لقد ودع السودانيون والفولانيون السلطان أبوبکر محمد طاهر سلطان الشعب الفولاني العظيم الذي رحل الي العالم الآخر في العام 2016م، تارکا خلفه حضارة إنسانية ممتدة وقديمة في التاريخ الإفريقي، شارك فيها بفکره وحکمته مؤصلا أسباب تطورها وبقائها، وإلتف الشعب حوله لإجمتاع سمات القادة في شخصيته وإنعکاسها علي سلوکه وسط المجتمع السوداني وتعامله مع وقائع التنوع السياسي والثقافي والإجتماعي لشعبنا بوعي، وتمکن من صنع التوازن والإستقامة في إدارته لشؤن شعبنا ومد علاقاته مع الشعوب الآخري، وعمل علي نشر السلام والدعوة الي التعايش السلمي وربط وشائج المحبة والتصالح والتصافي وسط المجتمعات السودانية، وتعتبر هذه القيم من أساسيات الحضارة الإنسانية بکل تصوراتها وأبعادها الکونية. وکانت السلطنة بوابته التي ولج من خلالها السلطان أبوبکر الي فضاء الحضارات النورانية السامية سمو سماء السودان، مرتکزا علي إرث وتجارب وتعاليم مدارس الفولاني الثقافية والسياسية التي إكتسبها في رحلة عمره الطويلة، وكانت النهضة الفکرية لشعبنا قائمة علي مبادئ وقيم أخلاقية تكونت عبر عقود قديمة، وعمل السلطان جاهدا لنشرها بين المجتمع، وتمثل مسودة دستور امتنا ومنهج يقودنا لمعرفة الكثير عن تاريخ السودان وتنوعه. وهنا نود التوقف كي نتطرق لبعض المواقف التي جمعتنا مع السلطان الراحل خلال السنوات السالفة، ونتناول (روشتتنا) المبسطة علي مسرح الحراك السياسي والثقافي والإجتماعي الذي دار في الفترة السابقة، لنذکر شعبنا بتاريخ لم ينسي ولن تطوي صفحاته البيضاء، وستظل خالدة أبد الدهر. ونذکر أن أبو بکر محمد طاهر قد وهب حياته لنشر وتأصيل مفاهيم السلام بين السودانيين، وکان من أوائل القادة الذين أيدوا إتخاذ الحوار السلمي كمسلك لحل الصراعات السودانية المختلفة، والتي كانت قائمة منذ ميلاد الدولة السودانية الحديثة التي نالت الحرية من سلطة الإستعمار الإنجليزي المصري، حيث إندلعت الحرب ووقع اول إنقلاب عسكري في تاريخ الدولة السودانية بعد ثلاثة سنوات فقط من عمر الإستقلال، والحرب تم تدويرها وتحويلها عن مساراتها المطلبية الآولي، لتکون حرب دينية وجغرافية ولونية وسياسية خاصة بعد سطوة الجبهة الإسلامية علي السلطة في السودان، وإستخدم فيها سلاح القبائل الذي فتك بالمجتمع وحوله إلي مجموعات متصارعة علي خلفيات سياسية أنتجها النظام مستغلا كل التناقضات الإجتماعية واضعا تنوع المجتمع في غير موضعه، فبدلا من إستخدام التنوع لصالح النهضة استخدم للحرب والتخريب، فكانت النتيجة (صفر). وعندما تم توقيع إتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) في العام 2005م بين الحرکة الشعبية لتحرير السودان والحکومة السودانية، رحب بها السلطان أبوبکر وأعلن تأيده لها لأنها تلبي أشواق وتطلعات الفولاني والسودانيين كافة، وتتمثل في تحقيق السلام العادل وتعايش الشعوب بالمحبة لا بالکره والتسلط. ويذکر التاريخ القريب مواقف السلطان مع رفاقنا والتي تجلت في تبادل الزيارات بشكل مستمر، وكانت مبادلتهم له (الحب والتقدير)، وشهد منزله تجمع عشرات الآلاف من المواطنات والمواطنين لإستبقال أول وفود السلام بقيادة نائب رئيس الحرکة الشعبية لتحرير السودان القائد/ جيمس واني إيقا، ثم تلتها زيارة الأمين العام الحالي للحركة الشعبية لتحرير السودان - السودان القائد/ ياسر عرمان، ومن بعدها زيارة وفد وزراء الحرکة الشعبية بقيادة حماد آدم حماد والشيخ الصابونابي، ثم وفد بقيادة الرفيق الصحفي دينق أکوج وعدد من الصحفيين والساسة، وزيارات آخري متتالية من رفاق الخرطوم والنيل الأزرق ومن داخل ولاية سنار کثيرا ما قادها الرفاق منهم الراحل وليام قوبيك ووزيرة الصحة الولائية علوية کبيدا ومرشح الحركة لمنصب الوالي في انتخابات 2010م عمر ابروف ورئيس الحركة الشعبية سيد عبدالکريم والرفاق جلال حکومة وعادل ابراهيم وخالد شاويش وغيرهم من الرفاق وقتئذن. کما سجل السلطان وقتها زيارة تاريخية لرئيس الحرکة الشعبية الحالي ووالي النيل الأزرق المنتخب القائد/ مالك عقار. وعندما وقعت حادثة وفاة الدکتور القائد/ جون قرن دي مبيور مؤسس الحرکة الشعبية، کان السلطان أبوبکر محمد من أوائل قادة الإدارة الأهلية بسنار الذين حضروا الي دار الحرکة الشعبية لتقديم واجب العزاء متأثرا بما أصاب السودان برحيل القائد الميمون جون قرن. وفي المؤتمر العام الثاني الذي عقدته الحرکة الشعبية لتحرير السودان بمدينة جوبا عاصمة دولة جنوب السودان، بعث السلطان أبوبکر برقية تهنئة الي المؤتمريين يبارك لهم إنعقاد مؤتمرهم العام. ولم نطرق باب السلطان أبوبکر يوما لأي مسألة من المسائل العامة إلا وجدناه مرحبا ومسرورا بقدومنا إليه، حيث کان يجلس للإستماع الي خطابات الرفاق بتشوق، وكان دوما يعطينا إشارة الدعم والمساندة في مشوار التغيير. وعندما وقع إنفصال جمهورية جنوب السودان، وشن النظام حملة إعتقالات واسعة لعدد کبيرة من الرفاق بموجب أوامر السلطة الإنقاذية التي هدفت لتعطيل اعمال التغيير وتبديد آمال السودانيين في الأمن والسلام، وجدنا السلطان يقدم لنا الدعم الأبوي الإنساني ويرفع معنوياتنا لنتحمل ما نحن عليه ويخفف عنا المعاناة ويصبر أهالينا حتي خرج من خرج من معتقلات النظام الإنقاذوي. وأذکر حينما شن أتباع المؤتمر الوطني حملتهم الخاسرة علي دار الحرکة الشعبية بالوحدة الإدارية مايرنو، وفتح بلاغ ضد رفاقنا تحت أکذوبة اطلقنا عليها اكذوبة (بلاغ الخمر)، التي فضحت سلوك الإنقاذيين وخبثهم حين لا يستطيعون الثبات في منازلة سياسية حرة امام خصومهم، ونذكر حادثة (بلاغ الخمر) هذه للتاريخ ولكشف إنحطاط اخلاق منسوبي المؤتمر الوطني، وهم يفتحون بلاغهم في وقت لم تفتتح الحركة الشعبية دارها بعد، وكانت في مرحلة التجهيز والإعداد وتهيئة الدار. أعاب السلطان أبوبکر مسلکهم هذا وتولى القضية عدد من المحاميين من الحركة الشعبية، ولكن في نهاية الأمر تمت تسوية القضية بحضور الرفاق وليام قوبيك والمهندس أويل وغيرهم بوساطة من السلطان الراحل، وبعد إفتتاح دار الحرکة الشعبية أرسل السلطان إشارات إرتياحه للبرامج المقامة بدار الحرکة الشعبية ومنها (کورسات اللغة الإنجليزية ومشغل متکامل للنساء وکورسات الهلال الأحمر وجلسات تثقيفية في عدت محاور وندوات سياسية ودورات رياضية وأمسيات شعرية وغنائية) وحضر السلطان بعض مناشط الحرکة الشعبية لتحرير السودان. والرسالة التي اراد أن يضعها بين أيدي شعبنا وقواه السياسية والإجتماعية هي رسالة تقبل الآخر وتعميم ثقافة السلام والعدالة بين الشعب السوداني. کما کانت إتفاقية السلام الشامل بادرة لجمع أهل البلاد تحت سقف السودنة في دولة مواطنة وديمقراطية، وقيام دولة ذات إقتصاد متطور تراعي حقوق المجتمع في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه وتعليمه وعلاجه، والخروج من نفق الحرب والصراعات الحزبية التي تؤسس للتفرقة العنصرية والجهوية وكل اشكال التخلف السياسي الذي احاط بالسودان والسودانيين في عهد الحكم الإنقاذي الإسلاموعسكري. ولما کانت تلك القيم تمثل بنيان للعلاقة التاريخية بيننا وسلطاننا، نشهد بسعيه لمنع نشوب الصراعات العنصرية في السودان، وکانت له أدوار ملموسة في حل صراعات الفولاني والقبائل الآخري، خاصة في دارفور وشرق السودان، وفي ولاية سنار عندما صرح الوالي العنصري أحمد عباس بحديث عنصري تجاه الشعوب الغير ناطقة باللغة العربية، واعتبر وجودها من موانع تقدم الولاية وسبب مباشر لتدني تحصيل الطلاب في مادة اللفة العربية علي حد قوله، وخرجنا وقتها مع ثوار مدينة مايرنو وتضامن ثوار سنار متظاهريين ومنددين بالعنصرة والتصريحات العشوائية الغير مسؤلة من قادة المؤتمر الوطني، کانت رسائل السلطان تصلنا عبر موقفه الرافض لمحاصرة منازلنا من قبل الأجهزة الأمنية وإعتقال بعض شباب الثورة، وعند خروجنا من معتقلات ومنافي النظام، زارني السلطان علي عجل، قضينا نصف ساعة تقريبا نتحدث عن وضع المنطقة وتباين المواقف بين القادة السياسيين والمثقفين والإدارة الأهلية، وإتفقنا علي أن الجميع يعمل لصالح السلام، وللجميع حقوق متساوية، وللكل حرية إختيار وسائله السياسية في الشأن العام، وأن ما حدث لن يؤثر علي العلاقات الإجتماعية بين شعب سنار، وأن الذين يتعمدون تسديد رماح العنصرية لن يصيبوا الهدف الذي اردوه، وكل ما إلتقيت به شدني لمحاورته بتواضعه وطيبته، وكنت كثير التردد علي منزله. نذکر کل هذه المواقف وغيرها من المواقف التي تختبئ في منحنيات العقل ومنعرجات التاريخ وحتما ستخرج يوما ما، هدفنا التأکيد علي نظرة السلطان القومية وتعامله بحکمة ناضجة مع کل فئات المجتمع ورکزنا علي المجالات السياسية والوطنية لأنها تمثل الإطر الأوسع والأهم في علاقتنا الإستراتيجية التي تجمعنا به، وبهذا نبرز الشخصية التي کنا نلتف حولها ونحاول عکس مضامينها البعيدة لمن يعرفها شکلا، ونعلم أن هناك من يحاولون طمس هذه الحقائق ولكنها باقية لا تجرفها سيول ولا تمحيها الرياح، وكثيرا ما هام الإنقاذيين حول الإدارات الأهلية وعملوا علي إستغلالها في صراعاتهم الحزبية والإيدلوجية حتي إنقسم السودانيين كشطري (فولة)، وهذا ما جرى في تطبيق سياسة الإستقطاب السياسي والديني الحاد خلال حرب الجنوب والحروب التي تلتها، فتكونت مجموعات جهادية مؤدلجة باوهام المشروع الحضاري، وفي نهاية المطاف تخلت الحكومة عن تلك المجموعات، وحتي لا تستمر الحكومة في إستغلال المجتمع نرى ضرورة مراجعة التاريخ وفحصه (نقطة نقطة)، كما يجب العمل علي تحويل الإدارة الأهلية في كل السودان إلي مراكز تشجع السلام الإجتماعي بالدعوة إلي التعايش السلمي، وفي هذا الصدد كانت هناك مبادرة طرحتها قيادة الحركة الشعبية حول عقد مؤتمر للقبائل السودانية خاصة التي تقطن بكثافة في الريف السوداني، ونجد في هذه المبادرة فرصة لإعادة تهيئة المناخ الإجتماعي وتحقيق السلام والتعايش الإنساني بين بين مكونات المجتمع، ونشجع المضي في هذا الطريق حتي يأتي السلام الحقيقي. وفي ختام الحديث حول شخصية السلطان في الحقبة التي عاصرناه فيها، والحديث عن متغيرات ماضي العمل السياسي عبر التاريخ، لا يسعنا إلا أن نترحم علي السلطان، ونتمني لروحه أن ترقد بسلام وسنعمل من أجل السلام. سعد محمد عبدالله [email protected]