بوضوح تام، ارتسمتْ علامةُ الخيبة، من بعد اندفاعة ساقتها آمال عراض على ما بدا وتلهف، على وجه اللورد الفقير، حالما فتح باب شقته المستأجرة في الدور الثاني من بناية قديمة ناحية "السيدة زينب"، وتبين له هوية ذلك الطارق اللعين الماثل قبالته، على بعد خطوة واحدة، في صمت وترقب وضحكة خرساء ميتة. تماما كما قد هو متوقع، أو لربما لطبيعة شخصيته تلك المُتقبِلة في سلبيتها للخراء نفسه، تغلب اللورد الفقير، والوقت يتقدم زاحفا صوب ظُهْرِه، على شعوره المر، ولم يمر على أية حال وقت يذكر. مد يده المبتلة تلك. وقال: "أهلا". ما لبث الآخر الذي قَدِمَ بصفةِ كونه زائرا أو نحوه أن مد يده بدوره مصافحا. فعل ذلك في صمتِ ومواتِ مَن يحمل خبرا سيئا. وكان ما يحمله الطارق بالفعل شيئا من هذا القبيل. إلا إن أوانه لم يحن بعدُ، كما قد أوحت بعد مرور ثوان أخرى هيئته العامة تلك، وهو يهم مندفعا بالدخول إلى رحاب الشقة أولا، على طريقة "وليكن من بعد ما أدخل ما قد يكون"، وهو ما لم يتحقق لدهشة الطارق، أو كما قد توقع قبلها بثقة، في الحال، مع وقفة اللورد الفقير الراسخة المتصلبة على غير العادة والغارقة، حد الدهشة أو البلاهة، في الحيرة وقلة الحيلة معا، عند المنتصف تماما، من فراغ الباب المشرع، منذ نحو الدقيقتين، على اتساعه. أمكن للزائر في الأثناء أن يلقي نظرة أخرى. كانت نظرة دقيقة فاحصة، في وميضها الخاطف ذاك، إلى هيئة اللورد الفقير، وكان ذلك وحده كافيا ليجعله يبتسم، وهو ما أزعج اللورد الفقير، في المقابل، وزاد من مدى ارتباكه الماثل ذاك أكثر فأكثر. لقد بدا واضحا من رائحة العطر الكيميائي الكثيف النفّاذ لصابون "لوكس ماجيك"، ناهيك عن لطخة رغوة الصابون الفقاعية المنسيّة أعلى رأسه، إلى جانب حبات الماء البلورية الصافية المتساقطة السائلة في آن من شعره العالقة حتى على كتفيه العظميتين وصدره ذاك الأسود المسطّح العاري الخالي تماما من مجرد شعرة واحدة، فضلا عن مرأى تلك المنشفة البنية القديمة الحائلة شبه المبلولة لكن الملتفة بإحكام شديد ودقة حول وسطه ذاك شديد الضمور؛ كما لو أنّ اللورد الفقير قد قطع حمّامه، كي يفتح الباب، مستجيبا لنداء الطارق، عند المنتصف، أو نحوه تقريبا. كانت على أية حال غرفة واحدة صغيرة، لا ملامح شائعة لها، سوى أنّها تبدو مثل حيّز صغير يصلح للعيش، بسرير خشبي قديم متوسط الحجم تنقص متنه ثلاثة ألواح. لا توجد بها أية نافذة. أما أحد حيطانها فمنبعج، عند المنتصف قليلا، إلى الداخل، كنسيجِ بطنِ امرأة يعاني، تحت الجلد، من تمزق دائم أعقب ولادة. لا باب يفصلها كغرفة معدة للنوم واحتمالات الخصوصية المتوقعة (ولا بد) عن أجزاء الشقة الأخرى. رطبة صيف شتاء. ذات رائحة كبريتية ميتة، خانقة، كفسوةِ حصان، عالقة في الهواء الراكد، منذ مدة. كي تصل إليها، من الصّالة الضيّقة ذات الأثاث الرثّ القليل، واطئا على البلاط القاتم المتشقق العاري لا بد لك من أن تسلك ممرا طويلا نسبيا، بالغ الضيّق، مثل لحد، يطل عليه، من جانب، في صمت وكآبة قاتلة، بابا المطبخ والحمّام الذي خرج منه اللورد الفقير للتو ركضا. مع ذلك، ومهما تكن تلك المسميات المعمارية الحديثة متشددة المواصفات، فهي في نهاية المطاف "شقة"، ولا أدفأ ولا أمن، بل لا أرحب، في مدينة كبيرة، مثل القاهرة، قلّما تترفق، بأهلها أنفسهم، أو بالكاد تحنو. حاول اللورد الفقير، بأدب كدأبه دائما، أن يُفْهِمَ ذلك الطارق اللعين، وهو لا يزال يحاول عبثا ملء فراغ الباب بجسدٍ لنحوله أكثر ما يكون شبها بعصا الراعي؛ أن الوقت غير مناسب للزيارة، "يا رفيق حامد عثمان". وكان اللورد الفقير يتطلع، في الأثناء، إلى سلّم البناية القاتم الضيّق الصاعد خلف كتفيّ المدعو حامد عثمان هذا، بترقب وقلق وشيء آخر بدا أقرب، من رعشة صوته الخفيض جدا ربما، إلى الخوف، لا بل الذعر، فأخذ قلب حامد عثمان يؤكد له أنّ اللورد الفقير هذا يتوقع زيارة عشيقته أم خميس، في أية لحظةٍ، قد تتخلل وقفتهما تلك. وقد كان. الآن، وقد هجس حامد عثمان اللعين، إلى مستوى ذلك اليقين الأعمى، بسرّ عدم ترحيب اللورد الفقير به، أي كما يفعل أعضاء حزب واحد؛ مد يده، ودفع اللورد خفيفا، عند منتصف الصدر، إلى الداخل، واندفع نحو المطبخ لا يلوي على شيء آخر. كان الكاونتر الرخامي المتشقق خاليا من أي أثر لشيء يؤكل، ولا يوجد هناك على الرف سوى القليل من الملح، أما الثلاجة فكان بها جك من البلاستيك مملوء بالماء إلى المنتصف. باختصار، بدا مطبخ اللورد الفقير خاليا، كما توقع حامد عثمان، ولا أكثر من اليأس من مضلل، حتى من وجود الحشرات المتغذية على بقايا الطعام. اللورد الفقير هذا لا يأكل عادة سوى الخمر. لا عجب إذن أن أم خميس عشيقته تصنع وتبيع "العرقي"، في شقتها القريبة، من شارع هارون الرشيد، في مصر الجديدة. ألقى حامد عثمان نظرة أخرى بها من أسى الكثير إلى حوض الغسيل الناشف. وغادر في صمت إلى الصّالة، حيث جلس هناك ينتظر بدوره مقدم أم خميس. كانت صورة التلفاز مشوشة، مجرد خطوط متداخلة، وصوته الخفيض يعلن، عبر أنثى لا بد أنّها جميلة، عن "جبنة البقرة الضاحكة لباشكري". كان بوسع حامد عثمان كذلك سماع صوت اللورد الفقير بوضوح، وهو يتناهى لاعنا، على غير العادة، من داخل غرفته، بينما يضع ملابسه ولا بد، على جسده النحيل ذاك. فغمغم حامد عثمان كمن ينافق نفسه بنفسه، قائلا:" العذر لك، يا لورد، حتى ترضى"، ثم ابتسم، وهو يقلب في فكره كلمة "صفاقة"، باعتبار أن ذلك أقصى ما قد سمح به تهذيب اللورد الجم من تنازل. منذ صبيحة يوم أمس، لم تستقبل معدة حامد عثمان اللعين شيئا، سوى جرعات ماء قرّاح متباعدة، وإذا كنت أنت كذلك، أي ميتا، كما يقول المصريون، من الجوع، وكان عليك أن تأكل بأية وسيلة، ووقف وغد في فراغ باب شقته وأخبرك بما يبدو طيبة تامة أن الوقت غير مناسب بعد للزيارة، "يا رفيق فلان"، أو مهما تكن تلك المسميات ذات اللياقة السقيمة الفاتنة، فماذا كنت ستفعل، في تلك الحال، خاصّة وأن حدسك الذي لا يخيب يخبرك أن عشيقة غنيّة ذات أرداف ستحضر، حاملة معها شيئا من العرقي وألوان الطعام، التي تصلح الأغلب لشد عزيمة عشرة رجال، على السرير. لا بد أنّك، أسيرَ حساسيتك المرضية تلك، سترتد عندها على أعقابك، معتذرا بطيبة، طاويا ذيلك اللعين ذاك، ليقطفك الموت جوعا من بعد مرور دقائق جدُّ قليلة عند ناصية أقرب شارع لعين، لأنك كوغد محتضر أو تكاد لم تشأ أبدا إفساد مزاج صديق طيب، على مشارف المضاجعة! أخيرا، عاد اللورد الفقير، من غرفته، وجلس قبالة حامد عثمان، وهو يتابع النظر إليه، بما بدا لا حياء فحسب، بل حقدا رفاقيا بريئا طيبا، يعيد إليك ولا بد ثقتك المفقودة، في النّاس والأشياء، حتى أنّك لتنسى لبعض الوقت أن تواصل إطلاق "لعناتك" المشبعة بالمرارة، على "أوغاد هذا العالم"، وما أكثرهم. حمدي صاحب البقالة نموذجا! كان بينهما داخل الصالة سجادة فارسية حمراء باهتة مهترئة، الأرجح أنّها من مخلفات جيش الإسكندر الأكبر، وذلك التلفاز الأبيض والأسود الصغير الموضوع، بما بدا عناية لا مبرر لها، على منضدة أسفل ساعة حائط خشبية متوقفة، ماركة Tempus fugit، الشيطان وحده يعلم ما الذي وضعها هناك، وهو بالمناسبة التلفاز اللعين نفسه، الذي عليك أن تصفعه، إذا ما توقف، بمقدار معين، على أحد خديه، لأنّك إذا زوّدت العيار أو أنقصته، فسيعاندك، حتى نهاية تلك الأشياء الجميلة، مثل متابعة أحداث مباراة طرفاها "الأهلي والزمالك"، وأنت تأوي بعدها، بحسرةِ ما فاتك مشاهدته، إلى السرير، لا تدري كيف تجنبت ركل ذلك التلفاز اللعين، طوال الوقت، على عجيزته. كان تهذيب اللورد من شدة البهاء أن يُحتمل حتى بالنسبة لوغد كبير في قامة الزائر، الذي بدأ يتململ قليلا، بينما يقول: "لم أتذوق لقمة منذ البارحة". هز اللورد الفقير رأسه بتأثر. إلا إن نبرة صوت حامد عثمان الواهنة الشاكية تلك سرعان ما تبدلت، على غرار يموت الزمار وإصبعه تلعب، وهو يتابع حديثه ذاك، قائلا: "لحظة أن تقوم الفاجرة أم خميس بطرق هذا الباب اللعين، بعد قليل، أطلب منها أن تضع ما تحمل من طعام وشراب داخل المطبخ، ثم أدخلا إلى الغرفة، سأملأ أنا بطني، ولن أطرق عليكما الباب، أعني لن أمد رأسي عبر الفراغ الذي من المفترض به أن يكون بابا، إلا إذا نسيت تلك الفاجرة السمينة وأنا أعلم أنّها غنيّة بما يكفي أن تترك لي على جنب مبلغا لشراء تذكرة المواصلات إلى شقتي، في حيّ عين شمس الشرقية". لما عاد الوهن سريعا يحيط بهيئة حامد عثمان، قال اللورد بصوت أقرب في رقته إلى عتاب أمٍّ حان: "هذا سلوك برجوازيّ، يا رفيق". لم يجد حامد عثمان مجددا بعد صحوته تلك أي رغبة أخرى في نفسه لمواصلة السجال، وكان قد أنهكه طول الجوع تماما، إلا إنه تمكن في الأخير بالدفع بذلك الهمس الضعيف الواهن: "وما هذا البرجوازيّ اللعين، يا رفيق؟". أجاب اللورد: "أنْ تصف الآخر في علاقة الحبّ بالفاجرة، يا رفيق حامد"! هذا اللورد الفقير يبدو بالفعل كمثقف لعين. لا يتنازل أبدا عن شخصية كونه مثقفا. إنه يشعرك بعمق ثقافته وأدبه الجم طوال الوقت. وإذا أصر على أن يتعامل مع أوغاد هذا المنفى على هذا النحو فسينتهي به المطاف حتما إلى "شيء آخر حزين". فكر حامد عثمان في سره. والأرجح أنّه كان محقا. رجل طرق باب بيتك. أقحم نفسه عليك. وأنت على أعتاب المضاجعة. والمضاجعة هذه الأيام من العسير جدا تحققها. ثم تغيب أنت نفسك داخل غرفتك قليلا. ترتدي ثيابك اللعينة. وتعود كي تقوم وحسب بتصنيف ذلك الوغد المقتحم بالبرجوازيّ اللعين. لا مراء لو أنني كنت في مكان هذا اللورد الفقير هذا وقتها، لسألت أولا بمكر من وراء الباب المغلق، قائلا: "مّن هناك؟". وسيجيب عندها الطارق قائلا: "رفيق يبحث عن طعام". وسأقول كما لو أنّه خاطبني للتو باللغة الصينية التي لا أزال أدعي عدم فهمي لها: "وماذا تريد؟". وإذا كان الطارق وغدا لا حظّ له اطلاقا من الحكمة فسيستمر في الحديث باللغة الصينية نفسها، قائلا: "افتح الباب خلينا نأكل، يا رفيق". ثم سأقول عندها بذلك الوضوح: "ثاكلتك لا أمّك، ولا ريب، بل أمن الدولة نفسه، ولكن بعد أن يتخطف قفاك المخبرون، يا رفيق. حسنا، إذا لم تسمعني جيدا، فمن الأفضل لك أن تعد أدراجك، حالا. فأنا بصراحة أستعد الآن يا رفيق للمضاجعة. لا مساومة أخرى. أي انصرف الآن. أو يا لك حقا من وغد لعين. لا يعلم حتى بوجود اختراع في هذا العالم يدعى الهاتف، يمكن للمرء بواسطته أن يخطر الناس مسبقا بمواعيد حضوره". فجأة، رنّ جرس الهاتف. نهض اللورد الفقير. مشى عبر الممر. ما لبث أن رفع السماعة في غرفته هناك: "مرحبا". بعد برهة، تابع اللورد: "لا عليك، حبيبتي". وأضاف قائلا: "المرة القادمة، يا حياتي، بالتأكيد". لم ينسِ الجوعُ حامد عثمان أن يستنكر في سرّه ربما للمرة الألف متضايقا من وجود خط تليفوني أرضي داخل غرفة مثل تلك، لا باب لها ولا نافذة، ولا تنفع حسب أقواله كي تكون حتى "قبرا لكافر"، ومع ذلك، لم يفته ملاحظة أن تهذيب اللورد اللعين، قد رافقه هناك، وهو يخاطب "شرموطة"، مثل أم خميس. عاد اللورد أخيرا من غرفته. كان يشمله، كما هجس حامد عثمان وتوقع، حزن كثيف محاط بصمت بدا أكثر كثافة، فتابعه حامد عثمان من جلسته تلك على الكنبة، من دون أن تطرف له عين، إلى أن رآه، وهو يعاود الجلوس قبالته، بحرص وحذر بالغين، على الكرسي ذي الساق المفقودة نفسه، وقد رسخ في وعيه من خلال ذلك الحدس التشاؤمي نفسه أن مسألة تناوله لقمة طعام على الأقل خلال الساعتين المقبلتين إذا كان محظوظا مسألة غدت بعد تلك المكالمة حدثا أشبه في إمكانية تحققه بمعجزة نزول بول الشيطان. علا صوت اللورد: "أم خميس اعتذرت للأسف من الحضور". وقعت عينا حامد عثمان حالا، وجسده هامد لا يزال، على باب الشقة المغلق، عسى أن يقوم أحد أولئك الرفاق، بالطرق عليه، في أية لحظة، حاملا في يده اليمنى دجاجة مشويّة، على نار هادئة، رفقة خبز أفرنجي ساخن، وسلطة خضراء، بل ذهب حامد عثمان بخياله كذلك، والأمنيات لا يدفع المرء مقابلا لها، إلى أبعد، فتصور أن الطارق المنقذ لم ينس أن يحمل معه في يده الأخرى لا الهواء، بل زجاجة فودكا، وبالتحديد من ذلك النوع، الذي ظللنا ندعوه، خشية واحتراما، ربما لقوته، باسم "الصاعقة". وليلة أمس، بالكاد أتاح الجوع لحامد عثمان أن يغمض عينيه، على نحو متقطِّع، فرأى نفسه، وهو يسكن، مثل ملك غير متوج، في إحدى ناطحات السحاب في أمريكا، تحديدا في الطابق الحادي والستين، وكان معه داخل الشقة جوالان مليئان بعدس أصفر، وحزمة جرجير وقطع من بصل وليمون أخضر. لما شبع حامد عثمان حد التُّخمة فكر في قليل من الماء، ففتح النافذة، لتدلف سحابة، كان يعلم أنّها ستمطر مقدار ما يروي عطشه أو يكفي حاجته، وربما سمح تاليا لسحابة أخرى، حتى يتأكد أنّ له من الماء، ما يكفي بارتياح، لاستحمامه وغسيل الأطباق والملابس، وأكثر ما أفرح حامد عثمان أنّه لن يقوم بتسديد فاتورة لقاء ذلك الماء. إلا إنّ حامد عثمان اللعين صحا داخل شقته الأرضية الضيقة، في حي عين شمس الشرقية، على صوت حمدي صاحب البقالة، وهو يدق على الباب بعنف، مثيرا فضيحة، بينما يطالبه بسداد قيمة ما عليه من دين. لو كنت أنا كاتب هذه المذكرات، في مكان حمدي صاحب البقالة هذا، وقلبي مشبع، مثلما هو عليه الوضع الآن، بمثل تلك المحبة الخادعة تجاه النّاس والعالم، لما وضعت مثل ذلك التعبير المبالغ فيه من الجدية، لمواجهة غريب في مثل عوز وفاقة حامد عثمان اللعين هذا، خاصّة وأنّه لم يفق بالكامل من نومه العسير كثير التقطّع ذاك بعد، وخاصّة أن حمدي اللعين هذا بدا لحظتها، كمن يوشك على إعلان حرب شاملة، الأرجح من طرف واحد، حتى أنّه قام في أثناء وعيده ذاك بتسريب اسم لواء أمن دولة أنا متأكد تماما التأكد أنّه أحيل منذ ربع القرن إلى المعاش، وإلا ما ورد اسمه في مثل ذلك النزاع البائس، فالمبلغ على أية حال صغير جدا، ولا يستحق في ظني كل تلك "الضجة المفتعلة". لو لا أن النّاس تعتقد أحيانا بذلك النوع البارد من اليقين أن أكثر أنواع القتل يسرا وأقلّه تكلفة ذلك النوع الذي نعدم به رجلا ميتا بالفعل. أو كما لو أنّه أحسّ بمقدار ما قد أصاب حامد عثمان من ضيق وإحباط لتخلف صديقته أم خميس، عن الحضور، في آخر لحظة؛ علا صوت اللورد الفقير، مجددا: "أريد أن أريك شيئا من المستحيل أبدا تخيله، يا رفيق حامد!!". حالا، اتجه الورد الفقير إلى غرفته بما بدا "الخفة غير المتوقعة". وغاب هناك لبعض الوقت. كانت معدة حامد عثمان أخذت تتخدر، من شدة الجوع، بل أخذ يفقد الشعور بها، كما لو أنّها تنتمي لجسم آخر، خاصّة من بعد أن تناهى جرس الهاتف ذاك ضاربا بكل أمل أو توقع. وقد هبط عليه ذلك النوع المدمر من الإعياء تاليا. غير أنّه ما لبث أن أخذ يغالب ما أخذ بدوره يتوغل بعيدا في عظامه من إحساس متفاقم بالقرب الشديد من الموت. إلى أن شمله يقين بدا في سكينته ولا مبالاته تلك بالحياة أو الموت والأمر سيّان أشبه بالتسليم في معركة مبهمة وغامضة لا يدري المحارب فيها مَن يقاتل ضد مَن ولماذا نشبت الحرب هناك أصلا. وواصل تفكيره المشوش ذاك: "علاقات هذا المنفى لا يدري الإنسان متى وكيف تبدأ وتتطور وتضمحل. علاقات تبدو غالبا رخوة. هشّة كما لو أنّها تغري في كل مرة بخيانتها. تحكمها الأغلب الحاجة لا القيم. أما هذا المدعو باسم اللورد الفقير فنسيج وحده. لا يتذمر، لا يشكو، والأهم أن المرارات لا تستقر في داخله طويلا". وواصل حامد عثمان التفكير قدما، بمثل ذلك الغناء الطيب الحكيم، كما لو أنّه المطربة الصاعدة نعيمة مآتم، إلى أن عاد اللورد، من حجرته أخيرا، حاملا صندوقا خشبيا أشبه ما يكون بنموذج مصّغر من خزانات الجدّات. هكذا، من دون أدنى أي تأخير، أفرغ اللورد الفقير محتويات الصندوق القليلة، وهو واقف، على الجانب الخالي من الكنبة، حيث يجلس على جانبها الآخر حامد عثمان، الذي رأى من بين تلك المحتويات، لا فتيل العطر الزجاجي الصغير الفارغ، لا كلبة بأثداء ممتلئة حسنة التكوين بحجم إصبع مصنوعة من كريستال صاف، لا صفحة صفراء من جريدة قديمة مطوية بعناية فحسب، بل كذلك صرّة قماش من التيل. والشيطان وحده يعلم، لماذا داعب حامد عثمان لحظتها، حلم أنّ الصرّة هذه قد تكون حاوية، على شيء من البقوليات الجافة، وقد تمكن منه الحلم خلال ما تلى، إلى درجة أن تنبهت حواسه مجتمعة. وبينما حامد عثمان يرقب اللورد الفقير عن كثب، بمثل ذلك الفضول العنيد القاتل، جثا اللورد الفقير على ركبتيه، وأخذ يفك عُقد تلك الصرّة، بعناية وحرص تامّين، وقد مازج وجهه فرح غامض. طال أمد تشوق حامد عثمان في المقابل أكثر فأكثر. لا سيما بعد أن بدا داخل صّرة القماش المنحلة تلك، صرّة أخرى من بلاستيك شفّاف في داخلها أخذ يتراءى شيء قاتم، فتمنّى حامد عثمان إذ ذاك فقط أن يكون طعم هذا الشيء لذيذا. أما الرجفة الخفيفة، على أطراف أصابع اللورد الفقير، فلا يدري حامد عثمان أيقوم بردها، على وجه الدقة، إلى إدمان شرب اللورد للخمر، أم إلى علة شيء آخر لعين ولا بد؟ أخيرا، مد اللورد الفقير ذاك الشيء القاتم نفسه باتجاه حامد عثمان، وقد أخذ يتكشف للعيان بمثل ذلك الوضوح الجارح الحزين بالضبط ما هوية ذلك "الشيء". فقال حامد عثمان بدهشة: "هذا تراب؟". أعقب اللورد الفقير مؤكدا: "إنّه تراب، يا رفيق". وألقى عليه نظرة حانية أخرى. مثلما يمرر عاشق سبابة، على بطن فتاة عارية، على سرير آمن آخر الليل، أخذ اللورد الفقير يمرر سبابته على جسد التراب اللعين نفسه، قائلا: "هذه حفنة، يا رفيق، من تراب بيتنا، في الوطن. ظللت أحملها معي منذ نحو أكثر من عشر سنوات". ثم.. وهو غريق تأمّلاته تلك، عنّ لحامد عثمان أمر بدا له لحظتها أن من العسير جدا مقاومته: أن يخطف تلك الصرّة اللعينة، التي لا تبعث سوى على الأسى، ويقذف بها بعيدا من على البلكونة القريبة إلى الشارع. عوضا عن ذلك، وجد حامد عثمان نفسه وهو يصمت بدوره طويلا، متأمّلا بعمق (لم يقده إلى أي شيء) في جملة تلك العادات الغريبة والغامضة لهذا الكائن المدعو "الإنسان". [email protected]