خريجي الطبلية من الأوائل    لم يعد سراً أن مليشيا التمرد السريع قد استشعرت الهزيمة النكراء علي المدي الطويل    جبريل: ملاعبنا تحولت إلى مقابر ومعتقلات    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    موعد مباراة الهلال والنصر في نهائي كأس الملك !    مسؤول أميركي يدعو بكين وموسكو لسيطرة البشر على السلاح النووي    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    عائشة الماجدي: (الحساب ولد)    تحرير الجزيرة (فك شفرة المليشيا!!)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    ستغادر للمغرب من جدة والقاهرة وبورتسودان الخميس والجمع    تحديد زمان ومكان مباراتي صقور الجديان في تصفيات كاس العالم    السوداني هاني مختار يصل لمائة مساهمة تهديفية    شهود عيان يؤكدون عبور مئات السيارات للعاصمة أنجمينا قادمة من الكاميرون ومتجهة نحو غرب دارفور – فيديو    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    شاهد بالصورة والفيديو.. نجم "التيك توك" السوداني وأحد مناصري قوات الدعم السريع نادر الهلباوي يخطف الأضواء بمقطع مثير مع حسناء "هندية" فائقة الجمال    شاهد بالفيديو.. الناشط السوداني الشهير "الشكري": (كنت بحب واحدة قريبتنا تشبه لوشي لمن كانت سمحة لكن شميتها وكرهتها بسبب هذا الموقف)    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    "الجنائية الدولية" و"العدل الدولية".. ما الفرق بين المحكمتين؟    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حتى الآباء لا يسعفون أحيانا
نشر في الراكوبة يوم 02 - 04 - 2017

هذا الشيء، الذي لا ينفك يسيل خيوطا لزجة على طول الظهر، ويصنع الروائح الكريهة عند منطقة الإبطين خاصّة، ويجعل الخصيتين تختنقان في الأسفل هناك من حر؛ لا يجد له حامد عثمان سوى اسم واحد، ألا وهو "الصيف".
كذلك بدا تأثير ذلك الفصل، على حامد عثمان، بمجرد جلوسه، والوقت عصرا، إلى منضدة خشبية صغيرة وُضعت ضمن أخريات، ما بين بوابة المقهى المشرعة وحافة شارع الشهيد أحمد عصمت، في حي عين شمس الشرقية. أخيرا، وقد حانت الفرصة الملائمة الثالثة، لم يدعها حامد عثمان كسابقتيها تمر وتفلت، حيث تشجع، وإن تنحنح قليلا، وسأل الجرسون الأسمر النحيل ذا الوجه المأكول، قائلا:
"وين نواعم، يا بلديات؟".
لوى الجرسون عنقه، كما لو أنّه لم يسمع نداء السائل، باتجاه فتاة بضة، كانت "تمشي مشي السحابة لا ريث ولا عجل"، باتجاه شارع عين شمس القريب، فالتهمها اللعين بعينيه في أقلّ من الثانية. بدأ بالشفتين والنهدين، ازدرد الكشحَ بصعوبة، ثم تنهد، ولم يبدُ على عينيه شبع بعد. ومن دون أن يلتفت ناحية حامد عثمان، أجاب الجرسون، كالمستدرك، قائلا بما بدا لا مبالاة تامة: "المعلمة زمانها على وصول، يا بيه". ونشب أظافر نظرته عميقا في مؤخرة ملفوفة هذه المرة داخل ملاءة سوداء، من قماش بدا شديد النعومة زلقا. ولما أخذ حامد عثمان يتوغل وئيدا، باتجاه عالمه الداخلي المضطرب من يأس، سأله الجرسون اللعين بصوت أبح، قائلا:
"طلباتك، يا باشا؟".
فكر حامد عثمان:
"هذه بلاد الألقاب إذن".
وقال:
"شاي كشري سكر زيادة".
وأخذ حامد عثمان يتابع الجرسون، وهو يمضي، بخفة ودرِبة، بين النُضد القليلة المتناثرة. كان (مثل أشوك اللعينة) في مشيته عتب خفيف. وإذا لم يعثر حامد عثمان اليوم على شقة، سيسوء وضعه، أكثر فأكثر، ولم يعد بالفعل أمرا محتملا: تسول المبيت لدى رفاق المنفى. أحيانا، كانوا يدسون السُّم في العسل، قائلين له بذلك المرح اللعين الزائف:
"لعلنا ولدناك يا رفيق حامد ونسينا أمرك".
وكان حامد عثمان غالبا ما يرد، حيث لا مفر هناك، من مبادلة العسل بعسل آخر غير مرغوب عادة فيه، قائلا: "تذكروا جيدا يا رفاق أنني قد أحمي ظهوركم في أثناء المعركة". عوضا عن الشاي، أحضر له الجرسون اللعين كوبا من الحلبة الصفراء المغليّة. فكر حامد عثمان: "الحلبة مفيدة على أية حال للبطن". كذلك روّضه المنفى، مع مرور الوقت وتراكم النكبات، على قبول الأشياء كما هي، وكان لا يزال عاجزا هناك، في أعماقه، عن إدارة أي نوع من المعارك، حيث اكتفى، لدقائق تالية، والجرسون يمضي في الأثناء مبتعدا ومقتربا، بمتابعة النظر، بذهن شارد وجسد منهك وقلب يضج بالأسى أو الحنين، إلى حبات الحلبة المتورمة، في قعر الكوكب الزجاجي الصغير. ولم يستمع أبدا وحتى النهاية لهمس الشيطان في داخله: "الثورة تبدأ، يا حامد عثمان، بتذكير هذا الجرسون النحيل، في الحال والتو، أنّك طلبت كوبا من الشاي، لا الحلبة المغليّة". والشيطان يا حامد لا يسبب سوى المتاعب.
كانت عمليات نقل الكتب، عدا هذه المرة، أكثر ما ظلّ يشق عليه، في أثناء التجوال، بين تلك الشقق المؤجرة. من فاقة، أطلق عليه رفيق يدعى جيفارا في أحد مجالس الأُنس تلك لقب "ملك الشقق الحقيرة". قال حامد عثمان في نفسه حينها "لست أبالي طالما وجدت لنفسي مركزا في مدينة كبيرة مثل القاهرة أنطلق منه وأعود إليه وقتما أشاء. خاصية التكيف عندي تعمل بمعدل كفاءة لا بأس به". وعلى كثرة التنقل، بين تلك الشقق المستأجرة رخيصا، لم يتملك حامدا حنينٌ قطُّ لحظة مغادرة إحداها، بينما قِلّة جدُّ قليلة، من بين أصحاب تلك الشقق المفروشة "مجازا"، وجدت لها متسعا في ذاكرة حامد عثمان المنهكة، بالتنقل والرحيل، أما أغلب أصحاب تلك الأوكار الصالحة للعيش، فقد أخذت ملامحهم تضمحل، مع تقادم العهد، في داخله، وتُمحى شيئا من بعد شيء، وقد ظلّ بعضهم يعمل، بجدية تامّة، على تأمين ممتلكاته البالية تلك، وهو يقدم النصح، من حين إلى حين، لحامد عثمان، وقد بلغ من الحرص مبلغا، بضرورة قفل الباب جيدا والنوافذ بإحكام، قائلا على الدوام بلهجة الناصح الأمين: "الحرامي ما تسهلوش المهمة بتاعته".
للثلاثة أشهر المنصرمة، وأشك أنّها أربعة، لم يقم حامد عثمان اللعين بدفع قيمة إيجار شقته الأخيرة، ولم تكن صناعة مثل تلك الأعذار بالمهمة اليسيرة، خاصّة وأن ذهن حامد عثمان اللعين بدا مشوشا، في أوقات الحيرة المطبقة تلك، إلى الدرجة التي أجرى معها عملية الزائدة "الدودية" لأكثر من مرة، حتى يقوم بتعليل عجزه ذاك، عن دفع قيمة الإيجار، في ميقاتها. قتل والده مرتين في ظرف أقلّ من شهرين، قائلا لمالك الشقة "وماذا نفعل مع الموت، يا حاج". وبتلك النبرة المشبعة لوعة، واصل مرافعته، قائلا: "فكما تعلم، الموت لا أوقات له، يا حاج". وطفرتْ من عينه اليسرى دمعة ظنّها شارة الخلاص. وكان حامد عثمان نسي في المرة الثانية هذه أيهما رحل في خياله أولا إلى رحمة مولاه، أبوه أم أمّه؟ "كما ترون، حتى الآباء لا يسعفون أحيانا". مالك الشقة، "اللعين"، قال إذ ذاك وهو يواسيه: "كم مرة ستقتل أباك، يا حامد يا عثمان، كي لا تقوم، في نهاية كل شهر، بدفع قيمة ما عليك من إيجار؟".
كان مالك الشقة هذا عجوزا في أراذل العمر سقطت أسنانه منذ سنوات بعيدة. لم يتبقَ أمامه سوى وقت ضيق جدا قبل الذهاب رأسا إلى دار البقاء الأبدي. لكنه، لحكمة لا يعلمها إلا الله، ظلّ يتشبث بدار الفناء هذه بأظافر قطّ سيئ الطباع. كان له، لعجب حامد عثمان، حزمة من خطط تمتد لنحو العشرين عاما. وحامد عثمان لم يكن يفكر كشاب إلى أبعد من حدود يومه "هذا". وكان حامد عثمان راغبا، مع ذلك، في العمل، بجدية تامّة، على تخليص العجوز، من عذاب تأجيل الإيجار المتراكم، على كاهليه شهرا من بعد شهر. وقد غدا خوف العجوز من مغبة ما يفقد أكثر ثقلا في ميزان عقله من إغراء تهديد المستأجر. وفكر حامد عثمان: "إذا أنفق هذا العجوز اللعين ربع الوقت الذي قضاه في ملاحقتي في طلب الدخول إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض لكان أرحم له ولي". ذات ليلة، من تلك الليالي السوداء الرملية العاصفة التي يهابها العجائز عادة، ترك حامد عثمان للعجوز داخل الشقة مصحفا ومراجع وكتبا كثيرة – كان من بينها كتاب فضائل الجنة-كوصلِ أمانة أو "نزاهة"، ثم رحل من دون حتى أن يلقي على العجوز اللعين تحية الوداع.
كان حامد عثمان متأكدا تمام التأكد أن العجوز "اللعين" ظلّ بعد هروبه المتقن ذاك يشكوه إلى الله بمقلةٍ باكية قائلا بين تسبيحة وأخرى:
"أخذ الله ذلك النَصَّاب إلى جواره حالا".
"المعلمة نواعم، يا بيه".
أشار الجرسون، بصوت مسطح، إلى سيدة بيضاء، في منتصف العمر، كانت تقترب، من المقهى، بدأب وعزم غريبين، بمعنى أنّها تبذل مجهودا، حار حامد عثمان في ضرورته، للدفع بتكوينها ذاك، في أثناء المشي. وحامد اللعين كان يتحدث أحيانا كما ترون بلغة مثقف لا يعلمها الأغلب إلا هو، حيث سألته وقتها كما يسأل العراقي في العادة، قائلا: "بشرفك، يا حامد عثمان حامد، كيف يمكن لصوتِ رجل، مثل ذلك الجرسون اللعين، أن يكون مسطحا؟". وكمثقف لعين، رد على سؤالي اللعين ذاك بسؤال لعين آخر، قائلا: "هل سمعت صوت البط من قبل، يا شكر الأقرع؟". قلت من دون تعطيل: "طبعا". قال: "فذلك إذن هو الصوت المسطح". ضحكت. والشيطان وحده يعلم ما كان سيحدث بالفعل، إذا ما تمّ اعتماد أوراق قبولي كجاسوس، في صباح ذلك اليوم، داخل مبنى السفارة اللعين. إذ أن تضمين أشياء، في تقرير عميل قذر بالضرورة، من شاكلة "صوت مسطح" و"عجيزة مكعبة"، من شأنه أن يشكك، بل ولا بد من ذاك، في سلامة القوة العقلية اللعينة للعميل "بون 7".
أحسّ حامد عثمان، وهو يرى المعلمة نواعم، على ذلك القصر في القامة والامتلاء البدني، وكأن أحدهم قام رفقا بركل كرة من اللحم، في اتجاه المقهى. ولم يتوصل حامد عثمان أبدا، في أثناء حديثه إليها ذاك من عل، وفي أثناء بذلها جهدا واضحا لترى من خلال تلك الوقفة أثر كلامها على وجهه هو، إلى رسم وضع جنسي متخيل ومحدد لها على السرير. كانت تلك عادته مع أية امرأة يقابلها في تلك الأيام: أن يجردها من ملابسها في نفسه ويرمي بها عارية على سرير. ولم يكن يتورع والحال تلك إذا سأل لمن تكون هذه الجنازة وقيل له إنها لسيدة كانت طاعنة في السنّ أن يستدعي حالا في خياله جملة ذلك التاريخ الجنسي للمرحومة منذ أن سالت الدماء على ساقيها لأول مرة. الكبت يفعل الكثير. قالت نواعم إنها لن تتحرك من مكانها "قيد أنملة". وقال حامد عثمان: "نسيتُ أن أقول لك يا شكر الأقرع إن اللورد الفقير الذي دلني عليها أخبرني أن لها ماضٍ عريق في دراسة اللغة العربية". قالت "ما أروحشي حتة، يا هذا"، من قبل أن يقوم حامد عثمان، "في الحين والتو"، بدفع مبلغ عشرة جنيهات لا ترد، سواء راقت له إحدى تلك الشقق المفروشة أم لم ترق. فكر حامد عثمان:
"أنها تراوح بسلاسة ما بين الفصحى والدارجة المصرية".
وفكر:
"إذا كانت نواعم هذه تقوم بفرض مثل تلك الشروط على قرينها في السرير فلا بد أنّها ستضع طفلا بعد مرور كل عشر سنوات".
كانت السمسارة نواعم بالفعل على تلك الدرجة العالية من شدة التصميم وقوة الإرادة، فوافق حامد عثمان على شرطها الجزائي ذاك مكرها، وكانت لا تزال به تلك الحاجة الماسة، إلى مساحة من الصمت، ريثما يبتكر لها في طيات خياله الماجن إحدى تلك الوضعيات الساحرة، على السرير. لكأنّها بدورها قرأتْ أفكاره تلك، حيث أخذت نواعم تواصل الثرثرة بشهية ودون لحظة توقف واحدة طوال الطريق لمعاينة إحدى تلك الشقق المعروضة للإيجار، هكذا: "السمسار ما يغلبوش (يا باشا) إلا ربنا". واستمرت نواعم في الكلام والثرثرة، إلى أن توقفا معا أمام بناية صغيرة مكوَّنة من أربعة طوابق، حيث طلبتْ نواعم من حامد عثمان أن ينتظر، "يا هذا"، إلى اليسار قريبا، "يا هذا"، من البوابة الحديدية القديمة المشرعة، ريثما تخبر المالك، في أحد الطوابق العليا.
رآها حامد عثمان تاليا، وهي تصعد السلالم الأولى بخفة كرة. كما لو أن الأمر برمته يتم خارج قانون الجاذبية. "لا شك أنها سمساره موهوبة"، قال في نفسه، مندهشا من تلك الحيوية التي هبطت عليها بغتة. شأن المواهب الأخرى في كل زمان ومكان. لا ترى ما يميزها في حياتها اليومية. ما أن تتوغل حثيثا داخل مجالها الخاصّ حتى تريك من أمرها عجبا. مايكل جاكسون، مثلا. يبدو (يا شكر الأقرع) رقيقا كعذراء، ساذجا كيافع، في حواراته الغبية تلك، وهو يتحدث بنبرة تجعلك تظن أنّه لا يصلح، حتى لمضاجعة نملة. ما أن يعتلي الوغد مسرحا، ويبدأ في الرقص والغناء، حتى تظنّ لوهلة، وكأن عواصف رعدية تقصف بهدوء العالم، أقدام حالم تسير سابحة على سطح القمر، ومعارك غامضة تدور رحاها على بعد أميال قليلة من رعاية الإله.
هناك، عبر الشارع الضيق القصير المترب، الذي يقسّم الحارة إلى موقعين رئيسيين لمراقبة ذاتية متبادلة نشطة، بدا سروجي سيارات شابا يعمل على شيء ما ومحل نجارة و"بقالة نور التقوى والايمان". ثمة مخبز عند الناصية الشمالية الشرقية من الحارة. وقريبا، إلى اليسار، بدا "جزار الأمانة" بلحيته المستديرة السوداء ولسانه المتدلي ويديه البارعتين منهمكا في سلب ساق كثيرة الدهن، وابن الزانية هذا، سيزفونه إلى السجن، في غضون العامين تقريبا، بعد أن باع النّاس ما لا يحصى من لحم الحمير. لسبب ما، أخذ يبتسم في وجه حامد عثمان ذلك الحلاق المجاور للجزار، ناظرا إلى هيئته العامة، متوقفا عند شعره الخشن، على وجه الخصوص. هؤلاء الحرفيون والباعة، سيتفحصون بوقاحة كل شيء يتعلق أو كان بحوزة حامد عثمان، طوال ساعات اليوم، حتى طريقة المشي، الإيماءة، درجات الشهيق أو الزفير في الهواء، ما يوجد داخل أكياس الطعام، يلوون أعناقهم جاهدين لقراءة عناوين الكتب المحمولة على يده. لقد غدا من رابع المستحيلات، والحال تلك من الرقابة الخانقة، أن تدلف امرأة إلى داخل شقة حامد عثمان، خلسة. كانت نواعم أشارت، قبيل صعودها، إلى شقة في الطابق الأرضي، لا تقابلها شقة أخرى، سوى تلك الظلال الداكنة والرطبة لمنحنى الدرج الصاعدة إلى الطابق الأول. كان على بابها ذي الطلاء البني القاتم قفل رمادي متآكل الحواف. ولقد كانت الشقة تلك الشقة نفسها التي سيخرج حامد عثمان منها ذات ليلة صيفيّة عاريا. أي تماما كما ولدته أمّه. للشقة كوة تلي السقف المنخفض، تقع وراء الباب حين يُفتح على مصراعيه، تُذكِرك بنافذة في زنزانة، ويمكن للمرء عبرها النظر متجاوزا بوابة البناية إلى قطعة من الشارع، ليرى المرور الخاطف لعابرة سبيل، بينما يُلاعب بيده موضوعه الخاص، في الأسفل. كان حامد عثمان يقوم بإغلاقها في الشتاء بواسطة حشر ورق الصحف ورصّ الكتب، وهو يقول عادة مازحا مبتسما لنفسه: "يا لها من أوضاع مرعبة للمنفى هذه الأيام!".
بعد تردد، أشعل حامد عثمان ذلك النصف المتبقي من آخر سيجارة متبقية له بآخر عود ثقاب. وبدأ يتطلع بحذر إلى بلكونات وأبواب ونوافذ شقق البنايات المقابلة. لكأن مئات الأعين المختبئة خلفها تتفحصه كفريسة محتملة. لم يتبق من السيجارة أخيرا سوى طعمها المر، على فم حامد عثمان، حين أقبلت نواعم هابطة درجات السلّم الأخيرة. كانت تلهث وفي أعقابها مباشرة أقبل ما بدا كمالكٍ للعقار. رجل خمسيني، رائق البشرة، لحيم، ربعه، يرتدي جلبابا أبيض. كانت الشقة من الداخل أشبه بمغارة مهجورة. دولاب خشبي متداع. صور ممثلات وعارضات أزياء ملصقة على أحد الجدران الرمادية الكالحة كيفما اتفق: ديمي مور. كلوديا شيفر. نعومي كامبل. جوليا روبرتس. صوفيا لورين في شبابها. مارلين مورنو. سعاد حسني. لوسي شقيقة الممثلة المعتزلة نورا. الأميرة ديانا. وحتى غادة السمّان في صورتها العابرة للأجيال والعصور. كان ثمة عتبة منخفضة تفصل الغرفة عن الحمّام الصغير وأخرى مثلها تفصل الأخير عن حيِّز آخر أكثر ضيقا يقع إلى الداخل أشارت إليه نواعم بنوع من الرصانة قائلة إنه "المطبخ، يا هذا"، بينما الرجل آثر أن يبقى في الخارج، ريثما تنتهي المعاينة. لم يكن ثمة من ستارة أو باب داخلي يفصّل هذا الحيّز عن ذاك. والله وحده يعلم ماذا كان يُسمّى في السابق ككل، هذا المكان المعروض الآن كفضاء للعيش. كان حامد عثمان يتابع معاينة المكان بأقسامه الثلاثة في صمت وعلى وجهه نظرة ساهمة لرجل يعلم جيّدا أن زمن الخيارات في حياته ولَّى.
هذا، إذا وُجِدَ قطُّ مثل ذلك الزمن!
كان ثمة مرآة جانبية كبيرة علاها غبار كثيف. ورائحة الرطوبة الحبيسة في الداخل لا تُحتمل. ولم تفلح الإضاءة الكابية كثيرا في إخفاء آثار النشاط المحموم للعناكب المنتشرة بكثرة. "الأستاذ حامد عثمان، أعرفه يا حاج من زمان". غني عن القول هنا إن نواعم اللعينة كانت تكذب. "هو بتاع ربنا". حامد لم يسبق له معرفة هذه السيدة. "أصله زبون عندي من زمان". وقال حامد على سبيل التسلية في نفسه "ها، ستكتب عند الله كذابة". ثم تابعت نواعم تقديم بطاقة حامد عثمان التعريفية، قائلة: "من السودان الشقيق طبعا". فجأة، أصاب حديث نواعم عند هذا المنحنى حامد عثمان في مقتل. كما لو أنّه كان في حاجة أخرى للتأكيد على غربته المقيمة ليل نهار. ظلّ الحاج إبراهيم العربي صامتا. وبدأ حامد عثمان يقلق، وقد وجد نفسه هكذا، غريبا بين يدي غرباء، رهنا بمشيئةِ الآخر، وعرضة لغدر الرفاق، في أية لحظة. وكانت قد أخذت تراود حامد عثمان بالفعل، تلك الرغبة الماسة في البكاء، حين تنحنح الحاج إبراهيم العربي أخيرا، ماسحا على لحيته الشهباء، وهو يقول: "اعتبر نفسك المستأجر الجديد، يا حامد ولدي. ولكن بشرط. شرط واحد فقط لا غير". قال حامد عثمان بتسليم (وهل أمامه غير التسليم؟): "ما هو، يا حاج؟".
الحاج إبراهيم العربي أعاد على حامد سؤاله ذاك بسؤال آخر:
"أولا، حضرتك منين في السودان؟، الخرطوم، ولا أم درمان؟".
قال حامد:
"أنا من شرق النيل، يا حاج".
وكمن يبعث حياة في جثة مضى عليها عقود، سأل الحاج:
"ما علينا، المهم، في سنة 67، جرى إيه في الخرطوم؟".
قال حامد من قلب الحيرة أمّ أربعة وأربعين:
"لا أذكر، يا حاج!".
تهلل وجه الحاج إبراهيم العربي، وهو يقول بهدوء رجل لم يمسّ معدته جوع مرة واحدة في حياته الثابتة المستقرة: "لقد جرى وقتها هناك في الخرطوم مؤتمر اللاءات الثلاث بين الزعماء العرب". قالت نواعم: "ما شاء الله، الحاج إبراهيم عالم بدقائق التاريخ، يا هذا". وقالت نواعم متابعة: "بسم الله. ما شاء الله. الحاج إبراهيم العربي فاهم والنبي كل حاجة". وأخذت نواعم تنظر إلى حامد عثمان بتلك الابتسامة الحزينة المجهدة للتأمين على تعليقها ذاك. إلا أن الحاج إبراهيم العربي تابع وهو يشدد على كلماته حرفا فحرفا كما لو أن قطعا معدنية صلبة يتم طحنها داخل فمه: "أنا عندي كمان تلات لاءات، وهي شروطي لكل ساكن جديد". كاد حامد عثمان أن يسأله: "ما هي شروطك تلك، يا حاج". لو لا أن تناهى صوت الحاج، قائلا:
"لا نسوان، لا خمر، ولا ازعاج للجيران".
كانت نواعم لا تزال تنصت إلى الحاج إبراهيم العربي بتلك المبالاة المصاغة على يد المهنة بعناية، بينما لم ينفك الحاج بدوره من التطلع بما يشبه الصفاقة التي تشعرك كما لو أنّك "لا شيء" إلى صفحة وجه حامد عثمان، محاولا ولا بد سبر مكنونات حامد عثمان الخفية. وكان حامد عثمان وقتها صامتا، وعلى وجهه ملامح ذلك الحمل الوديع، مطرقا وهو يزن شرط الحاج الجزائي في سرّه بهدوء ودقة، بينما يقول في نفسه: "هذا المأفون، ما الذي أبقاه لي إذن من متع الحياة الصغيرة؟".
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.