عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    لجان مقاومة النهود : مليشيا الدعم السريع استباحت المدينة وارتكبت جرائم قتل بدم بارد بحق مواطنين    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    جامعة ابن سينا تصدم الطلاب.. جامعات السوق الأسود والسمسرة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    بحضور عقار.. رئيس مجلس السيادة يعتمد نتيجة امتحانات الشهادة السودانية للدفعة المؤجلة للعام 2023م    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    هجوم المليشيا علي النهود هدفه نهب وسرقة خيرات هذه المنطقة الغنية    عبد العاطي يؤكد على دعم مصر الكامل لأمن واستقرار ووحدة السودان وسلامة أراضيه    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصر يا أخت بلادي يا شقيقة! ١-٣
نشر في الراكوبة يوم 20 - 03 - 2017


مقدمة :
تباعا أعيد هنا نشر ثلاثة مقالات، كنت قد نشرتها سابقا في 2009 بعيد مباراة مصر- الجزائر، اثر الحملة المسعورة للإعلام المصري على السودان وشعبه، فما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشبه اللغة الإعلامية المصرية الوضيعة الآن بتلك، لذا سيكون ردنا هو نفسه، فلا شيء تغير للأسف!
السودان وعراب مافيا البيزنس السياسي في العالم العربي.
*تثير الهجمة الإعلامية المصرية الأخيرة، عديد التساؤلات، حول نظرة مصر لنفسها! بدء من مجد الفراعنة وصولا إلى (ردحي) شذاذ الآفاق، الذين يطلق عليهم جزافا: اعلاميين، فمصر كعراب لمافيا البزنس السياسي في المنطقة العربية لوقت طويل، ظلت تحاول أن تفرض طريقة معينة في النظر إليها، وهي نظرتها هي لنفسها..
بمعنى أنها تريد أن يتم النظر إليها بعيونها هي، وهي طريقة غير واقعية، فمصر في الواقع ليست كما ترى نفسها، أو كما تريد الآخرين أن ينظروا إليها..
وهذا يقود إلى الطريقة، التي تمت بها (مصادرة وعي الشعب المصري) وسجنه في ماضي مجيد زائف، هو في الحقيقة ليس ماضيه، فشعب مصر الحالي ينحدر من سلالات مهاجرين و غزاة ومحتلين، تبنوا تاريخ وثقافة و حضارة هذه الأرض، التي هي أرض أسلافنا نحن الكوشيين!
ربما أن الأنظمة المتعاقبة، وجدت أن تزييف التاريخ، وطمس الحقائق ومصادرة وعي الشعب، قد يشكل حجابا عازلا عن حاضر الشعب البائس، مسدود الأفق!
لا أرغب هنا، في تكرار ما ذهبت إليه في قراءتي للعلاقات المصرية السودانية كملف أمني، الذي نشر سابقا، أو التفكير بطريقة ركوب الموجة المضادة، للإساءات المصرية البالغة للسودان والسودانيين، إثر هزيمة مصر أمام منتخب الجزائر، وردة فعلها على هذه الهزيمة المستحقة، والتي كشفت أن مصر لا تزال، تعاني إسقاطات تاريخها الذي لا يحتفي بالإنسان، فالبشر لا قيمة لهم، بقدر ما أن القيمة الحقيقية، هي لنتاج أنشطتهم في التعمير والبناء بالسخرة، وليس بمنطق الجهد والمردود!
فحتى شعار أقسام الشرطة المصرية، ظل لوقت طويل (الشرطة والشعب في خدمة الدولة ؟!) رغم أن الدولة لا تساوي شيئا دون شعب، فالوطن يأخذ معناه وقيمته من شعبه، والشعب عندما يقيم مؤسسات الدولة، إنما لخدمته وتحقيق مصالحه!
وهذا يفسر الترويج للمواصفات المصرية المغشوشة في كل شيء، بدءا بالسياسة والمجتمع إنتهاء بالعمارات التي تنهار على ساكنيها، مرورا بالقطارات التي تقتل الآلاف، وليس انتهاء بالسلع المغشوشة ومنتهية الصلاحية!.. وهو أمر عجيب أن تكون للأشياء المغشوشة قيمة أعلى من قيمة البشر!
المغزى هنا أن البناء الخالد حقا، هوالذي لا يكون على حساب حق الناس، في الحياة الحرة الكريمة الآمنة.. وبالطبع القول نفسه ينطبق على السودان! فالحضارة لا يتم بناؤها في اللغة؛ والإحتفاء بالتاريخ والقيم الرفيعة، فهي تأخذ قيمتها أيضا من إنجازاتها المادية الملموسة، وليس المعان فحسب.
هذه المقابلة تفسر بصورة من الصور، السؤال الذي يؤرق بال باحثين مصريين كثر: لماذا المجتمع في السودان؛ أقوى من جهاز الدولة؛ ولماذا المصريون "على دين ملوكهم" رغم إنه مجرد سؤال سهل و ليس معادلة معقدة..
فالإستبداد الذي يصادر حق الحياة. وخلفيات ذلك من علاقات ب الذل والإذلال (المصدر هنا الفضائيات المصرية نفسها، فكثيرون أكدوا "احنا بننضرب ونتهان جوه وبره بلدنا.. يا لهوي!"،إلخ)..
هذا الإحساس بالذل تم إحلاله في العلاقات التي تحكم المجتمع من جهة، والمجتمع والدولة من الجهة الأخرى، فالدولة المصرية كرست لهذه القيمة، سواء كان ذلك على يد الفرعون، الذي جعل من المصريين شعب سخرة، أو الباشا الذي أدمن ضرب الفلاحين بالكرباج، أو مصر ما بعد 1952 التي خصيصا لتكريس الذل في الثقافة الإجتماعية، شيدت أسوأ جهاز بوليسي في المنطقة!
فأصبح المخبر ورجل المباحث وزائر الفجر ولماع الأكر، غير محدد الملامح! تراه في وجوه كل الناس، فقد يكون صبي البقالة أو عبده البواب الغلبان أو زناتى فتوة "الحتة" أو رمضان صبي القهوة أو عم سيد الشغال، الخ..
من الجانب الآخر، تتعامل المجتمعات السودانية مع محاولات إذلالها، من قبل جهاز الدولة، بعنف! إلى درجة الدخول في حروب أهلية، وإنطلاق عشرات الحركات المسلحة في سبيل تحقيق المواطنة الحقة.. ثم أن المستبد يرى الأمور كما يرغب هو في رؤيتها، وليست كما هي في الواقع، وهنا أتحدث عن الوجدان الثقافي، الذي شكل نظرة مصر للآخر!
فالآخر هو أدنى دائما وجاهل، ومصر لها فضل عليه في كل شيء! وهي بالطبع نظرة خاطئة. أقل ما يمكن أن توصف به هو الجهل، وما أسوأ الجهل عندما يرتبط بالاستعلاء والصلف "وعلى إيه: على مافيش!!"..
*حملات الدفتردار الإعلامية و وعي جديد وإعادة نظر:
مصر مطالبة بتصحيح نظرتها للسودان، والكف عن محاولة تحجيمه وتحجيم قدراته، بشتى السبل، خاصة بدعم الانقلابات لتغيير أنظمته الديمقراطية، وخلق حالة الفوضى فالضعف، حتى يسهل عليها تمرير مصالحها الأنانية.
ويقيني أن الوعي الجديد الذي سنستقرأه في خاتمة هذا المقال، كشف عن سقوط كثير من الروابط العميقة، بين السودان ومصر، بحيث لم تتبقى سوى رابطة "المصلحة المشتركة" مع العلم أن المصالح التي تجنيها مصر من علاقتها بالسودان، هي أضعاف أضعاف ما يجنيه السودان من علاقته بمصر، أو بمعنى أدق، ما تجنيه حكومات -وليس شعب- السودان، فعمليا شعب السودان لا يجني شيئا، خاصة أنه لم يعد محتاجا ل"بعثة تعليمية" أو علماء أزهريين، مقابل الذهب والمال والرجال في حروبات الباشا الإقليمية سابقا، أو مقابل وضعية الجسر (هذه الوضعية المهينة) فالسودان ليس جسرا، ولا ينبغي له أن يكون مجرد أداة فقط، يصل عبرها الآخرون إلى أهدافهم الدينية أو الثقافية أو الاقتصادية!
وضعية الجسر، ترتبط بترهات العمق الإستراتيجي، الذي ليس للسودان فيه ناقة ولا جمل، وإلا فماذا يحصل السودان اقتصاديا وتنمويا بالإحصاء كمردود: لا شيء!..
السودان بحاجة للتنمية الحقيقية، وليس للمسلسلات و المؤسسات، التي تسعى لمصرنة الحياة السودانية، وترتبط بالإحتياجات المصرية، مثل البعثة التعليمية، التي لم تتمخض سوى عن سودانيين جلهم ولاءه لمصر، وليس السودان.
السودان بحاجة لتوطين التكنولوجيا وبناء المصانع، ومصر لا تملك ذلك، بل بدلا عن ذلك تبيعه سلع مغشوشة! فضلا عن دورها الاستخباري، الذي لا علاقة له بالتعليم وبعثة التعليم، فغرضه الخفي، التكريس للمصالح المصرية الانانية، التي تقوم على منطق الأخذ دون العطاء.. منطق الفهلوة وحواة مولد السيد الحسين!.. والإستعاضة عن المنطق الواقعي الفعلي، بالقاموس اللغوي، الذي يختزل المصالح المشتركة في "الأشقاء-وادي النيل وإبن النيل-والمصير المشترك و احنا اخوات يا راجل"-مثل هذه المفردات والعبارات الفضفاضة والغامضة، لن تكون بديلا عن علاقة طبيعية بين البلدين، تقوم في الإحترام المتبادل-كما ينبغي- والمصالح المشتركة الفعلية.. وإبقاء السودان ضعيفا وعاجزا، حتى تأتي اللحظة المثالية لإحتلاله، سواء بقوة الجيوش أو بغيرها، لهو تصور ضعيف للعلاقات بين البلدين، فكثيرا ما ينقلب السحر على الساحر، فيصبح حاله كمن "لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى"!
وفي ظني أن الأوان قد آن ليفكر السودانيون في مصالحهم، وعدم التفريط فيها وعدم الإستجابة لإبتزازات مافيا البزنس السياسي، التي تقودها مصر في المنطقة، خاصة أن الأجواء التي أنتجت ثورة مثل اللواء الابيض 1924 وما خلفته تجربة ناصر بعد 1952 من تمصير لشعارات حركات التحرر في العالم الثالث، في السودان وأفريقيا العربية، والنظم السودانية الهشة والبائسة المتعاقبة، كل ذلك من ركامه يبرز الآن، ما يقتضي إعادة النظر في طبيعة العلاقة، بين السودان ومصر!
فمياه كثيرة جرت تحت الجسر، منذ دهمت الحملات الانتقامية للدفتردار كردفان والنيل الابيض و النيلين ونهر النيل، حتى لحظة احتلال حلايب، فمصر تاريخيا مغتصبة للحقوق السودانية، وجزء من هذه المصالح معنوي، يتلخص في الإحترام المتبادل، وهذه ليست عقدة سودانية، مقابلة لعقدة كراهية العرب لمصر (حسب المزاعم المصرية) نتيجة الإحساس بالفشل الاقتصادي والإنساني والاخلاقي، إزاء تقدم اقتصادي وازدهار خليجي، الإحترام حق سوداني تجاه الوعي السالب بالسودان، والذي أسهمت مصر لا بتشكيل وعي شعبها فقط سلبا بالسودان، بل أسهمت في تشكيل الوعي العربي بالسودان، على هذا النحو المرفوض الذي تعكسه درامتها، تقلدها في ذلك بعض دول الخليج!
لماذا فعلت مصر ذلك: هل لصرف الأنظار عن الحجم الفعلي لمصر، خاصة في عصرنا الراهن؟ فمصر لم تعد دولة عربية كبيرة كما كانت في وقت ما، قائدة ورائدة، فالكبير ليس بعدد السكان، الذين ٪99 بؤساء منتهكين! ولكن بالقوة والإنجاز في كل مجالات الحياة ومجالات الفنون والآداب..
فمصر كدولة عربية في قعر العالم الثالث، وكعادة العالمثالثيون، عندما يبلغ الفساد بدولهم أشده، يلعبون بالبيضة والحجر، والبيضة هنا هي "الشعب المصري" المسكين الغلبان والمغلوب على أمره، والحجر هو "السلطات المصرية" سواء تمثلت في أجهزة دولة أو إعلام يقوده الجهلاء والنصابين، والرجرجة والدهماء والوضيعين والمنحطين، يتلاعب بهذا الشعب لفك اختناق سادته، في أجهزة السلطة فيورطونه، في مثل ما تورط فيه أبطال المهزلة الإعلامية الأخيرة، أمثال: حجازي وأديب وغيرهم من ممثلين فاشلين، يكشفون في الواقع مستوى الضحالة والجهل، والفقر المعرفي والاخلاقي،الذي بلغه كثيرون من الاعلاميين و الفنانين وقادة الرأي العام المصريين.
هذه الضحالة التي لم تمكنهم حتى من إجادة الكذب بحيث لا "يخر المية".. بعد أن حولوا الاعلام الى "كباريه" واصبح الاعلاميين "غوازي"!
السلطات المصرية كالحكومة السودانية تماما، لا تهمها مصالح الشعب، لطالما أن نهجهم سيفضي إلى توريث جمال مبارك، و لطالما أن دعم هذا الإتجاه، سيفضي إلى تأجيل اعتقال عمر البشير، لمحاكمته على جرائمه، التي لا تقل بشاعة، عن جرائم النظام المصري في قتل آلاف السودانيين، في ميدان مصطفى محمود.
* تعتقد مصر كما كشف هيجانها الإعلامي، أن الجميع خذلها، رغم أنها ظلت حضنا للعروبة وملاذا للعرب، تخوض معاركهم نيابة عنهم، وهذا بالطبع أحد اوهام مصر الكبيرة، و ليس صحيحا، وجهل كبير بتاريخ الفكر القومي، في إعلام يدعي أن دولته هي الراعي الوحيد والحصري لهذا الفكر، كأنه لم يسمع بالشام مهد الفكر القومي العربي تاريخيا، منذ إكتمال تصوراته البدائية على يد زكي الأرسوزي وساطع الحصري..
فقد اتجه تفكير الأول منذ سنة 1940 إِلى تأليف حزب عربي قومي، شعاره بعث مجد الأمة العربية ورسالتها الخالدة إِلى العالم.. مستلهما تجارب الجمعيات المقاومة للتتريك، أبان دولة الخلافة التركية، مثل العربية الفتاة والقحطانية الفتاة، إلخ..
وبهذه المناسبة كان الأخير، أعني ساطع الحصري، يدافع عن عروبة مصر نفسها، عندما نهشتها النزعات الإقليمية، بمحاولة بعض المفكرين المصريين (دعاة الفرعونية)، صياغة (هوية مصرية) خاصة تستند إلى التراث والثقافة الفرعونية، دون أن يكون هناك مفكر مصري قومي عربي، بقامتهم لدحض هذا الاتجاه، لذلك تطوع الحصري السوري من أصل يمني، للدفاع عن عروبة مصر ضد أبنائها ذوي الاتجاهات غير العروبية..
ولا ننسى هنا منيف الرزاز وميشيل عفلق وتقعيدهما للفكر القومي العربي، الذي أصبح أكثر منهجية عند الياس فرح وشبلي العيسمي فيما بعد، وهكذا تم إطلاق أحلام العروبة ووهم الدولة الموحدة من المحيط إلى الخليج..
في الواقع ألقى الفكر القومي الصاعد من الشام بظلاله على مصر، التي ألتقطت القفاز على عهد عبد الناصر، فتمت وحدة مصر وسوريا بتنازلات كبيرة وعزيزة على سوريا، كحل تنظيمات البعث في مصر، وإدراجها في التيار الناصري؟! فمصر كعادتها مثلما رغبت في تمصير كأس العالم مؤخرا، أرادت وقتها تمصير الفكر القومي العربي؟!..
مصر لم تشهد نضوج فكري كسوريا، رغم أنها شهدت نهوض سياسي تمخض عن الإنقلاب الناصري في 1952 ولهذا الفارق في عدم التكافؤ الفكري بين ناصر ككاريزما، ذات احلام محدودة، ترغب في بناء تجربة تحمل إسمها، وسوريا ذات منظومات البعث الوفية لمشروع اكبر، بمنظوماته المؤسسة، التي بدأت تنتشر في العالم العربي، وهكذا نتيجة لهذا التناقض الجوهري، سقطت تجربة الوحدة بين مصر وسوريا في 1961 أي بعد ثلاث سنوات فقط من قيامها في 1958
باختصار أن ساسة مصر، في سبيل حسم قضية التوريث لصالح جمال مبارك، فعلوا ما بوسعهم من محاولات لذر الرماد في العيون، فقد كان رهانهم أن يقدم جمال (كراعي للفريق المصري) انتصار مصر على الجزائر، كإنجاز يجعل المصريون يغضون الطرف، عن المقدمات الخاطئة التي جاءت بجمال من الأصل، في مضمار السياسة، وقيادة الدولة والرياضة! كأداة تخدم حملته للوصول إلى دست الحكم..
كما أنه في حالة الخسارة-وهو ما حدث- سيتم شغل الشعب بمعارك دونكيشوتية إعلامية مع السودان والجزائر، يتم فيها إخراج الغضب الشعبي المصري على حكومته المستبدة الفاشلة، في أطراف أخرى لا علاقة لها بقضايا الشعب الفقير المحاصر بالازمات و المغلوب على أمره، وهكذا يحاول النظام المصري، صرف الأنظار عن طبيعة أزمته، والمشاكل الحقيقية، لدولته! ومؤسسات سلطتها، كسلطة وجدت أن دولتها قد غادرت مجال الريادة، في جوانب مهمة هي جوانب قوتها لوقت طويل، فلم يبق لها سوى الرياضة، والتي فشلت فيها أيضا كما فشلت في الأدب، اخر معاقلها!
فقد أصبحت الجزائر عاصمة للرواية العربية بلا منازع، والمغرب عاصمة للقصة القصيرة دون منازع، وتونس عاصمة للشعر العربي دون منازع، إذن أصبح الدور المؤثر في الأدب العربي، والذي كانت تلعبه مصر، حكرا للمغرب العربي الكبير بإمتياز وإستحقاق..
كذلك الفكر.. توقفت مصر عن إنتاج مفكرين بقامة المغربي محمد عابد الجابري، والجزائري محمد أركون، وغيرهم من مفكرين مغاربة وشوام، تؤثر مشاريعهم الحاضرة بقوة، في الحياة الفكرية العربية الآن، بينما مقعد مصر خالي..
كذلك الدراما، أخذت سوريا تقدم دراما عربية مبدعة في كل شيء: شكلا ومضمونا على حساب الدراما المصرية، التي لم تألوا جهدا في تمصير الحياة العربية، على حساب الثقافة العربية.
وعن الإعلام حدث ولا حرج، إذ لا يمكننا مقارنة قنوات كام بي سي والعربية،الخ بالقنوات المصرية. كذلك لم تعد مصر وحدها، دولة المبادرات في سوق البزنس السياسي، فقطر مصرة على لعب دور إقليمي سياسي فاعل، رغم انف حتى جيرانها وذوي قربتها الخليجيين!
وقطر صغيرة من حيث السكان والمساحة، لكنها كبيرة من حيث الاحلام و الإعلام والقدرات الاقتصادية، والقبول الأمريكي المستتر، للعبها دورا مفصليا في الخليج فيما يخص السياسة الخارجية الأمريكية.
ماذا تبقى لمصر.. سوى البكاء على أطلال العشوائيات "الله عليك يا ست، رئصني يا قدع" وإفتعال معارك صغيرة لإبعاد الأنظار عن أزماتها الحقيقية، التي في التحليل النهائي تؤكد: أن مصر لم تعد رائدة وقائدة.. العالم يتغير ويتبدل.. وهذا هو حال الدنيا.. سعيكم مشكور، وأحسن الله عزاءكم..
*نقطة البداية الصحيحة لمصر ترميم ذاتها، بمعزل عن استعداء الاخرين، ومحاولات "حدف بلاويها عليهم" والسعي الى تحجيمهم "كتبويظ المبادرة القطرية" التي دفعت أمير قطر وهو ينظر إلى مصر، بأن يكتفي فقط بالقول: "حسبنا الله ونعم الوكيل" أو بتعليق الفشل على السودان، الذي لا تنقصه المعارك الدونكيشوتية..
خاتمة:
ترتب على الهجمة الإعلامية والمخابراتية على السودان وشعبه، ردة فعل شعبية سودانية، لا أقول أنها عنيفة ولكنها قوية، إلى درجة كبيرة، وهو أمر جديد يمكننا قراءته في سياق شعور الشعب السوداني بتواطؤ حكومته، مع مصر على حساب كرامة الشعب ودولته التي تمثله، ما شكل حافزا قويا - في ظني لتخطي الشعب للنظام، وتولي عملية الرد بنفسه، خاصة أن تطور وسائل البث المباشر، حرمت الإعلام من ميزته القديمة، كوظيفة تتحكم فيها النخبة، لتشكيل الرأي العام وفقا لحساباتها، سواء كانت هذه الحسابات رهينة أسئلة الوحدة والانفصال، بسبب غياب المواطنة أو تتعلق بالاستفتاء على خلفية حق الشعوب في تقرير مصيرها، أو إعادة إنتخاب رئيس مطلوب للعدالة الدولية، للإستمرار في حكم السودان، لينهار كل ما هو منهار أصلا..
لكن أود أن أشير هنا إلى عدة أمور لفتت انتباهي، ترتبت على حملة الدفتردار الإعلامية على السودان، الأمر الأول: أن ردة الفعل الشعبية السودانية، اصطحبت معها كثير من المسكوتات، في العلاقة بين مصر والسودان، فبرزت قضية حلايب إلى السطح مجددا، كما شجع غالبية السودانيون الجزائر، نكاية في دولة عراب مافيا البزنس السياسي في العالم العربي.
ثانيا: جاءت ردة الفعل الشعبية السودانية، مباغتة لمصر الرسمية، ومهددة لمصالحها وكل ترتيباتها، وإمتيازاتها التي حققتها بالتواطؤ مع حكومة المؤتمر الوطني، باستغلالها للمتناقضات الداخلية التي يعيشها السودان، منذ مجيء هذا النظام في 1989 مرورا بمحاولة اغتيال حسني مبارك، إنتهاء بالحريات الأربعة، وحتى الآن..
وهي امتيازات لم تحصل عليها مصر، في ظل أي حكومة سبقت هذه الحكومة، لذلك بدت مصر كالمباغتة والمرتبكة، فبدى من الواضح، أنهم لم يتوقعوا على الإطلاق، ردة فعل كهذه، بل كشف لهم رد الفعل الشعبي السوداني، أن رهانهم على الحكومات السودانية، ليس دقيقا في حساباته، فالسودانيون "ليسوا على دين ملوكهم" أو فراعنتهم الإنقلابيين، بالتالي تلزمهم قراءة جديدة في الشخصية السودانية، ولن يتمكنوا من هذه القراءة، إلا بهدم كل التصورات الخاطئة، التي كونوها عن السودانيون خلال تعاملاتهم مع الحكومات والنخب السياسية السودانية، خاصة تلك التي ارتبطت بمصر وجدانيا، بحكم أساطير العروبة والوحدة العربية والأمن القومي العربي ووحدة وادي النيل، ونظريات العمق الإستراتيجي المهينة للسودان، بتلخيصها له كدولة، إلى مجرد حديقة خلفية، تماما كموقع المكسيك بالنسبة لأميركا، ألخ..
ثالثا: أشرت ردة الفعل القوية، بصرف النظر عن مقدار ما انشحنت به من "ردحي" مهما فجر في العداوة لن يبلغ مثقال ذرة أمام "الردحي" المصري بسبب إختلاف الثقافتين، فالثقافة المصرية احترافية في الردحي! يا لهوي!
فيما يخص السودان أفلتت من هذا الردحي إشارات ببروز وعي جديد، ونظرة مختلفة للعلاقة بين السودان ومصر.
رابعا: كشفت ردة الفعل الشعبي الوطني السوداني، عن أن هناك أمل، فبقراءة التوحد الشعبي الكبير للرد على السفاهات المصرية، يمكننا استنتاج أن لشعبنا طاقات وقدرات على التوحد، يجب استغلالها للالتفاف خلف القضايا الوطنية الكبرى، لتحقيق دولة الوحدة والمواطنة، فرغم أن المناخ السائد في السودان، مناخ إحباط وتوتر ويأس، بسبب قضية العدالة في دارفور، والجنائية والإستفتاء في الجنوب، الخ من قضايا السودان المصيرية، إلا أن الشعب تخطى كل عوامل إحباط إمكاناته، وقال كلمته في أمر مصر. ما يعطي الأمل بقوله لكلمته ضد النخب الفاسدة، وحكومة المؤتمر المطلوبة جنائيا، لصالح وحدة السودان ومواطنية مواطنيه دون تمييز.
خامسا: عبرت ردة الفعل الحامية هذه، عن قدرة السودانيون، على تخطي آلام التحولات ومناخات الإحباط، خلف أهداف وطنية حقيقية، وهو أمر يبعث على التفاؤل على الصعيد الداخلي، ويشيع نوع جديد من الوعي بالوطن وإنسانه، فما رفضناه من استعلاء و"قلة أدب" تجاه بلادنا وشعبنا بكل مكوناته، يجب ألا نمارسه تجاه إخوتنا في دارفور والجنوب، وكل مناطق الهامش، فالأخلاق لا تتجزأ، وهذا الأمر بالتحديد، يعيد طرح قضية المواطنة في السودان، كقضية أخلاقية مطلوبة، قبل أن تكون قضية سياسية، ذات صلة بسلم القيم الهرمي والتراتبية في جهاز الدولة، وتقاسم الموارد والخدمات..
بإختصار أن ردة فعل شعبنا،على الهجمة المصرية، تعطي الأمل بإمكانية تحقيقنا كسودانيين، لدولة الوحدة والمواطنة والعدالة. وإذا فرطنا في رعاية هذا الأمل الذي يعطي بعض النخب المسماة جزافا وطنية، فرصة ثانية للوقوف مع قضايا الشعب أولا وثانيا وثالثا، بمعزل عن النظرة العرقية و الاستعلائية والحزبية الضيقة.
ميريلاند - 2009
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.