بسبب الطفرة العشوائية الهائلة في مجال التعليم الجامعي عندنا، صار فتح جامعة أو كلية أسهل من فتح كشك فول طعمية، وهناك مدارس خاصة، يملكها ويديرها أشخاص لا يملكون خبرة حتى في إدارة زريبة بها ثلاث معزات وتيس نُص كُم، ولا أفهم كيف يُسمح بتحويل مبنى/ بيت سكني أقل من «عادي» الى مدرسة؟ ألا توجد مواصفات من حيث المساحات وسعة غرف الدراسة؟ وكلما كتبت عن حال التعليم الراهن تذكرت ما قاله اللواء طلعت فريد، وزير التربية والتعليم في حكومة الفريق إبراهيم عبود، لإدارة مدرسة متوسطة في الخرطوم، لم تنجح طوال أربع سنوات متعاقبة في توصيل طالب واحد الى المرحلة الثانوية، وكانوا قد دعوه لحضور مهرجان نهاية العام الدراسي ل»يخمُّوه» بعروض طلابية، فقال: علي بالطلاق، السنة الجاية اسمع في الراديو ان مدرستكم لم ينجح منها أحد، أقلبها ليكم طابونة (مخبز)،ولم تخيب المدرسة ظن طلعت فريد، الذي كان عند كلمته وأغلقها وسكتنا على الجامعات البروس، التي صارت تنبت فجأة دون حاجة الى رعاية او سقاية، بينما جميع جامعاتنا الرسمية غارقة في الديون، (في مطلع يناير الجاري قالت جامعة الخرطوم لمن دخلوها بالشهادات العربية: هاكم المصاريف التي دفعتموها بالجنيه، وأعيدوا سدادها، ولكن بالدولار! ألا يعني ذلك أن الجامعة تريد بيع الدولارات في السوق السجم رمادية؟ وإلا فلماذا لم تقرر رفع الرسوم بالجنيه السوداني بما يعادل قيمة تلك الدولارات؟) وصارت عندنا مكاتب كحيانة تعلن على عينك يا تاجر عن استعدادها لتزويدك بما ترغب من شهادات: ادفع وخلي الباقي علينا. ونشاطها معلن ومع هذا لا تتعرض للكشات والمداهمات التي تتعرض لها ستات الشاى ، مع ان الشهادات المزورة أكثر ضررا من – حتى – عرقي العيش، الذي يسبب التهاب الجيوب الأنفية لمن يجاور شاربه، والخمر عموما تؤذي في المقام الأول شاربها وربما القريبين منه، بينما صاحب الشهادة المزورة يؤذي الشعب بأكمله. وأخطر ما تشهده بلادنا هو ان الاستخفاف بالتعليم وصحة الناس مسكوت عليه، لا شيء يمنع بائع فول من ان يحصل على ترخيص عيادة طبية، وقد يوكل أمرها الى أطباء مؤهلين، ولكنه يظل يديرها بعقلية بائع الفول،والبقالات الطبية تسيء الى سمعة عيادات ومجمعات طبية تدار على أسس مهنية وأخلاقية، لأنها – أي البقالات- تعرض خدماتها بأسعار مخفضة فيتهافت عليها المرضى، إلى ان يتضح ان من أتاها مصابا باليرقان، خرج منها مصابا بالفشل الكلوي، فيعمم الناس «الأحكام»، ويتهمون كل العيادات الخاصة بالبلطجة. ولكن أكثر ما يخيفني هو ان الدجالين والمشعوذين يمارسون نشاطهم جهارا نهارا، ويضعون يافطات على واجهات بيوتهم تقول إنهم يعالجون السرطان وعين الحسود والشلل الرباعي والإيدز، وتحت لافتات العلاج بالقرآن يمارس البعض الهوميوباثي وهو طب الأعشاب القائم على معطيات علمية (ومع هذا لا تعترف به معظم الجمعيات الطبية في العالم). يحتفظ الواحد منهم بتشكيلة من الأعلاف في «صُرر» قماش، قد تكون مقتطعة من سروال قديم، ويهمهمون ويتفتفون عليها، ويصدرون التوجيهات: اطحن هذا العشب جيدا في هاون/ فندك / إياك والسحان الكهربائي لأنه منزوع البركة ، ثم اخلطه ببرسيم فريش، واحشره في أنفك بعد العشاء، بل أن من يمارسون كتابة التعاويذ والتمائم، وهم بكل المقاييس أفاقون كذابون، معروفون ولا يتعرضون لأي مساءلة،ولا حاجة بهم الى دعاية، فضحاياهم من الأغبياء ينسبون اليهم الخوارق، لأن من يضع ثقته في دجال، لا يميز بين الخوازيق والخوارق أليس الدجالون والمشعوذون خطرين على الأمن الاجتماعي والثقافي والديني، أكثر من الصحفيين الذين يقولون ما لا يعجب أهل السلطة، رغم أنهم يقولونه علنا، دون الزعم بأن قولهم له فعل السحر؟ الصحافة