في الحلقة الأولي من هذه الدعوة للتأمل كنت قد توقفت في التسأؤل الكبير حول بؤس حالنا الأني في السودان ! و مرد ذلك أحلناه الي جفاف الينابيع السودانية التي كانت تلهم هذا الواقع بالفكري و الفني و الأدبي ..أرحام الأوطان لا تقعر بيولوجيا بأعمار محددة ، الوطن باقٍ و نحن ماضون و لكن من الممكن أن تصيب الأوطان موسميات الجفاف و الأنقطاع .. و نحن هنا نحاول أن نعلل هذه الموسمية التي نمر بها ! نحاول أن نستشف أسباب و علل اليباس حتي أصبح الجدب مرادف لمفردة الوطن في كافة السوح التي كان لنا فيها حضور جميل و زاهي و الحضور الجميل و الزاهي ليس هو هدية مجانية تعُطي للبلدان و المنتمين لها ، هو زرع يسهر عليه الساهرون بغير سِنة و لا نوم ..و كأننا بتنا نتسأل مع فناننا الألمعي العظيم الراحل "عبد العزيز أبو داؤود" ..يا عازة وين خليلك ؟ ..يا عازة كان دليلك ؟ ..يا عازة جُنّ ليلك !! و هل هناك ليلٌ أظلم من هذا الذي نحن نمخر في دياجيره في غياب خليلنا و دليلنا؟!! .. فكيف بالله أنحدرنا لهذا الدرك من اللا قيمة و الشعور باللا أنتماء ؟؟ للأجابة علي مثل هذه الأسئلة يجب الرجوع القهقهري لجينات التكون الأولي .. المُزجة الأولي لتكون أعراق السودان ..فالسودانيين هم نتاج لهجنة نوبية/عربية /نيلية/بجاوية ...الخ ، منضاف لهذا الخليط هجرات قديمة و حديثة ، ثم غلي مرجل هذه الأعراق ليهبنا في النهاية المستمرة هذه الشخصية المنمازة الا و هي الشخصية السودانية ..ثم عملت أدوات الثقافة لتطلي هذا المزيج باللغات ، منها ما تبقي في أطار تطوره الداخلي و منها من ابتني له عربية خاصة في لسانه (المستعربة) ..ثم تغطي كل هذا الأفتتان بتسامح ديني كان فضل الله علينا كثيراً أن أتانا في نسخته الصوفية التي تعلي من الجوهراني علي حساب الشكلاني ..كان فيه الدرس الأول " الخلق عيال الله ، أنفعكم لعياله أقربكم الي الله " و كان هذا دأب السودانيين في مجتمعاتهم المبذولة علي السهل المليوني مربع ..تسكنهم روح واحدة بطرائق تعابير عن الحياة متباينة ..هذا الثراء الطبيعي قليل جدا من أنتبه لقيمته الكبيرة و مستقبله الواعد في نشوء دولة كبيرة ، ذات شعب له وزنه التاريخي و الثقافي و السياسي و لكن الغالبية العظمي من الذين واتتهم النية في سوق دفة هذا الثراء عملوا علي تخريبه سواء بوعي منهم او جهل ، و التخريب في الحياة السودانية بداء مبكراً جداً ثم تناوبات المعاول حتي وصلت لمرحلة هذا الجرار العظيم الماثل الأن ، الخطئية الأولي بدأت منذ بواكير أستقلالنا ، لم تكن هناك دراية تامة بالمهمة العظيمة بعد وراثة الدولة و هياكلها بعد ذهاب المستعمر .. غرق جيل الرواد في أنقسامات طائفية و شغلوا بالأمتيازات داخل هذه الكيانات المشابة بالأنقياد التام دون المساهمة الفعلية في ممارسة النقد ، او حتي محاولة خلق تيارات جديدة من الفكر و الممارسة داخل هذه الكيانات ، و لربما قائل أن هذه الكيانات لعبت دوراً مهما في تفريغ ولاءات الناس من أطار القبيلة الضيق الي أطار أوسع و لكن أيضاً اذا أعتبرنا أن مرحلة القبيلة هي مرحلة اولية و سحيقة في تكوينات الدولة الحديثة ، تبقي أيضاً الطائفية مرحلة استنفدت غرضها التاريخي في مشروع الدولة و هي الأنتقال الي الأجسام الحديثة المدنية و هذا ما لم يحدث من قبل الزعماء الطائفيين و أنجالهم رغبة في الأمساك بتلابيب التاريخ حتي آخر أنفاسه ، و لكن للتاريخ منطق آخر و تيار يستعصي علي محاولات لي عنقه . ..نواصل [email protected]