الدعم السريع يعلن السيطرة على النهود    وزير التربية والتعليم بالشمالية يقدم التهنئة للطالبة اسراء اول الشهادة السودانية بمنطقة تنقاسي    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    عقار: بعض العاملين مع الوزراء في بورتسودان اشتروا شقق في القاهرة وتركيا    عقوبة في نواكشوط… وصفعات في الداخل!    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    سلسلة تقارير .. جامعة ابن سينا .. حينما يتحول التعليم إلى سلعة للسمسرة    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حدث زمان في بيت الحبشيات
نشر في الراكوبة يوم 08 - 12 - 2016

داخل غرفة الفندق نفسها، والوقت عصرا، حملت نملة سوداء فتات رغيف ناشف، وأخذت تتسلق الحائط الموازي للسرير، حيث يرقد غندور الجمر، الذي لما رآها أخيرا، وقد شارفت على الدخول إلى بيتها قرب السقف، نهض واقفا، وأعادها بإصبعين إلى حيث بدأت رحلتها في الأسفل، وهو يقول:
"ثم ماذا بعد، يا رفيقتي"؟
التقطت النملة نفسها فتاتا آخر. وواصلت الصعود عبر مسارها القديم. كما لو أن شيئا لم يكن. ولما شارفت على دخول بيتها، قال غندور الجمر في نفسه: "ال****"، وتركها تمضي، بعد أن نزع منها الفتات، بما بدا مهارة، لا تفتقر إلى الدِربة. ما لبثت النملة أن عادت منحدرة إلى الأسفل. فشك غندور الجمر إن كانت هي النملة نفسها أم نملة أخرى. إلا أنّها تجنبت الفتات هذه المرة. وسارت قاطعة الطريق الطويلة إلى أن مضت أسفل عقب الباب متجهة إلى الخارج. سارع غندور الجمر مغادرا فراشه. فتح الباب. مد قدمه اليسرى. سحق النملة. لما وقع بصره على موظف الاستقبال العجوز الأحول، حار في تحديد المسار الحقيقي لنظر الموظف، الذي لم ينم عنه أنّه رأى غندور الجمر، فأوصد الأخير باب غرفته بحذر، متيقنا أن الأحول منشغل "الآن" بكلياته في القراءة. ظلّ غندور الجمر يشغل نفسه، على ذلك المنوال، وعلى تواتر الذكريات القديمة المفخخة بالحنين، في انتظار غياب الشمس وحلول الظلام، ليبدأ مشواره اليومي، لشراء "العرقي"، من "قاع المدينة".
وذلك حدث، على الأرجح، من قبل بدء ظهور الخال حسين الضاحك المتكرر، على شاشة التلفاز، بسنوات عديدة تبدو، في بعدها، من "الآن"، كما الأحلام. وقتها، تسلل غندور الجمر، لأول مرة، في حياته، إلى أحد بيوت الحبشيات، حيث تُباع اللذة وتُشترى، في صحبة الخال حسين الضاحك، ذلك الكهل المحتفل، عبر الشرور الصغيرة للمعصية، بابن شقيقته الوحيد، الذي لم يفت الكثير وقتذاك، على بلوغه مبلغ الرجال.
لما أخبرَه حسينُ الضاحك، بوجهتهما تلك، على طريقة الصدمة الكهربائية، شعر غندور الجمر حال أن أنار ضوء الإدراك كهف حيرته وعماء جهله، بشيء أليف يهوي في داخله صريعا ولا أسف، ثم ولما يفيق من آثار ذلك بعد، أحسّ غندور الجمر مباشرة بشيء آخر أخذ يتبرعم صاعدا هناك على أنقاض ما هلك ومات للتو، وقد بدا، على نحو غامض، كما الأسرار المنتظرة، في عنفوانها الجارف المتوقع، كوعود لا نهائية بالذوبان، أو.. ذلك التلاشي اللذيذ، وراء عتمة الأبواب المغلقة للمستقبل. إلا (وحق رباط الدم) ما كل هذا الحنين الجارف.. إلى ما لم يختبره غندور الجمر بعدُ.. مرةً واحدة.. في حياته الواعدة، "يا خال"؟
الخال في البدء (أو مبكرا جدا)، سأل:
"هل رأيت امرأة من قبل ما سترى إحداهنّ، في القريب، يا غندور"
"نعم، يا خالي. رأيت أمّي، وغيرها"
"اللعنة على فهم الأطفال هذا، يا غندور"
"وما هذا السؤال الغريب من الأصل لتسأله والنساء في كل مكان، يا خال"؟
"أعني هل رأيتها، يا مقصد الذكاء ومنتهى النباهة وبرق الادراك الخاطف، من تحت هناك، حيث النعيم المقيم، الذي لا تحجبه، حتى قطعة ثياب صغيرة واحدة ساترة، يا غندور".
أخيرا، فهم غندور الجمر، وفقط لما رأى النظرة الجشعة النهمة الجائعة الظامئة الناشفة المبتلة حد البكاء السعيد ببريق الحرمان، وهي تومض في عيني خاله، وقد بدت ولسبب ما مثل تائه متخم في آن برغبتي الحياة والموت، ما ينفك يركض، وهو يستعذب آلامه، من المتاهة إلى المتاهة. وإذا غندور الجمر على غير توقع أو تخطيط غير غندور الجمر وإذا العالم فجأة لا يعود نفس العالم الذي يعرفه. ولم يدم كل ذلك طويلا. فإذا كان هناك (فكر غندور الجمر لاحقا) مَن سيلج إلى الجحيم يوم القيامة، عبر أبواب اللعنة المشرعة الواسعة، كفراغ عظيم بين جبلين، فهم (ولا ريب) قاتلو الفرحة البكر في مهدها. إذ سرعان ما أدركتهما هناك، في بيت الحبشيات، إحدى نكات عناية السادة الرئيس، بالضبط وكالعادة على غير توقع، وفي وقت كان فيه العالم الغارق في شراء وبيع اللذة في آن أبعد ما يكون مما بدا حسب وصف ذلك المذياع اللعين: "الحاجة الماسة إلى ضحكة".
كان صفا طويلا من الذكور المتأججين، ببركان الشهوة المحتقن، بأعمار وقامات وخلفيات مختلفة، ظلّ يزحف متقدما ببطء وصبر نافد ودأب صوب باب حوش بيت الحبشيات، اللائي هربن سابقا في أوقات متفاوتة من جحيم الحرب، فيما وراء الحدود الشرقية للبلاد، فانتهى بهن الحال مكرهات ولا بد إلى ممارسة أقدم المهن في التاريخ، وذلك بالضبط ما لا يريد أحد أولئك الذكور الأماجد سماعه في كل مرة، وقد كان بعضهم يبالغ صونا (ربما) لحسن السمعة بين النّاس في التخفي، فلا يكاد يكتفي حتى بغطاء الليل الحالك ستارا، وقد شرع يطالع عناوين الصحيفة، على وهج الضوء البعيد للنجوم، مغطيا بها في الأثناء أغلب صفحة وجهه، وأبدا ومطلقا لم يسعفه الخيال لحظة واحدة، على تصور أن يأتي يوم على قريباته من "الحرائر"، يمارسن فيه مكرهات أمرا، بدا دوما في ذهنه كما لو أن السماء قامت منذ بدء الخلق بتفصيله ليناسب "الحبشيات"، على وجه الخصوص.
حدث ذلك إذن لحظة أن ألقى السادة الرئيس نكتة:
"السفينة أكلت لحمة بالفرن".
كان الخال حسين الضاحك يتقلب لحظتها للتو بين أحضان رفيقته، فتاة نحيلة في منتصف العشرين، جاهدا أن يستخلص منها ما قام بدفعه قرشا فقرشا، على الرغم من أريحيتها البادية. وقد ساوم الخال حسين الضاحك قبلها على صفقة ابن شقيقته، قبالة ما بدت داعرا عجوزا معتزلة وقائمة إداريا على شؤون الدار، ملحا على أن تكون (باعتبارها المرة الأولى) بنصف الثمن، وقد تحقق له في الأخير وعلى كره ما أراد. ولم يكن الخال مكترثا على أية حال بسخط اللغة الأمهرية الذي أخذ يتصاعد من حوله، ولا حتى بمعاناة غندور المكتومة لاحقا في الجوار، مع عاهر بدينة ساخطة، لم تتوقف عن الشتيمة لحظة واحدة، وحتى النهاية، بل ولم تبدِ في الأثناء أي تعاون للأخذ بيدِ غريرٍ إلى بوابة النعيم القابع هناك، ما بين فخذيها شبه المضمومين، من دون حارس أو رقيب، وقد تمّ إيقاظها منذ دقائق قليلة من عز النوم لمضاجعة الصبي. كلما تذكر غندور الجمر، عبر نهر السنوات المتدفق، تفاصيل ما حدث يومها، كلما شعر بامتنان أنّه لم يخرج بعدها كارها للنساء، ولم تفلح مبادرته الطوعية تلك، بمضاعفة الأجرة، في التخفيف من كثافة الحنق قليلا، أو تعديل مرأى الصفحة المتجعدة لوجهها، من غضب.
كان نفاق حسين الضاحك وخوفه، اللذين تحولا إلى شيء بغيض، غير محتمل، أشبه ما يكون بجثة فأر متفسخة في العراء، يثيران والحق يقال غثيان الحجر نفسه. وذلك بالضبط ما أخذ يشعر به غندور الجمر المنشغل في ظروف معاكسة عبثا وراء ستارة تفصل ما بين سريره وسرير الخال بفك رموز عالم شغله التفكيرُ فيه منذ أن بلغ منذ نحو العام أو يزيد مبلغ الرجال بأكثر من عدد ذرات الرمل على ضفتي نهر صالحين: المرأة.
الحال تلك، تلقى الخال حسين الضاحك عقوبة فورية، عندما زجرته رفيقته، وقد رأت منه تفاعلا وتماديا مع نكتة السادة الرئيس بدا لها ليس مهينا في مذهب الضحك فحسب، بل ومغرقا في نفاقه، أما هو، الخال حسين الضاحك، فلم يخطر على ذهنه ما ستكون عليه عاقبة موقف الحبشية ذي البطولة الانتحارية، وقد أُخذَ حد الشلل بتحولها الانفجاري المباغت، كما لو أنّها فتاة أخرى. إلا أن (الحبشية) لم تكن تدرك بذلك جسامة الدخول في مغارات الوعر القاتل للسياسة.
لم يفت على ذلك سوى نحو الساعة تقريبا، ولا أحد يعلم كيف طار الخبر، حتى قبض عليها، وتمت إدانتها في الحال، وقد حُكِمَ عليها جراء زمجرتها العدائية تلك، بمضاجعة سبعة عشر سجينا، من ذوي الأحكام الشاقة المؤبدة. لقد عُهِدَ بها بالذات إلى أولئك الرجال الذين قضوا نحو العشرين عاما وراء القضبان يحلمون داخل محابسهم المنفردة بمضاجعة امرأة من دون لحظة توقف واحدة. ولو أتيح لها الخروج حية من ذلك المكان، ولما تكمل بعد مضاجعة الثلاثة مساجين منهم، لحكت لرفيقاتها كيف قضى المسجون الأولى الوقت الممنوح له مكتفيا بالنظر الصامت إليها، أما المسجون الثاني فقد ظل ينظر إلى ما بين فخذيها ويبكي من دون صوت، "يبكي ليمسح دموعه"، و"يمسح دموعه ليبكي"، أما المسجون الثالث، فقد تفجر بركان شكوكه على حين غرة في منتصف المضاجعة، متيقنا تماما أنه تعرّض للغدر، حين أرادوا أن يرسلوه إلى الموت بألطف الطرق، وبتعبيره هو: "بالفرج المسموم لامرأة أجنبية". أجل، قتلها خنقا. وإن لم يوقف ذلك شعوره المتفاقم بسريان السم حثيثا من عضوه رأسا إلى قلبه. المسكين رأى كما لو أن الدم أخذ بعد مضي سويعات ينز من مسامه وأن أطرافه بدأت تتورم. إلا أنّه مات مباشرة في مساء اليوم التالي. ليس بما ظلّ يعتقد هو وحتى اللحظة الأخيرة أنّه سيكون بالسّم. بل بمدية سجين آخر ممن أصيبوا بخيبة أمل في أثناء انتظار دورهم أن تجهض أحلامهم العتيقة على بعد خطوة من الوصول على يد "مخبول".
في بيت الحبشيات، الذي لم يسعفه الظرف على ما يبدو قطُّ أن يبدي حزنا على رحيل داعر في سجن، والذي واظب غندور الجمر على الرغم من مرارة التجربة الأولى تلك على زيارته شهريا، كان هناك غرفة مستطيلة واسعة ذات سقف مرتفع من الزنك المحجوب بخشب الأبلكاش مخصصة لمحدودي الدخل، وهي الغرفة التي درج الخال حسين الضاحك، منذ بواكير شبابه، وخاصّة في أعقاب صدمته العاطفية تلك، على ارتيادها كذلك دوريّا، ظنّا منه أنها ستعمل، بصورة غير مباشرة ولا بد، على تمويه حقيقة وضعه المادي الميسور لدى المسؤولين، وقد ورث عن أسلافه من الخير ما يكفيه لنهاية العمر، من دون الحاجة حتى إلى إنماء ما انتهى بين يديه. لقد أراد الخال عبر ذلك البوح أن يخبر ابن شقيقته خلال إحدى مرات ذهابهما معا إلى بيت الحبشيات سيرا على الأقدام أنّه لم يخف قطّ من غياب الطعام. ولما لم تبدُ الدهشة على وجه غندور بعدُ رأى الخال أن يسلك تاليا طريقا مختصرا ومباشرا لبيان حقيقة مفادها أنّه لا يهاب في "هذا الكون الفسيح برمته" إلا "السلطة". كان الخال ودائما ينطق كلمة "السلطة" بنبرة غامضة مشبعة بظلال الرعب محاطة بالحيطة والحذر وغارقة تماما في ملابسات مثل ذلك الاحترامي الآدمي الذي يُبدى عادة لِما قد يتكشف عنه سكون الحيّة، في أي لحظة.
كان يوضع على تلك الغرفة أسرّة متقاربة تفصل بينها ستائر داكنة، أما الإضاءة فتبدو فقيرة ليل نهار، وغالبا ما تعبق الجدران برائحة تبغ سجائر البرينجي الرخيص وأحيانا دخان البنقو المصحوب عادة ولسبب لا يعلمه سوى الشيطان بخيالات ما بدا هروبا جماعيا إلى اليابان وأبخرة طبيخ وجبة الأنجيرا الطازجة، ذلك الطعام المترع حد هيجان المصران بمسحوق الفلفل الأحمر الناشف، ناهيك عن رائحة الفروج المغسولة للتو وعلى نحو متعاقب بمطهر الفنيك وما ظلّ عالقا في الهواء الراكد من كثافة المني المتساقط على ملايات تبدو على الدوام كما لو أنّها خارجة للتو من داخل فم إحدى أبقار غابة قريبة في الجوار تدعى "أم الكنائس الطليقة".
كانت نوابض الأسرّة تصدر في الأثناء صريرها وصفيرها وأزيزها ذاك بالكاد من دون لحظة توقف واحدة. وكنّ ملكات تلك الغرفة على اختلاف أعمارهنّ يطلق عليهن لفظ "مستهلك". أي تجاوز عدد من دخلوا بهن حاجز الرقم 1000 حسب السجلات الرسمية للضرائب. كذلك، وغندور الجمر لا يزال يتذكر، كنّ يستقبلن زبائنهن في لحظة واحدة، متبادلات في بعض الأحيان عبر تلك الستائر بعض الشجون بلغة أمهرية، بينما يشرعن سوقهن المجهدة بآلية تامة، لجماعات الديوك، التي تحاول الظفر منهن من دون طائل بأكثر من الجسد. والنتيجة: خروج أغلب أولئك الديوك بعد انقضاء وهدوء كل شيء بهاجس واحد وحيد مذلٍّ ومسيطر: لا بد أن أعضاؤهم صغيرة لإثارة أنين وتوجع وصراخ أنثى على فراش.
وكانت توجد هناك، في قعر حوش بيت الحبشيات، على الطرف المقابل لغرفة المستهلكات تلك، غرفتان مبنيتان بالطوب الأحمر والسمنت، وهما مخصصتان لمن يطلق عليهم "أصحاب الطلبيات الخاصة جدا"، وقد فرشتا كلاهما بسرير ملوكي ومفارش تركية وسجاجيد فارسية ضاربة إلى الحمرة، وصورتك تطالعك في المرايا أينما نظرت داخلهما. وكانتا تضوعان طوال أيام العام برائحة الند والبخور الهنديين. ومعظم مرتادي هاتين الغرفتين كان من الأثرياء وكبار رجالات الدولة وبعض الهاربين من فروج زوجاتهم بأي ثمن. وقد كانت تظهر على وجوه أولئك الرواد بالفعل سيماء الملل والفقدان الكلي للإثارة. فضلا عن تلك الآثار اللزجة لأصابع الروتين القاتلة. أما المخصصات لهاتين الغرفتين من نساء فقد كان يطلق عليهن لسبب لا يعلمه سوى الشيطان مصطلح:
"مستخدمات للتو".
مع أنّه، خاصة في ظلّ براعتهن الساحقة تلك، وأساليبهن الشيطانية الماكرة، لا يوجد في العالم كله سبب واحد قد يثبت بالفعل أنّهن كذلك، أي مستخدمات للتو. وهذا بالضبط ما عده الخال حسين الضاحك كتاجر حاذق خدعة قذرة، في أعقاب أول وآخر مرة نام فيها، مع "مستخدمة للتو".
وكان المذياع يُوضع في كل غرفة داخل بيت الحبشيات على رف مرتفع قرب السقف. أي لا فرق حين يتعلق الأمر بموضع المذياع ما بين الغرف مجتمعة. وحدث وقتها أن بدأ المذياع اللعين في قطع إرساله المعتاد تمهيدا لإذاعة نكتة "السفينة أكلت لحمة بالفرن". وقد حدث ذلك بالضبط وعلى ما تم الاتفاق عليه سرا في اللحظة نفسها التي كان فيه الديوك يقفون على مسافات متفاوتة ولكنها قريبة ذلك القرب المثير للحزن أو الأسى من البسطة الحريرية الناعمة لقمة جبل اللذة. ولم تكن رفيقة الخال حسين الضاحك، التي بدت بشوشة ومقبلة على الحياة برغم المآسي أول الأمر، أي قبل إذاعة النكتة بقليل، وهي ترى وجه رفيقها يبتعد عن وجهها لاهثا ثم يقترب تدرك أنّها على بعد تذمر واحد من قبرها الفاغر كنداء، في ظلّ ذلك الحضور الحاد المتوجس الكثيف والجهم كحائطِ عزلة لسجينٍ مصاب ولا بد بداء الريبة. ثم تمر السنوات، ثقيلة بطيئة مكبلة باليأس والخنوع، فإذا بالمذياع اللعين نفسه يردد، على غير توقع، قائلا: "بيان هام". كان يتخلل ذلك موسيقى القرب العسكرية. يعقبها كذلك:
"بيان هام".
أخيرا، تناهى الصوت الجهوري للمذيع، قائلا:
"بيان هام".
ثم..
"أيها الأخوة المواطنون الأحرار. تسامى السادة الوالد الرئيس عن شرطه، وصعد إلى الأبد. توزع جلالته في الأرجاء. إنه يرعاكم الآن عبر ماء الأنهار وضوء الشمس وصخور الجبال وخصب الأرض وأنفاس الهواء. لم يعد محدودا". كان الخال حسين، الذي ظلّ يتستر على ذكائه بغبائه، قد مات بالسكتة القلبية منذ نحو أكثر من عقد، فلم يشهد تحقق ما ظلّ يضمره في أعماق أعماقه السحيقة كأمنية: "موت الرئيس"، لكن غندور بدوره لم يكن مستعدا لتقبل حدث ظلّ ينتظره العمر كله، وقد غدا ميلاد ابنه حمو، على يد الداية القانونية أم سدير منذ نحو العام أو يزيد قليلا، بمثابة لعنة حياته، التي على ما بدا لا فكاك منها، والتي لم تتح له في النهاية حتى فرصة أن يتساءل كغيره ممن أصيبوا بالفرحة الغامرة للزلزلة عمّا إذا كان ما حدث بمثابة "انقلاب أبيض" أم نكتة سخيفة أخرى لرئيس بدا على الدوام عصيا ومحالا، على الموت الزؤام نفسه.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.