بعد كل هذه القبور التي تؤرخ شواهدها لنهاية حياة مجموعات من شباب هذا البلد كانوا قد عبأوا صدورهم بأنفاس الأمل وهاموا في صحراء الذهب بحثاً عن التِّبر في هذه الواسعة فهام بهم فارس التُراب وحبسهم سجَّان (ود الأحد) في شبره الضيق. بعد كل هذه القبور وكل تلك التقارير التي سبقتها وتحذيرات المختصين من النتائج الصحية الوخيمة والمخاطر الكيماوية الأكيدة لاستنشاق أغبرة الزئبق وبخاره الذي يسري في الدم ويدمر رئة الشخص الذي يستنشقه ويصيبها بالتليف الكامل.. بعد كل هذا نجد وزير المعادن الذي (يفلح) في الحديث عن نسبة إنتاج الذهب في السودان ويتفاخر بزيادة معدلات الإنتاج يقف أمام الصحافة ليتحدث عن نيتهم ونية الحكومة في منع استخدام محلول الزئبق القاتل المدمر للجهاز التنفسي هذا، منعه في مجال التعدين الأهلي التقليدي، لكن متى؟؟.. ليس الآن بل (بحلول عام 2020)..! بمعنى أن يموت من يموت خلال هذه الأعوام الثلاثة القادمة، فليست صحتهم بنظر الحكومة بأهم من الأرقام المستهدفة لزيادة انتاج الذهب.. وليست حياتهم تسوى كل هذا الذهب. الوزير الذي يعلم كما تعلمون جميعكم بخطورة استخدام الزئبق هذا.. وتحمل تقاريره ربما أرقاماً وإحصائيات، أكثر دقة من إحصائياتنا وأرقامنا عن عدد ضحايا الزئبق في مناطق التعدين.. يصرح جهراً بأنه قرر الانتظار على الزئبق القاتل.. الزئبق يا سادة يقتل المعدنين يمزق رئاتهم.. يفعل بأجسادهم ما تفعله الأسلحة الكيماوية، لأنه في الواقع مثله مثل السلاح الكيماوي فهو ينتج زئبقاً عضوياً قاتلاً.. كيف تفكر وزارتكم وهي تريد أن تنتظر بالأمر لعامين قادمين؟ وزير المعادن صادق إلكاروري قال إن الحكومة ستتخذ قرار منع الزئبق عام 2020 بعد أن تستلم من روسيا التكنولوجيا الجديدة البديلة لاستخدامها في استخلاص الذهب بالسودان..! ولماذا لا ينتظر الذهب في صخره وتنتظر خزانة البنك المركزي في عجزها حتى تجدوا هذه التكنولوجيا، لماذا تجازفون بحياة شباب السودان بهذا المستوى من الاستهتار؟ كان من الممكن أن نتفهم موقف الحكومة لو قالت إنها لا تزال تجري تحققها من صحة التقارير التي تتحدث عن مخاطر الزئبق وتسببه في إنتاج مواد كيماوية قاتلة.. كان من الممكن أن نعذر الحكومة ونحترم موقفها لو قالت إنها تستعين الآن بخبراء ومختصين لتقديم الفتوى العلمية في هذا الحديث، لكن أن تكون الحكومة وتكون وزارة المعادن متأكدة مائة بالمائة أن مادة الزئبق هذه فعلاً تسببت في موت عدد كبير من المعدنين وأصابتهم بتليف الرئة، وأعرف شاباً خلوقاً من هؤلاء صديقنا وجارنا في الحي رحمه الله، عاد برئة متفحمة من مناطق التعدين قبل شهر أو شهرين وحين التقط الأطباء صورة لرئته عجزوا عن فعل أي شيء ثم لم يمكث طويلاً بعدها حتى وافته المنية بالأمس.. وأتوقع أن تكون هناك أعداد كبيرة من الشباب في مواقع التعدين التقليدي هذا تليفت رئاتهم وتفحمت أنفاسهم وصعدت أرواحهم إلى بارئها وخالقها وخالق هذا الوزير الذي نعتبر أنه وبتصريحاته تلك يريد المزيد من قبور الزئبق المتوقعة خلال الأعوام الثلاثة المقبلة. امنعوا مادة الزئبق ولو يكلفكم ذلك المنع ما يكلفكم فأرواح المواطنين وأرواح هؤلاء الشباب أغلى وأثمن . بالمناسبة، موضوع الزئبق لا يمثل كل مشاكل التعدين الأهلي ومخاطره.. هو سطر واحد في كتاب المخاطر الكبيرة التي يتعرض لها المعدنون في بلد تريد الحكومة فيه أن تقول أنتجنا مائة طن من الذهب هذا العام من دون أن تقدم لمن أنتجها أدنى درجات الاهتمام والعناية المطلوبة بهم وبأحوالهم. شوكة كرامة لا تنازل عن حلايب وشلاتين اليوم التالي