إلا بعد أن سمعوا صوت مدفعنا، فتفرق جمعهم وهم يركضون في كل اتجاه. وركض جنودنا خلفهم في تلك المنطقة الجبلية الوعرة. وجرى إطلاق للنيران في معارك صغيرة بيننا وبينهم. وفي الموجة الثانية أو الثالثة من إطلاق النيران عثرنا على جثة رجل أصابت طلقة رأسه فأردته قتيلا. تبين لنا أنه على دينار. وبهذا مات ذلك الرجل السيد محاربا في ميدان القتال. لا شك عندي إن ذلك كان هو ما يتمناه. وبمقتله أسدل الستار على ذلك الفصل (من تاريخ دارفور). ولم تستتب الأمور تماما في دارفور إلا بعد مرور بعض الشهور على مقتل السلطان. وأعلن في صبيحة اليوم الأول من يناير 1917م أن دارفور غدت مديرية (عادية) من مديريات السودان.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.