في 19 يوليو من عام 1971، أي بعد نحو عامين من انقلاب 25 مايو 1969 الذي أوصل نميري الى الحكم، رفقة عدد من الضباط من الرتب الوسيطة، حدث أغرب انقلاب عسكري في تاريخ العالم، بأن تحرك الضباط الشيوعيون ورفاقهم اليساريون نهارا جهارا، وكشوا نميري وبقية أعضاء مجلس «الثورة»، أي احتجزوهم، وكان نميري قد تخلص من ضابطين شيوعيين في مجلس الثورة، هما هاشم العطا وبابكر النور سوار الدهب، في 16 نوفمبر من عام 1970 ومعهم الضابط اليساري فاروق حمد الله مهندس انقلاب مايو بكل تفاصيله. وقعت بعض قيادات الحزب الشيوعي وأعضائه في حيص بيص، فقد عارض الحزب انقلاب مايو، متعللا بأنه لا يقر الانقلابات العسكرية كوسيلة لإحداث تحولات عميقة تمهد للتحوُّل الاشتراكي، لأن الحزب أصلا يرفض «حرق المراحل»، ولكن انقلاب 19 يوليو حدث بنفس منطق انقلاب 30 يونيو 1989: نتغدى بيهم قبل ما يتعشوا بينا! ثم خرج موكب تأييد ضخم للانقلاب على نميري، حشد له الحزب كل خبراته الواسعة في تحريك الشارع، وتعالى الهتاف: سايرين سايرين في طريق لينين .. كل السلطة بيد الجبهة. ولكن ما يصير أن تقرر أن طريق الحكم هو تعاليم ماركس ولينين، وتقول في نفس الوقت أن السلطة الحاكمة ستتألف من عناصر غير شيوعية في إطار جبهة عريضة «ولو أرادت تلك العناصر السير في طريق لينين لانضمت للحزب الشيوعي». وكما هو معروف، فإن انقلابا مضادا أعاد نميري للحكم مسنودا بكل القوى المناهضة للشيوعيين، وعلى رأسهم من عارضوه من «قولة تيت» في 25 مايو 1969، بعد ثلاثة أيام من الإطاحة به، وأعدم نميري الضباط الشيوعيين بالجملة في سلاح الدبابات في الشجرة، وتم إعدام ثلاثة قادة شيوعيين شنقا في كوبر «عبد الخالق محجوب والشفيع احمد الشيخ وجوزيف قرنق» وتم الزج بآلاف الشيوعيين في السجون، وفي سجن كوبر ردد شيوعي خفيف الظل: طلعنا نقول: كل السلطة بيد الجبهة وهسع كل الجبهة بيد السلطة!! وتحضرني مقولة كان يرددها أبو القاسم محمد إبراهيم، الوحيد من بين ضباط انقلاب مايو الذي ظل قريبا من نميري حتى «النهاية»، ليذكر الشعب بفضل من قاموا بالانقلاب عليه: يوم حملنا رؤوسنا على أيدينا من خور عمر في 25 مايو، فكان تعقيب معارضي الانقلاب: ومنذ ذلك اليوم ونحن «نضع» أيدينا على رؤوسنا. الانقلاب الذي قاده المقدم حسن حسين في سبتمبر 1975، انتهى قبل أن يبدأ، وخلا البيان الذي نجح في تلاوته عبر الإذاعة وهي الجهة الوحيدة التي نجح جماعته في احتلالها، خلا البيان من عنتريات لفظية، وقيل إنه أُعد على عجل بعد ضياع البيان الأصلي. وفي يوليو من عام 1976 كاد نظام نميري أن يروح فيها، لولا خذلان القيادات السياسية المدنية، محاولة انقلابية كانت أيضا فريدة من نوعها، قادها العميد محمد نور سعد، فلأن المحاولة كانت من ترتيب الجبهة الوطنية «الاتحادي والأمة والاسلاميين» فقد دخل المشاركون فيها العاصمة بملابسهم المدنية، ورغم أن التنظيمات الثلاثة كانت بالتأكيد تحظى بجماهيرية عالية، فقد نجح إعلام نميري في إقناع الجيش والرأي العام بأن البلاد تتعرض لغزو من مرتزقة، بدرجة أن المحاولة صارت تعرف بين الناس ب»غزوة المرتزقة»، وهو أمر يقوم شاهدا على قوة الكلمة وأن ترديد أكذوبة معينة يكسبها «صدقية»،وأن الإعلام يستطيع خيانة رسالته بممارسة التجهيل والتضليل. وبعد محاولة «المرتزقة» تلك، كان كلما وقع سوداني في مأزق من أي نوع صاح كالعادة: يحلنا الحلَّ بلّه لم يعدم من يرد عليه: ما بله جا لي عندكم يحلِّكم، قلتو عليه مرتزقة. الصحافة