"يظهر العناد عندما تحاول الإرادة أن تقحم نفسها في مكان العقل" .. آرثر شوبنهاور ..! العناد يكثر في بواكير العلاقات العاطفية، لأن كل طرف يكون في حالة تشكك بمشاعر الآخر، فيجتنب الصراحة ويظهر خلاف ما يبطن، حتى ينفي عن نفسه تهمة "الخفة والكبكبة".. إلى أن تأتي تلك اللحظة ال "ماستر سين" التي تسقط فيها الأقنعة وتذوب الثلوج.. عندها يسود الاطمئنان وتتبدد المخاوف والشكوك .. فيكون الاعتراف في تلك المرحلة هو سيد الأدلة .. إنما كيف يصل الطرفان إلى هذه النقطة، أو كيف يتجاوزان تلك اللحظات العصيبة التي تسبق المنعطف إياه ..؟! مشهد الاعتراف هذا جسده أستاذنا فضل الله محمد في أغنية "الجريدة"التي لحنها وشدا بها الموسيقار محمد الأمين بأسلوب عبقري .. تلك الأغنية هي في تقديري لوحة سوريالية مختلطة الألوان، تعبر بمنتهى التركيز والتمييز والحصافة والكثافة عن تناقضات لحظة النطق بالحب بكل نتوءاتها اللدنة وانبعاجاتها القاسية ..! أغنية الجريدة كلماتاً ولحناً وأداء هي تجسيد ثلاثي الأبعاد للحظة النطق بالحب.. بكل ما تزخر به من خوف وتردد وتذبذب عنيف لمؤشرات الثقة بالذات وبالحظوة عند الشريك .. عندما يقول العاشق الذي يتقاذفه التردد يمنة ويسرة: "بتقري في إيه؟ كلميني"؟! .. فهو ينتهج السلوك التقليدي في البحث عن "مدخل" لطرحه الخطير .. يتظاهر بالاهتمام بشيء هو في الحقيقة آخر ما يهمه..! يسأل عن كلام مرصوص في قطعة من الورق تكتسب قيمتها الخاصة من أصابع الحبيبة التي تمسك بها متظاهرة باهتمام لا وجود له .. أي أن "الجريدة" هنا تحل محل "الكديسة" في السؤال أو المدخل التقليدي في النكتة الشهيرة إياها ..! ويحنما تعاند الحبيبة وتكابر فيستعطفها "اسمعي وطاوعيني مرة.. أيوه ما تخليك عنيدة".. لكنها كشأن كل بنات حواء "تزوِّد الحكاية"، وتستمرئ العناد فينقلب السحر على الساحر ويصاب العاشق المتململ على كرسي الاعتراف بالعدوى.. فتتحول الكلمة واللحن والصوت والنبرة إلى حزمة موسيقية مشعة ونابضة بعناد عاطفي بديع: "عايز أقول لك.. ما بقول لك.. ليه أقول لك؟.. زي عنادك عايز أعاند" ..لكن أمواج الحب الهادرة لا تلبث أن تهدم قصر العناد الرملي الواهي: "لكن يظهر ما ح أقدر.. أمري لله.. عايز أقول .." ..! في هذه الأغنية وفي غيرها ارتبط العناد بالأنثى الحبيبة وتواضعت الأعراف العاطفية على امتزاجه بالدلال والتمنع.. إلى آخر هذه الصور الطريفة لسلوك الأنثى في علاقتها بالرجل الذي تبادله المشاعر لكنها تمعن في المكابرة، إما عن حياء حقيقي أو مصطنع، أو لقناعة أنثوية مفادها أن تدليل المحبوبة هي الوظيفة التاريخية لكل العشاق ..! هكذا كان الحال إذًا!.. والجميع متصالح مع فكرة العناد باعتباره نقطة إيجابية في صالح المحبوبة، إلى أن خرج علينا بعض العلماء بحقيقة علمية جديدة "مسيخة"، مفادها أن العناد العاطفي ما هو إلا "عيب خلقي" تسببه تشوهات جينية يحملها نحو "30%" من سكان الأرض.. وذلك وفقا لدراسة أجراها علماء كبار من ذوي الياقات البيضاء والعقول النيرة، وكشفت نتائجها عن أن العناد يرتبط بتشوهات بعض أنواع الجينات وأن المصابين بهذه التشوهات لا يعيشون حياة صحيحة بعكس الآخرين من غير المصابين بها ..! فليكن.. تشوهات جينية.. تشوهات جينية.. إنما يظل عناد الأحبةهو ملح الحياة وبهارها "الحراق" الذي يلهب العبرات ويسيل الدموع،فيُكمل المبنى، ويسمو بالمعنى ..! اخر لحظة