أيا راكبا يسرى على متن ضامر إلى صاحب العلياء والجود والبر وينهض من مصر وشاطئ نيلها وأزهرها المعمور بالعلم والذكر لك الخيرات إن وافيت سنار قف بها وقوف محب وأغتنم فرصة العمر يحتفل السودان بسنار عاصمة للثقافة الإسلامية لهذا العام 2017، وهذا لعمري اختيار موفق، قد صادف محله. إن سنار هي عاصمة السودان الأولى حسب تقديري؛ لأنها هي المدينة التي مثلت بوتقة انصهار لكثير من مكونات المجتمع السوداني وغيرهم من المجتمعات الإفريقية وغيرها، وما يجمع كل هذه المكونات هو الإسلام، ويعود الفضل في ذلك إلى تلك الدولة الفتية التي اتخذت من سنار عاصمة لها، ألا وهي سلطنة الفونج أو السلطنة الزرقاء كما يقال عنها أحياناً. وبما أن المجال لا يتسع لذكر كل حقائق تاريخ سلطنة الفونج سيقتصر هذا المقال فقط على جوانب يعتقد أنها تمثل إشراقات فعلية فيما يتعلق بإسهام تلك السلطنة على الوضع الثقافي والهوية في سودان اليوم. فمن المعلوم، أن الحلف الفونجاوي-العبدلابي هو الذي وضع اللبنة الأولى لالتقاء السودانيين في 1504 تحت قيادة موحدة تشمل عناصر مختلفة من البشر آمنوا بفكرة واحدة وسعوا إلى بسط الأمن ونفوذ الدولة وفقاً لمرتكزات فكرية وثقافية ولغوية وحققوا مبدأ التجانس والتنوع الإيجابي بقبول الآخر دون صعوبة فاخرجوا للسودان نموذجاً رائعاً يمكن أن يعول عليه ليكون مفتاحاً لحل جميع المشكلات التي تطرأ على الساحة السودانية من وقت لآخر فيما يتعلق بالهوية والانتماء. وحسب رأي البروفسور يوسف فضل ( لم تكن سنار حاضرة أول سلطنة إسلامية في سودان وادي النيل وحسب، وإنما أصبحت بموقعها الجغرافي في صدر السودان، وبتركيبتها السكانية التي استوعبت جل الأعراق السودانية، أصبحت عنواناً للبلاد ومركزاً مهماً للإشعاع الثقافي والإسلامي في إفريقيا، كما جسدت التمازج العرقي والثقافي في ظل الروح الإسلامية، فهي مثال للتسامح الإسلامي وتصالحه مع الثقافات المحلية، حتى صارت دلالة هذا الاسم تنسحب على كل أنحاء السودان؛ فأشارت المصادر التاريخية إلى الرواق السنّاري في الأزهر، والقافلة السنارية في طريق القوافل التجارية، وقد عرف أهل سودان وادي النيل في الحجاز ومصر في عهد مملكة سنار بالسنّارية.) وجدير بالذكر أن قيام سلطنة سنار، وما سبقه أو تزامن معه من ممالك إسلامية في السودان الغربي، كان نتيجة لانتشار الإسلام في تلك المناطق، هذا فضلاً عن تجارة الذهب والفضة وما تبع ذلك من نشوء مراكز تجارية، تحول أغلبها إلى ممالك إسلامية مثل مالي وسونغي وبرنو ودارفور وسنار، كما ظهرت في ساحل إفريقيا الشرقي ممالك في كلوة وزنجبار ومقديشو، فكان لها بالتأكيد صدى في السودان الأوسط، إما عن طريق الحج أو التجارة؛ ولذلك فإن الحديث عن سنار يجب أن يشمل فهماً أكبر مما تعارف عليه الناس في السودان، باعتبار أن سلطنة سنار قد نشأت في إطار إسلامي واسع يمتد من غرب إفريقيا ويصل حتى آسيا شرقاً. بمعنى آخر فإن سلطنة سنار هي في واقع الأمر كانت وقتذاك تمثل حلقة في سلسلة الممالك الإسلامية السودانية الواقعة بين الصحراء الكبرى ومصر في الشمال وبين الغابات الاستوائية في الجنوب وتمتد من البحر الأحمر شرقاً إلى المحيط الأطلنطي غرباً، وتشمل ممالك سنار وكردفان ودارفور وواداي وباجرمي وبرنو أو الكانم وتمتد حتى مالي. ويضاف إلى ذلك أن سلطنة سنار قد برزت إلى حيز الوجود بعد سقوط الدولة الإسلامية في الأندلس وشعور المسلمين بالإحباط، فأعاد قيام السلطنة الأمل إلى نفوس المسلمين الذين كانت تصلهم أخبارها إما عن طريق الحجاج أو قوافل التجارة التي كانت تمر عبر سنار أو تنطلق منها أو إليها. ونستشهد هنا بما أورده جاي سبولدنق: (وفّر الإسلام المفاهيم الأيدولوجية التي صيغت من خلالها الشخصية الاعتبارية لسنار في محيط الأمم الأخرى، ولذلك اعتبرت سنار دولة إسلامية منذ نشأتها. وعندما دحر الفونج غزواً إثيوبياً، أرسل قادة العالم الإسلامي الآخرون تهانيهم وتقديرهم للسلطان. وقد حمل الحجاج والتجار أخبار ذلك النصر المؤزر إلى مصر والحجاز فقدم العلماء والفقهاء والشعراء إلى سنار مما أدى إلى حركة علمية وازدهار كبير في السلطنة). ومن جانب آخر اهتمت مملكة العبدلاب بتشجيع العلماء والمشايخ خاصة في عهد عجيب المانجلك فقدم إليها الشيخ البولاد من مصر وتاج الدين البهاري من بغداد وبعض علماء المغرب وكل هؤلاء وصلوا إلى سنار حيث تلاقحت أفكارهم وآراؤهم، فساهموا في تحفيظ القرآن وتفسيره وتدريس الفقه والحديث والسيرة النوبية وعلوم العربية وصارت سنار وحلفاية الملوك مناطق جاذبة للعلماء والطلاب وساعد ذلك في نشر الإسلام واللغة العربية؛ إذ أوى إلى خلاوي القرآن طلاب من غرب إفريقيا وجنوب السودان. وقد أثار سقوط سلطنة الفونج الحزن في قلوب كثير من الناس فرثوها، ومما قيل في ذلك: أرى لدهري إقبالاً وإدبارًا فكل حين يري للمرء أخباراً يوماً يريه من الأفراح أكملها ويوماً يريه من الأحزان أكدارًا وكل شيء إذا ما تمّ غايته أبصرت نقصاً به في الحال إجهارًا [email protected]