إسبانيا ترفض رسو سفينة تحمل أسلحة إلى إسرائيل    كواسي أبياه يراهن على الشباب ويكسب الجولة..الجهاز الفني يجهز الدوليين لمباراة الأحد    ناقشا تأهيل الملاعب وبرامج التطوير والمساعدات الإنسانية ودعم المنتخبات…وفد السودان ببانكوك برئاسة جعفر يلتقي رئيس المؤسسة الدولية    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    إدارة مرور ولاية نهر النيل تنظم حركة سير المركبات بمحلية عطبرة    اللاعبين الأعلى دخلًا بالعالم.. من جاء في القائمة؟    جبريل : مرحباً بأموال الإستثمار الاجنبي في قطاع الصناعة بالسودان    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    شاهد بالفيديو.. الرجل السودني الذي ظهر في مقطع مع الراقصة آية أفرو وهو يتغزل فيها يشكو من سخرية الجمهور : (ما تعرضت له من هجوم لم يتعرض له أهل بغداد في زمن التتار)    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان أحمد محمد عوض يتغزل في الحسناء المصرية العاشقة للفن السوداني (زولتنا وحبيبتنا وبنحبها جداً) وساخرون: (انبراش قدام النور والجمهور)    الخارجية تنفي تصريحا بعدم منحها تأشيرة للمبعوث    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    مناوي: وصلتنا اخبار أكيدة ان قيادة مليشات الدعم السريع قامت بإطلاق استنفار جديد لاجتياح الفاشر ونهبها    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    بعد حريق.. هبوط اضطراري لطائرة ركاب متجهة إلى السعودية    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: لابد من تفعيل آليات وقف القتال في السودان    الكشف عن شرط مورينيو للتدريب في السعودية    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    رسميا.. كأس العرب في قطر    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هذا الكائن المدعو "الإنسان"
نشر في الراكوبة يوم 27 - 02 - 2017

كان الصباح يطوي آخر دقائقه مغادرا، عندما ارتسمتْ، على وجه اللورد الفقير، علامةُ الخيبة، وأنفاسه مبهورة، لا تزال. وذلك أمر من العسير جدا أن يصدر بأي قدر عن اللورد الفقير. إذ كان له عادة صبر الجبال، التي "لا تهزها ريح"، في تقبل نزق تلك "العيّنة"، من الكائنات البشرية، التي تتغذي، من دون حياء، على "الصدقات"، كما لو أنّها "أمرا عاديا"، أي للدقة، أو تماما، كما لو أنّ لها تصريح للزحف، نحو لقمة عيشك الحصينة، متى ما رغبت، أو أرادت. حدث ذلك، أو بالضبط، حالما فتح اللورد الفقير باب شقة الدور الثاني المستأجرة، وتبين له هوية ذلك الطارق اللعين الماثل قبالته، في صمت وترقب، وكذلك ضحكة خرساء ميتة. ولا أدري، حين أتفكر في المسألة الآن، كيف وجد ذلك المدعو "اللورد الفقير" لا الجرأة فحسب، بل ووقتا كافيا، في ذروة ملابسات لحظته العصبية بالغة النادرة تلك، كي يناجي الله العليم هناك، في سرّه، بصدق لا يخلو من حيرة وغيظ، قائلا:
"لماذا أنا بالذات مصائبي كثيرة جدا (يا إلهي) ولا تكاد تنتهي؟".
بدا من رائحة العطر الكيميائي الكثيف كطيبٍ رخيصٍ لمومس نشطة قرب ميناء وقت سلم النفّاذ لصابون "لوكس ماجيك"، ناهيك عن لطخة رغوة الصابون البيضاء المنسيّة أعلى رأسه، إلى جانب حبات الماء البلورية المتساقطة والسائلة في آن من شعره والعالقة حتى على كتفيه وصدره الأسود المسطّح العاري والخالي تماما من شعرة واحدة، فضلا عن مرأى تلك المنشفة البنية القديمة الحائلة المبلولة تقريبا ولكن الملتفة بإحكام شديد ودقة حول وسطه الضامر النحيل كعصا الراعي؛ كما لو أنّ اللورد الفقير، وقد سمع قبلها ما ظلّ يحدثه ذلك الطارق اللعين بوضوح على الباب، قد قطع حمّامه عند المنتصف تقريبا، ثم أقبل حالا راكضا ما وسع ضيق المكان عبر الصّالة، لا كصاروخ منطلق، بل بما تعقله مقاييس وحدة زمنية قد تقلّ كثيرا في المقدار عن "الثانية". وفي ظني، لا يفعل ذلك، ولنقل "حد نسيان الحكمة وحسن التقدير ومغبة التسرّع"، بأي إنسان يسعى، وفي رأسه "مخ"، على قدمين اثنتين، سوى الشوق أو لا بد، لملاقاة نصفه الآخر الحلو "الأكيد"، لو لا ما ترفدنا به مفاجأة الصدمة وخيبة التوقعات الكبرى أحيانا.
كانت غرفة واحدة، صغيرة نوعا ما، لا ملامح مألوفة، أو محددة، أو حتى شائعة لها. سوى أنّها تبدو إذا كان لا بد لنا في الأخير من وصفها "كغرفةِ رجلٍ عزب". معتدل المزاج (كما ألمحنا) عادة. به نعومة خفيفة ما في طريقة الكلام والسلوك. ولَّدتها الأرجح كثرةُ القراءة، وربما "الرؤية العدمية للعالم"، حيث لا شيء هناك يستحق أن تكون فظّا معه، والأشياء جميعا، وكذلك القيم، تتساوى بعد الموت وزوالها المحتوم ولا بد. وهي بعبارة أخرى حيّز للعيش بسرير خشبي قديم متوسط الحجم تنقص متنه ثلاثة ألواح. من دون أي نافذة. أحد حيطانها منبعج، عند المنتصف قليلا، إلى الداخل، كنسيجِ بطنِ امرأة يعاني، تحت الجلد، من تمزق دائم أعقب ولادة. لا باب يفصلها عن أجزاء الشقة الأخرى. رطبة صيف شتاء. ذات رائحة كبريتية ميتة، أو خانقة، كفسوة حصان منسية، في إسطبل، وأكثر، عالقة في الهواء الراكد، ربما منذ سنوات عديدة، تماما كما لو أنّها صدى ملابسات أحداث حزينة وغير مواتية، أو حتى ذكرى واقعة مشينة، كما الخيانة أو الغدر، غير قابلة بالمرة للمحو، أو النسيان. كي تصل إليها، من الصّالة الضيّقة ذات الأثاث الرثّ القليل، واطئا على البلاط القاتم المتشقق العاري كان لا بد لك من أن تسلك ممرا طويلا نسبيا، لكنه بالغ الضيّق، مثل لحد، يطل عليه، من أحد الجانبين، في صمت وكآبة قاتلين، بابا المطبخ والحمّام الذي خرج منه اللورد الفقير للتو والحين ركضا. ومع ذلك، أو على أية حال، أو مهما تكن تلك المسميات، فهي في نهاية المطاف "شقة"، أو لنقل حتى "مأوى".
منذ أن فتح الباب، وخابت توقعاته على ذلك النحو، حاول اللورد الفقير، بنفاد صبر بدا لوهلة ليس غريبا فحسب بل وغامضا، أن يفهم الطارق اللعين، وهو يملأ فراغ الباب، بجسده النحيل ذاك، أن الوقت غير مناسب تماما للزيارة، "يا رفيق حامد عثمان". كان اللورد الفقير يتطلع، في الأثناء، إلى سلّم البناية القاتم الضيّق الصاعد خلف كتفيّ المدعو حامد عثمان هذا، بترقب وقلق وشيء آخر بدا أقرب، من رعشة صوته الخفيض جدا ربما، إلى الخوف، لا بل الذعر، فأخذ قلب حامد عثمان اللعين يحدثه، أي على الفور، أو كما لو أن إلهاما تنزَّل عليه، أنّ اللورد الفقير هذا يتوقع زيارة عشيقته أم خميس، "المرأة الثلاثينية السمينة البضة السوداء الفاحمة شبيهة البطة العملاقة كسفينة إنقاذ محملة بالخيرات والكنوز اللحمية الطازجة"، في أية لحظةٍ، قد تتخلل وقفتهما تلك. الآن، وقد هجس حامد عثمان اللعين بسرّ عدم ترحيب اللورد الفقير به، أي "كما ينبغي لصديق صدوق"، دفع به بالضبط عند منتصف الصدر، إلى الداخل، وجلس ينتظر قدوم تلك ال**** اللعينة بدوره داخل الصّالة، أي مثل أي وغد صفيق آخر مجرد تماما، عن جملة مسائل الحساسية المرضية الشائعة مثلما أسمع أحيانا وسط جمهرة أولئك الذين يدعون أنفسهم بكثير من الفخر "أدباء بأخلاق عالية". كان بوسع حامد عثمان إذن سماع صوت اللورد الفقير، من جلسته تلك داخل الصّالة بوضوح تام، وهو يتناهى لاعنا، على غير العادة، من داخل غرفته، بينما يضع ملابسه ولا بد، على جسده الضامر النحيل ذاك. فغمغم حامد عثمان كمن ينافق نفسه بنفسه، قائلا:" العذر أو حتى أسفي العميق كله، يا فخامة اللورد الفقير". إلا أنّه سرعان ما ابتسم، وهو يقلب في فكره كلمة "صفاقة"، باعتبار أن ذلك أقصى ما سمح به تهذيب اللورد الجم من تنازل.
كان مطبخ اللورد الفقير خاليا كما توقع حامد عثمان من لقمة طعام واحدة. مطبخ نظيف. يخلو طوال الوقت والحال تلك حتى من النمل والحشرات المتغذية على بقايا الطعام. أي وتماما كما لو أنّك تطالع مكتبة عامة بوصفها مطبخا. اللورد هذا لا يأكل عادة سوى الخمر. لا عجب إذن أن أم خميس عشيقته تصنع وتبيع "العرقي"، في شقتها القريبة، من شارع هارون الرشيد، في مصر الجديدة. أنا تحديدا عجزت عن اكتشاف سرّ تعلّق أم خميس السمينة برجل نحيل مثل هذا الوغد، الذي إذا قمت أنت بتحويله إلى كلمات، فلن يكون قابلا للفهم، إلا باعتباره عنوانا دالا ولا بد على مجاعة أكل النّاس فيها الجراد. حامد عثمان اللعين، لم تكن تنقصه الوقاحة أحيانا، فعبر له، ذات مرة، عن مدى حيرته المتسع، إزاء فروقات التناسب الجسدي تلك، إلا أن اللورد الفقير والحق يقال أفحم حامد عثمان المتطفل، حين رد على شكوكه تلك بسؤال، أنا متأكد تمام التأكد أن الشيطان الرجيم صاحب الخيال الخصب نفسه لا يتوقع أن يصدر عن رجل في مثل تهذيب اللورد الفقير هذا، قائلا: "وكيف يمكن إذن لعفريتة أن ترفع سيارة ضخمة، يا رفيق؟".
منذ صبيحة يوم أمس، لم تستقبل معدة حامد عثمان اللعين هذا، سوى جرعات متباعدة من ماء قراح، وإذا كنت أنت كذلك، أي ميتا، كما يقول المصريون، من الجوع، وكان عليك أن تأكل بأية وسيلة، ووقف وغد في فراغ باب شقته وأخبرك أن الوقت غير مناسب بعد للزيارة، "يا رفيق فلان"، أو مهما تكن المسميات، فماذا كنت ستفعل، في تلك الحال، "يا شكر الأقرع"، خاصّة وأن حدسك يخبرك أن عشيقة غنيّة ذات أرداف وصدر مكتنز مشبع بالحنان ستحضر، في أية لحظة، حاملة معها شيئا من العرقي وألوان الطعام الطيبة، التي تصلح الأغلب لشد عزيمة عشرة رجال، على السرير، لا بد أنّك، أسيرَ حساسيتك المرضية تلك، سترتد على أعقابك، معتذرا بطيبة، طاويا ذيلك اللعين ذاك، ليقطفك الموت جوعا بعد مرور ثوان جدُّ قليلة عند ناصية أقرب شارع لعين، لأنك كوغد محتضر أو تكاد لم تشأ أبدا وببساطة شديدة إفساد مزاج صديق، على مشارف المضاجعة!.
أخيرا، عاد اللورد الفقير، من غرفته هناك، وجلس قبالة حامد عثمان، وهو يتابع النظر إليه، بما بدا لا حياء فحسب، بل وحقدا رفاقيا بريئا طيبا، يعيد إليك ولا بد ثقتك المفقودة، في النّاس والأشياء، حتى أنّك لتنسى لبعض الوقت حتى ذلك الوجود اللعين غير المبرر لمالكي البنوك في العالم، وهو ما يعني "المعادل الموضوعي للتعاطف مع حالة كون حامد عثمان اللعين جائعا"، أي أنا أتكلم هنا بحسب لغة المثقفين السائدة، في تلك الأيام، حيث لا عليك سوى أن تذكر مصطلح "المعادل الموضوعي" اللعين هذا، ولو لمرة واحدة فقط، أي في مجتمع أولئك المنفيين الأعرض، حتى يتمّ تصنيفك، ومن دون رجعة، كمثقف.
الحال، أسرف أحدهم وكانت أمنيته القصوى في الدنيا أن يشار إليه بالبنان كمثقف في استخدام ذلك المصطلح، كأن يقول لك من دون أي مناسبة: "المعادل الموضوعي لتأخر مترو الأنفاق ليلا"، فلصق المصطلح به، كما تلصق اللعنة بشيطان، فإذا سألت مثلا أحد أصدقائه عنه قائلا: "أين الرفيق سيد مطر؟"، فسيرد عليك صادقا ولكن بعد مرور برهة من التبلد بسؤال آخر مفخخ كذلك بالغباء والحيرة وأمراض المنفى المستعصيّة الأخرى، قائلا:
"مّن سيد مطر هذا، يا رفيق؟".
وإذا وقفت عندها، أنت نفسك، على رؤوس الأشهاد، قائلا: "أين الرفيق سيد المعادل الموضوعي، يا أصدقاء؟"، فالأعمى نفسه يمكنه إذ ذاك أن يدلك عليه، حتى خلال أشد تلك الليالي حلكة.
كان بين حامد عثمان وبين اللورد الفقير، داخل تلك الصّالة، سجادة فارسية حمراء باهتة مهترئة، الأرجح أنّها من مخلفات جيش الإسكندر الأكبر، وتلفاز أبيض وأسود صغير، على منضدة أسفل ساعة حائط خشبية متوقفة، وهو التلفاز اللعين نفسه، الذي عليك أن تصفعه، إذا ما توقف، بمقدار معين، على أحد خديه، لأنّك إذا زوّدت العيار أو أنقصته، فسيعاندك تماما، وحتى نهاية تلك الأشياء الجميلة، مثل متابعة أحداث مباراة طرفاها "الأهلي والزمالك"، وأنت تأوي بعدها، بحسرةِ ما فاتك مشاهدته، إلى السرير، لا تدري كيف تجنبت ركل ذلك التلفاز اللعين، طوال الوقت، على عجيزته. كان تهذيب صاحب الشقة من شدة البهاء أن يُحتمل حتى بالنسبة لوغد. فقال حامد عثمان أخيرا مخاطبا اللورد الفقير وإن على طريقة الزمّار الذي يموت وإصبعه تلعب كالمعتذر: "لم أتذوق لقمة طعام واحدة منذ البارحة الصباح. وحتى الآن. كما ترى، يا رفيق. ثم.. أو لما تطرق ال**** أم خميس هذا الباب بعد قليل، أطلب منها أن تضع ما تحمل من طعام وشراب داخل المطبخ، ثم أدخلا إلى الغرفة، سأملأ بطني، ولن أطرق عليكما الباب، أعني لن أمد رأسي عبر الفراغ الذي من المفترض به أن يكون بابا، إلا إذا نسيت تلك ال**** السمينة وأنا أعلم أنّها غنيّة بما يكفي أن تترك لي إلى جانب الطعام والشراب مبلغا لشراء تذكرة المواصلات على الأقل إلى شقتي البعيدة، في عين شمس". اللورد الفقير إذا تمالك نفسه لا يمكن إغضابه ثانية بسهولة. قال يرد على حذلقة حامد عثمان تلك: "هذا سلوك برجوازيّ، يا رفيق". فعقب حامد عثمان بصوت أضعف الجوع رغبته في مواصلة السجال، قائلا: "ما هو السلوك البرجوازيّ هذا، يا لورد؟". ابتسم اللورد الفقير، قائلا: "أن تصف المعادل الموضوعي الآخر في علاقة الحبّ بال****!".
هذا اللورد يبدو بالفعل كمثقف لعين طوال الوقت. وإذا أصر على أن يتعامل مع المنفى على هذا النحو فسينتهي به المطاف حتما إلى "شيء آخر حزين". فكر حامد عثمان في سره والأرجح كان محقا.
رجل طرق باب بيتك. أقحم نفسه عليك. وأنت على أعتاب المضاجعة. ثم تغيبُ أنت نفسك داخل غرفتك قليلا. ترتدي ثيابك اللعينة. وتعود كي تقوم وحسب بتصنيف ذلك الوغد اللعين المقتحم بالبرجوازيّ اللعين. لعمري لو أنني كنت في مكان هذا اللورد البائس الفقير وقتها، لسألت أولا بمكر من وراء الباب اللعين المغلق، قائلا:
"مّن هناك؟".
وسيجيب الطارق اللعين قائلا:
"رفيق جائع يبحث عن طعام".
وسأقول عندها بوضوح وجلاء قاطعين:
"عد، يا هذا أدراجك عليك اللعنة، إلى حيث جئت، فأنا أستعد الآن كما ترى للمضاجعة. ثم هذا كل ما في الأمر. لا مساومة أخرى، أيها اللعين". فجأة، رنّ جرس الهاتف. نهض اللورد. مشى عبر الممر. رفع سماعة الهاتف في غرفته. حامد عثمان سمع اللورد، وهو يقول: "لا عليك"، وأشياء لعينة أخرى مثل "المرة القادمة، يا حياتي الشعورية، بالتأكيد"، فخفق قلبه. وكانت نبرة صوت اللورد أشبه في الأثناء بوقع كؤوس زجاجية لا تتوقف عن التساقط من علٍّ على سطح صلب. ولم ينسِ الجوعُ حامد عثمان أن يستنكر في سرّه ربما للمرة الألف متضايقا من وجود خط تليفوني أرضي داخل غرفة مثل تلك. لما عاد اللورد أخيرا، كان يشمله، كما توقع حامد عثمان، حزن غريب، فتابعه حامد عثمان، من دون أن تطرف له عين، حيث رآه وهو يعاود الجلوس قبالته، بحرص وحذر بالغين، على الكرسي ذي الساق المفقودة. ثم ما لبث قال اللورد الفقير أن قال:
"للأسف، يا رفيق، أم خميس اعتذرت، من الحضور".
وقعت عينا حامد عثمان، وجسده هامد لا يزال، على باب الشقة المغلق، عسى أن يقوم أحد أولئك الرفاق، بالطرق عليه، في أية لحظة، حاملا دجاجة مشويّة، بل وذهب خياله، والأمنيات لا يدفع المرء مقابلا لها، إلى أبعد من ذلك، فتصور أن الطارق المنقذ لم ينسّ أن يحمل معه في يده الأخرى لا الهواء، بل زجاجة فودكا، وبالتحديد من ذلك النوع، الذي ظللنا ندعوه، خشية واحتراما، ربما لقوته، باسم "الكافر".
ليلة أمس، بالكاد أتاح الجوع لحامد عثمان أن يغمض عينيه لبعض الوقت، فرأى نفسه في أثناء ذلك المنام، وهو يسكن، مثل ملك غير متوج، في إحدى ناطحات السحاب في أمريكا، تحديدا في الطابق الحادي والستين، وكان معه داخل الشقة جوالان مليئان بعدس أصفر، ولما شبع حامد عثمان اللعين حد التُّخمة فكر في قليل من الماء، ففتح النافذة، لتدلف سحابة، كان يعلم أنّها ستمطر مقدار ما يروي عطشه أو يكفي حاجته، إلا أنّ حامد عثمان اللعين صحا داخل شقته الأرضية الضيقة، في حي عين شمس الشرقية، على صوت حمدي صاحب البقالة، وهو يدق الباب بعنف، مطالبا إيّاه بسداد قيمة ما عليه من دين له. لو كنت في مكان حمدي اللعين هذا، لما وضعت ذلك التعبير المبالغ فيه من الجدية، لمواجهة غريب في مثل فاقة حامد عثمان هذا، ولم يفق بالكامل من نومه العسير كثير التقطّع ذاك بعد، خاصّة أن حمدي اللعين هذا بدا لحظتها، كمن يوشك على إعلان حرب شاملة من طرف واحد، حتى أنّه قام بتسريب اسم لواء أمن دولة بالمعاش، في أثناء وعيده ذاك، فالمبلغ على أية حال حتى صغير جدا، وبالتالي لا يستحق في ظني كل ذلك العناء أو الأسى. أو كما لو أنّه أحسّ مقدار ما أصاب حامد عثمان اللعين من غم لتخلف صديقته عن الحضور في آخر لحظة، علا صوت اللورد الفقير، قائلا:
"أريد أن أريك شيئا، يا رفيق حامد".
واتجه إلى غرفته بما بدا الخفة غير المتوقعة وغاب هناك لبعض الوقت.
كانت معدة حامد عثمان اللعين أخذت تتخدر منذ أن تناهى جرس الهاتف ذاك ضاربا بكل أمل أو توقع. وقد هبط عليه ذلك النوع المدمر من الإعياء. ثم ما لبث حامد عثمان أن أخذ يغالب ما أخذ بدوره يتوغل بعيدا في عظامه من إحساس متفاقم بالقرب الشديد من الموت. إلى أن شمله يقين بدا في سكينته ولا مبالاته تلك بالحياة أو الموت أشبه بالتسليم في معركة مبهمة وغامضة لا يدري المحارب فيها مّن يقاتل ضد مَن ولماذا نشبت وكيف ألقت في الأخير أوزارها.
وفكر حامد عثمان: علاقات هذا المنفى لا يدري الإنسان متى وكيف تبدأ وتتطور وتضمحل. علاقات تبدو غالبا رخوة. هشّة كما لو أنّها تغري في كل مرة بخيانتها. تحكمها الأغلب الحاجة لا القيم. أما هذا المدعو باسم اللورد الفقير فنسيج وحده. لا يتذمر، لا يشكو، والأهم أن المرارات لا تستقر في داخله طويلا. وواصل التفكير بمثل ذلك الغناء الطيب الحكيم، إلى أن عاد اللورد اللعين أخيرا، من حجرته، حاملا صندوقا خشبيا أشبه بنموذج مصّغر من خزانات الجدّات. حالا، أفرغ اللورد الفقير محتويات الصندوق القليلة، وهو واقف، على الجانب الخالي من الكنبة، حيث يجلس حامد عثمان، الذي رأى من بين تلك المحتويات صرّة قماش. والشيطان وحده يعلم، لماذا داعب حامد عثمان لحظتها، حلم أنّ الصرّة قد تكون حاوية، على شيء من البقوليات الجافة، فتنبهت حواسه مجتمعة، وبينما حامد عثمان يرقب اللورد الفقير عن كثب، بذلك الفضول العنيد القاتل، جثا اللورد تاليا على ركبتيه، وأخذ يفك عُقد تلك الصرّة، بعناية وحرص تامّين، وقد مازج وجهه فرح بدا غامضا. وطال أمد تشوق حامد عثمان في المقابل أكثر فأكثر، ولما بدا داخل عُقد صّرة القماش المنحلة تلك، صرّة أخرى من بلاستيك شفّاف وقد بدا في داخلها شيء قاتم، تمنّى حامد عثمان إذ ذاك فقط أن يكون طعم هذا الشيء لذيذا. ثم مد اللورد الفقير ذاك الشيء القاتم نفسه باتجاه حامد عثمان أخيرا، فتكشف للعيان بمثل ذلك الوضوح الجارح الحزين بالضبط ما هوية "الشيء"، فقال حامد عثمان بدهشة:
"هذا تراب؟".
قال اللورد الفقير مؤكدا:
"نعم".
وألقى عليه نظرة حانية أخرى.
ثم أو مثلما يمرر عاشق سبابة، على بطن فتاة عارية، على سرير آمن آخر الليل، أخذ اللورد يمرر سبابته على التراب اللعين نفسه، بعطف ورقة، ذكّرا حامد عثمان على وجه الخصوص بعطف ورقة خالته سعاد، قائلا: "هذه حفنة يا رفيق حامد من تراب بيتنا في الوطن. ظللت أحملها معي منذ نحو أكثر من عشر سنوات، يا حامد". ثم.. وهو غريق تأمّلاته تلك، عنّ لحامد عثمان أمر بدا من العسير مقاومته، أن يخطف تلك الصرّة اللعينة، التي لا تبعث سوى على الأسى، ويرمي بها إلى الشارع. عوضا عن ذلك، وجد حامد عثمان نفسه وهو يصمت بدوره طويلا، متأمّلا بعمق (لم يقده إلى أي شيء) في جملة تلك العادات الغريبة والغامضة لهذا الكائن المدعو "الإنسان".
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.