جميلٌ أن نرى وزارة العدل تدخل على خط الكارثة التي أودت بحياة المئات من شباب السودان. ورائعٌ أن نرى وزير العدل الدكتور عوض حسن النور، يكشف – في حالة نادرة – عن خطوات لرفع الحصانة عن بعض المتهمين بقتل متظاهري سبتمبر ممن خرجوا يرفضون العنت الحكومي المتمثل في زيادة أسعار الوقود في العام 2013م.. جميلٌ ذاك، ورائعٌ هذا، لكن أليس من الغريب أن تمر على الحادثة ثلاثة أعوام ونصف العام، دون أن تتدلى رقبة أحد الذين حصدوا رقاب الشباب في سبتمبر، من على المشنقة..! وظني أن التحدي يكمن في هذه الجزئية تحديداً. فليس من المنطق ان تُقيّد غالبية بلاغات مقتل متظاهري سبتمبر ضد مجهول، في حين أن الشواهد القائدة إلى القتلة ليست – أو ما ينبغي أن تكون – عصية على الدولة وأجهزتها..! لكن مع ذلك فإن واقع الحال يحفزنا لكي نصفِّق لوزير العدل كثيراً، لأنه تجاسر على السياج الشائك، ولامس محطات الضغط العالي، واقترب من عش الدبابير الذين يُحصِّنون أنفسهم ومنسوبيهم بترسانة من الموانع. انظر إلى الرجل تجده يكشف عن مواقف فارقة تهيّبها سابقوه على المنصب، وتجده يزيح النقاب عن خطوات تبدو نادرة إذا قيست بمقياس وزراء الإنقاذ، وخاصة مساعيه لرفع الحصانة عن بعض منسوبي الأجهزة الأمنية، ممن اختصمهم أهالي شهداء مظاهرات سبتمبر. وهذه المعلومة – تحديداً - صدع بها الوزير في المقابلة الصحفية التي أجراها معه الزميل عبد الرؤوف طه، والتي تجدونها طي الصفحة الخامسة من هذه الصحيفة. قلت إن المنطق يجعلنا نشير إلى بعض تحركات وزير العدل التي ما تأتّت لأسلافه، ممن عاجزهم وغالبهم فتح الملفات المسكوت عنها، حتى إن بعض تلك الملفات ظلت حصينة ومنيعة، تغلفها ديباجة كُتبت من علٍ تقول (يُحفظ بعيداً عن أيدي صُناع القرار العدلي). بل إن الأمانة تفرض علينا أن نعطي الوزير الجديد حقه، وهو يتحدث بلغة ما توافرت لسابقيه على المنصب والكرسي الوثير. لكننا لن نندفع بحيث تعمى عيوننا، أو تتعامى عن عجز الوزير عن تقديم كل المتهمين بقتل متظاهري سبتمبر إلى المحاكمة. وهنا لا نطلب منه سوى أن يقلِّب دفاتره كارثة سبتمبر التي تساقطت فيها أرواح الشباب مثل عناقيد العنب، ليجد أن الأزمة أكبر من التصورات، ذلك أن من قضوا في أربعة أيام - فقط - فاق عددهم من قضوا في ثورة 25 يناير التي أطاحت بالرئيس المصري حسني مبارك..! وما ينتقص من موقف وزير العدل، هو أن الرجل - المحسوب على التكنوقراط - يتحدث عن ضرورة التجاء أسر الشهداء إلى العدالة، في حين أنه لم يتم إعدام شخص - أو أقله - محاكمته بتهمة قتل أحد المتظاهرين، لكون ذلك محفزا للآخرين. بل أن غالبية البلاغات التي تم تحريكها – إن لم تكن كلها - قوبلت بتسويف كبير من قبل الأجهزة الحكومية. الثابت أن موقف وزير العدل الحالي، يبدو متأنقاً وحافلاً بالإجادة، حينما يُقارن مع مواقف سابقة مصدرها الحكومة نفسها. انظر إلى أحاديث أهل المؤتمر الوطني تجدها منصبة ومحصورة في تعويض أسر ضحايا شهداء سبتمبر، وهذا أمرٌ ينم عن رؤية تبسيطية غير مبررة لقضية الشهداء العادلة. آه، نسيتُ أن أربت على كتف الحكومة بسبب قرارها القاضي بتعويض أسر الشهداء. وقطعاً، سوف أنسى التساؤل عن السبب الذي يجعل الحكومة تدفع دية الشهداء، هل من باب المسؤولية العامة عن المواطنين، أم من باب الشعور بمسؤولية أخرى؟! الصيحة