علي شرف الذكري الثانية والثلاثون لشهيد الفكر الأستاذ/ محمود محمد طه نتشرف لطرق موضوع مغاير عما هو مألوف في مثل تلك المناسبات الجليلة، وهو محاولة لطرح فكرة او موضوع قل ما تم تناوله بالدراسة والتحليل العميقين، وهو الأثار السالبة لفقدان الرموز في مجتمعات العالم الثالث عامة، وفي مجتمعنا السوداني علي وجه الخصوص . وللأمانة والتاريخ ان الفكرة تخمرت في ذهني، وبشكل كثيف، في إبان انتعاش (داعش) وتجاوزها للهلال الخصيب في العراق وسوريا ودخولها (للحوش) من خلال بوابة مأمون حميدة الجامعية ، بتبني أبناء وبنات (دعاة الجهاد/90) الذين كانوا يحرضون ويحثون أبناء الشعب السوداني علي الجهاد والقتال في الجنوب ! وللأسف الأسيف ان معظم الدعاة/ الفقهاء/ العلما انبروا يدبجون المقالات والفتاوي المنتقدة لأفعال (داعش) البربرية اللا إنسانية وانها لا تمت للإسلام بصلة ... و ... الخ، وتبرأوا من (داعش) المتطرفة بإعتبار أنهم (وسطيين) دونما توضيح للحدود الفاصلة بين الوسطية والتطرف، علي مستوي التنظير او الفكر . كطرح فكري وليس سياسي ولم يتجراء أي منهم علي مناقشة (الجهاد) كفكرة، ولم يتطرق أي منهم لتوضيح الفرق في مفهوم الجهاد الذي تبنته دولة المشروع الحضاري والذي راح ضحيته أكثر من نصف مليون من أبناء الشعب السوداني و أدي لانفصال جزء عزيز من الوطن، وبين مفهوم الجهاد الذي تتبناه وتمارسه (داعش) الأن ! ما الذي يجعل ما كان بالأمس فرض عين، ولا جزاء له الا الجنان والحور العين، و اليوم أصبح فعلاً ذميماً منكراً ارهابياً ومتوحشاً ؟؟ رغم وحدة الهدف والمنهج و تطابق الشعارات، وقبل ذلك ان مصادر التشريع هي نفسها لم تتغيّر ولم تتبدل ؟! إنها ازمة الفكر العربي الإسلامي والذي تتمظهر بشكل أكثر جلاء في مثل تلك التناقضات الفاضحة، بين مستوي التنظير/ الفكر صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان و بين الممارسة العملية، المتعارضة والمتناقضة ليس مع حقوق الإنسان فحسب وانما مع الفطرة الإنسانية او الأدمية في أدني مراحل سيرورتها، وللتذكير استحضر هنا رأي الدكتور والباحث الإسلامي الإستراتيجي / حسن مكي والذي إختصر واختزل وابتزل (الموضوع) في : [داعش احسن من ادمان المخدرات] !! وكأن الإنسانية كلها ليس لها سوي خيارين لا ثالث لهما اما ان تكون (مسطولاً) او مهووساً ! المقالات الوحيدة المغايرة والتي صدرت في كُتيب فيما بعد هي مقالات الاستاذ/ خالد الحاج متعه الله بالصحة والعافية وهو مستمد من كتابات الفكر الجمهوري ورؤي الاستاذ/ محمود محمد طه حول موضوع الجهاد . بداهة ان تقدم وتطوّر الشعوب هو محصلة تراكم معرفي/ ثقافي ونضالي تنتج عنه أفكار ورؤي جديدة تدفع بعجلة التطور والتقدم للأمام، في شكل تطور حلزوني صاعد يأخذ من الموروث/ القديم ماهو إيجابي، في سيرورته . وأي كوابح او انقطاع الوصل تحدث بموجبه ردة وتراكم الردات هو المحصلة الطبيعية للتخلف وهو ما نعانيه اليوم . وفقدان الرموز هو إحدي تلك الكوابح التي أعني، بالموت او الإغتيال المباشر والغير مباشر او بإغتيال الشخصية، أعداء الإنسانية ابتدعوا وبرعوا في ذلك ولا زالت سارية المفعول بشكل ناعم وخشن أحياناً ، في العالم الثالث بشكل خاص، وفي العالم المتحضر (الغربي) انحسرت وتلاشت ، لعدم جدواها فدور الفرد/ الرمز قد تقلص في المجتمعات الديموقراطية/ الليبرالية حيث حلّت الموسسة مكان الفرد . وبما ان دور الفرد /الرمز مؤثراً غي المجتمعات القبلية الرعوية وشبه الرعوية يتعاظم الدور السلبي لفقدان الرموز خاصة في مثل مجتمعنا السوداني الذي اعتاد المشافهة وتندر فيه تدوين المذكرات وبالتالي التسجيل الموجب للرؤي والافكار وفق تصور حامليها، فما اكثر الافكار النيرة والتنويرية التي قبرت في لحود الرموز، بل نطالع رؤاهم وافكارهم بتشويهات مخلة ومقصودة من خصومهم والذين هم وحتي الان يتربعون علي منابر الاعلام ومخرجات وسائط الفكر والثقافة (الرسمية) . هذا لا يعني التقديس المطلق للفرد/ الرمز (الكارزما) ودوره الاحادي في المجتمع والنفي القاطع لدور الشعوب ، فالشعوب تعبِّر عن فقدانها للرموز بشكل وجداني من خلال اقامة ليالي التأبين واحياء الذكري وترديد الاشعار الداعية للتماسك والصمود وشحذ الهمم وتطبيب الجراح الناتجة عن فقدان الرموز الجلل، وهذا شكل من اشكال المقاومة الناعمة جداً، والتي لا تتناسب مطلقاً لمقدار ماحققه اعداءهم من انتصار، واضعين في الاعتبار (تخانة الجلد) و (برودة الدمّ) التي يتميز بها خصومهم من سائر (خلق الله) . والتي عبّر عنها احد شباب شرق السودان بشكل عفوي وبلا لف او دوران فعندما وجد نفسه في خضم احدي المظاهرات الطلابية وكان الهتاف المجلجل :[مقتل طالب مقتل أمة] فحرّف الهتاف او صحّحه [ تكتّل طالب نكّتل امك] . فقدان الرموز خاصة في مجال الفكر والثقافة والابداع ساهم في خلق واتساع الفجوة الجيلية والتي قادت او كادت ان تفصل الإنسان السوداني عن تراثه وارثه الثقافي والفكري والابداعي مما انتج لنا كل هذه السطحية واللاعقلانية والاسفاف ، الذي تجلي في القبح المادي والمعنوي في مختلف ضروب حياتنا . لك التحية والتجلة ايها الشهيد الهمام وانت تغادرنا للضفة الاخري، في يوم الجمعة 18/ يناير1985م وانت تودعنا بابتسامتك الوضاءة وانت تصعد الي منصة الخلود، سوف تظل تلك الابتسامة هويتنا وما يميزنا عن سائر(الملل) من عرب وعاربة ومستعربة ، ونتمني ان نكون كما تمنيت ... شعب الله المختار ، ولنا ولكم/لكن حسن المآل وكل يناير وانتم بخير . عثمان عبدالله الحصاحيصا 18/يناير2017م [email protected]