كمن يمزح نشازا، أجابها حامد عثمان، خلال سيرهما الوئيد، ذاك المفخخ بأثقال الصمت وحمّى المشاعر المختلطة باتجاه مطعم ماكدونالدز القريب من مبنى الجامعة الأمريكية، قائلا: "كنت أفكر، يا مها، في الذهاب معك، (حبيبتي)، إلى أقرب سرير". قالت "لا (ابتسمتْ على نحو بدا شائها) بل أنت تفكر في أمر آخر". تاليا، انشغل هو، في الخفاء نفسه قليلا، بتفسير تلك الطريقة، التي بها ابتسمتْ. أما مها فقد انشغلت في الأثناء أكثر فأكثر في غياب الدفء عن كلمة (حبيبتي) لحظة أن نطقها، هكذا: باردة جافة وخالية مثل قلبٍ ميت من نبض. وسط تلك الضجة الحميمة للمطعم، من أغصان كثيفة متفاوتة ومتشابكة للكلام ووقع ملاعق أو شوك حميم على آنية وصوت سائل يهوي على كوب وصوت لُعبة الكاشير وهي تصدر رنينا فرحا كلما أطل عليها بوجهه المال، واصل حامد عثمان الأكل، غارقا في تفحص عالمه الداخلي، وما تطالعه به الذاكرة من صورها هي على وجه الخصوص، فلا يسعفه كل ذلك، وهو يسترق النظر إليها أحيانا عبر المائدة، إلا في السير، بأسرع ما يمكن، باتجاه إنهاء الكابوس الماثل، منذ أن شعر بها، قبل نحو العام، وهي لا تني تطارده، كي وفقط "يتزوجها". ابتلع لقمة لم يتمّ مضغها جيّدا. وعاد يطالعها. لا تزال نظرتها حزينة، ساهمة ومرسلة، إلى مستقرها الغامض، وراء واجهة المطعم الزجاجية، حيث تفاصيل شارع محمد محمود الغارقة، في عتمة الحادية عشرة ليلا.. كانا، من قبل كل ذلك، قد غادرا صالة المعرض التشكيليّ المقام في "أتيليه القاهرة"، بحارة كريم الدولة، وهما متماسكين متقاربين، وصوت الجوع يعوي في داخله ويشتد، وهو ما لم تنعم به قطّ مها الخاتم، في المقابل، وقد تخلت منذ مدة أو تكاد عن ذلك الولع الذي طبع أول عام لها في القاهرة بمتع الحياة الصغيرة مثل الأكل، بالذات "سلطانية أمُّ علي"، فلم يعد يشغلها الأرجح ليلا نهارا سوى أمر واحد، وربما لاحقها أثر هذا إلى آخر يوم في حياتها، ألا وهو: "كيف أن ما سبق أن تخيلته لحظة أن التقت بجمال جعفر عبورا بين ضفتي نهر صغير لم يكن سوى البداية المخادعة لغواية محيط العار المتاهة العصيّة على الإمساك والتحكم بها وهي لا تني تقرض حاضرها كما قرضت ماضيها وكما ستقرض على ما يبدو مستقبلها فلا يتبقى منها في الأخير غير حكم غشاء البكارة؟" الأشجار قليلة متباعدة، على الجانبين، غارقة، في العتمة، وقد بدت ساكنة، كما لو أنها زحفت خارجة خلسة من إطار لوحة. الصمت كعادة تلك الأيام الأخيرة لهما معا لا يزال سيد الموقف، من دون منازع، في أثناء سيرهما البطيء المتفكر الزاحف ذاك، عبر أرض حارة كريم الدولة التجارية الصغيرة، حيث المحلات (عدا الأتيليه) مغلقة ومقر مبنى حزب التجمع وهو يتراءى هناك مثل كتلة قاتمة أشبه ما تكون بجسد تحجر من دون أطراف. للأفكار كما للهواجس ضجيج حاد ومرتفع. هما إذن قريبان وبعيدان في آن، أو ذلك بالضبط ما أخذت تحسّ به مها الخاتم، عبر ملمس يده القابضة كفم رجل عجوز خلا من أسنان على يدها، بآلية تامّة، أما العرق على جلد يده، فلُعاب لزج. على أن ذلك كان معرضا فريدا من نوعه. أقامه فنان مصري بدا على مشارف الثلاثين، وجهه مجدور، نسي حامد عثمان (للأسف) اسمه، بمجرد أن تجاوزا عتبة المعرض. كان عنوان المعرض "ذو الطبيعة الشاعرية الآسرة"، وهو "الأحباء عبر العصور"، أول ما جذب مها الخاتم إلى فكرة زيارة المعرض، ما أن وقعت عيناها على خبر عنه في إحدى الصحف، وقد سايرها حامد عثمان على مضض، ربما حتى لا يجد نفسه في مقارنة غير متكافئة مع "مثال أعلى للحبّ". وقد كانت تخيفه دائما مقارناتها خاصّة لحظة أن تضعه في مرتبة واحدة من التصنيف مع جمال جعفر. وفي مرة، أمسكتْ به من وراء كتفيه، وأدارته بعنف تقريبا نحو مرآة تسريحتها داخل غرفة النوم، قائلة: "ألا ترى إذن أوجه الشبه الكثيرة بعد بينك وبين جمال جعفر، الآن؟" قتلته. كان هناك سلفادور دالي وجالا. روميو وجولييت. رمسيس الثاني ونيفرتاري. قيس وليلى. سارتر وسيمون. أحمد رامي وأم كلثوم. جميل وبثينة. عنتر وعبلة. عايدة ورادميس.. كانت خامات المعرض زيتا على توال وزيتا على خشب. وكان اللون الأزرق يسيطر، كما لفت ذلك نظر مها الخاتم خاصّة، على أغلب المساحات، سواء على مستوى الخلفية، أو على مستوى تلك التفاصيل الداخلية للوحات. "ربما لأن اللون الأزرق بدرجاته المختلفة يضفي لمسة من شفافية على نحو يتناسب وقصة حبّ"، هكذا، أو تماما، بمثل تلك الحذلقة، أخذ الفنان يشرح لهما لماذا هو اللون الأزرق مسيطر على لوحاته تلك بأكثر من الألوان الأخرى. ثم لسبب لا يعلمه في عرف حامد عثمان حتى "الجد لاست"، امتدح الفنان على حين غرة ما أسماه بسخاء "ذكاء مها الخاتم". وإن لم يمنع ذلك حامد عثمان اللعين، الذي بدا كما لو أنّه لم يسمع ما قال الرسام للتو، من مواصلة التصرف في المسافة القائمة بينه وبين الفنان كما لو أنّه يفهم تماما ما يقول "المبدع الرسّام"، وما يعكس من رؤى وتصورات جمالية. بل كان حامد عثمان هذا وقد بدا له جليا أن ذلك الشاب فنانا مشوبا الأرجح بحساسية مريضة، قد شعر بنوع من الأمان تجاه إمكانية أن يُحرج، فأخذ يواصل طرح أسئلة على الفنان الصبور المتفهم أنا متأكد تمام التأكد أن الشيطان الرجيم نفسه لن يعلم في الأخير ما هي؟! كأن يقول وعينه على رفيقته: "ألا ترى حقا معي أن ضبابية الحياة المعاصرة قد تحد من عمل القزحية واقعيا، يا سيدي"؟ أفلتتْ مها الخاتم يدها، عن يد حامد عثمان المنسحب، منذ نحو الدقيقة، إلى نفسه، بينما ينحرفان معا، بالخطى البطيئة المتثاقلة نفسها، يسارا نحو ميدان طلعت حرب القريب، حيث نسبة الالتقاء، بأحد أولئك المنفيين، من مسببي الضرر، مرتفعة، في العادة. كانت تتجاوز بقليل العاشرة ليلا. وحامد عثمان وإن شرع يستبعد عن ذهنه ما رسخ من ثرثرة ذلك الرسام "المزعج"، إلا إنّه لم يتوقف طوال فترات صمته المتقطّع تلك عن التفكير فيها، أو كما لو أنها تبدو الآن أقلّ جاذبية بكثير مما كانت عليه عند بوابة مكتب الأممالمتحدة، حيث التقاها حامد عثمان هناك، منذ سنوات، لأول مرة، ولم يكن جمال جعفر قد مر بعد وقتها، على نضارة بستانها، كما يمر إعصار خطفا على حقل. "حامد"، فجأة، علا صوت مها الخاتم مناديا، بينما يتناولان وجبة العشاء في ماكدونالدز قبالة مبنى الجامعة الأمريكية. "نعم"، قال حامد هابطا إلى ما تحت ذلك القاع المغطى بطحلب ذكريات مكللة باليأس. قالت (وهي تضع عينيها الجميلتين داخل عينيه مباشرة هذه المرة): "بصدق، فيم كنت تفكر حامد حبيبي منذ أن غادرنا ذلك المعرض؟" لا مراء أنّه كان يفكر في طريقة مثلى للتخلص منها كقميص بال. وقد تولد لديه ذلك الإحساس، في شكل الحاجة، منذ نحو العام تقريبا، بعد أن أخذ يرسخ لديه على نحو مطّرد إحساس أن ما هو ثوري وصدامي وتمردي نابض بالحياة وتطلع لا يأس معه إلى الانطلاق نحو آفاق أرحب انطفأ في داخلها، وقد تبين لها أن ما حدث بينها وبين جمال جعفر مسألة، قد تلاحق مَن هم في نسبتها، حتى من بعد زوال حياتها هي نفسها. وإن بدا هذا الأمر لحامد عثمان أخيرا كنكوص مثير للأسى وتراجع مظلل بموات ناعم عن محاولة إنقاذ العالم إلى محاولة إنقاذ الذات. وهذا الأرجح ما يحزن، في عرف حامد عثمان نفسه، من دون أن يمتلك القدرة، مع ذلك، على إدانته، أو رفضه، أو حتى مساندته. والحكمة تقول: "من الخير أن يغرق قارب مها الخاتم في غيابه!". كان حامد عثمان يحاول في الواقع بتصوراته تلك عنها التخفيف من حدة الأشياء التي ظلّ ينتجها من حين لآخر مصنع تأنيب الضمير داخله. ولم يكن حامد عثمان هنا أقرب منه شبها إلى جمال جعفر من أي وقت مضى. إلا أن هذا نفسه مَثَّلَ دائما غطاء لما هو أسوأ وأعمق غورا وحاكما لمواقفه منها هي بأكثر من أي شيء آخر. لقد كان يبحث وباختصار شديد عما يعينه على التعايش مع ما صار يتكشف له، أكثر فأكثر، كهشاشة ثورية ذاتية لا تحتمل. لقد كان حامد عثمان في البدء متقبلا حتى قبل الغرق في تفاصيل تجربة مها الخاتم لثوريته في حدود ترديد مقولات شعرية تتغنى مثلا بالحرية مبلورا عبرها موقفه من نظام قمعي، أو ما إلى ذلك. عدا أن ثوريته تلك لم تكن مهيأة قطّ للارتباط علنا بأنثى وطأ أرض بستانها من قبل رجل آخر ولنقل صراحة "وطأها في ظلّ الغياب التام" لوجود شاهدين وموثّق عقود "شرعي"، قد يدعى أحيانا باسم "المأذون". وهو يحاول مستبعدا من صوته نبرة المزاح، التي علقت بكلامه فور أن تجاوزا عتبة الأتيليه خارجين، وحتى وهما يبدآن في تناول الطعام، قال: "أبدا، يا مها". قالت تعاتبه على ما اعتبرته هزلا في موقع جاد: "لقد أصبحتَ مستهترا تماما، حبيبي"! وضع على وجهه تعبير الكرامة الجريحة. وقد بدت نبرة صوتها أقرب في وقعها على أذنه إلى الاستسلام، بأكثر مما هي رسالة عتاب، أو إعلان عن غضب. ما لبثت مها الخاتم أن أخذتْ تتفوه بما صار لازمة لها في تلك الأيام، قائلة: "إذن (حبيبي) ما نهاية علاقتنا معا"؟! لاحظ حامد عثمان ثانية أنها لا تزال تأكل من دون أي شهيّة. أو بالكاد تأكل. ولما انتبه إليها بكلياته أدرك أنها لم تكن تأكل. كانت تنتظر فقط إجابة بدا كما لو أن حياتها بأكملها متوقفة عليها. أخيرا، وقد رفع نظرته قبلها بنحو الثانية صوب سقف المطعم القريب، قال حامد عثمان، وهو يستعير إجابة قديمة بدأت هي تدرك مغزاها بالذات في الفترة الأخيرة كحلمة زائفة وُضِعَتْ في فم رضيع كثير التشكي: "الزواج طبعا، حبيبتي". خُيل إليه وهو يهبط بنظرته نحو الساندويتش أو ما تبقى منه أنّه قد تفوّه هو نفسه في الآونة الأخيرة بالفعل إزاء الحاحها المتفاقم ذاك بالإجابة اللعينة نفسها آلاف المرات. وكالعادة، أو كما توقع هو، أخذ شيء من الشك يطل، من داخل عينيها، من قبل أن يتحول إلى نظرة ساهمة عبرت واجهة المطعم الزجاجية مصطدمة بعتمة الشارع. ثم ما لبث أن عاد هو بناظريه من مهوى نظرتها تلك، وسألها ثانية، وقد عاد من تفكيره المقارن حولها ذاك، ولكن بنبرة بدت الآن أكثر حذرا من ذي قبل، قائلا: "هل أعجبك المعرض، يا مها؟". كانت لا تزال تحط بناظريها هناك. إلا إنها هزت رأسها بعد برهة من صمت بدا نوعا ما مبهما وغامضا. لكأنها تؤكد صحة حديث جار داخلها. فقال إذ ذاك مضيفا بحذر آخر أو كما لو أن الكلام يخرج من فمه بلا صوت: "ثم فيم تفكرين الآن"؟! كانت لحظة رحيله إلى كندا تقترب. لم يخبرها بشيء من ذلك. وإن كان يدرك في قرارة نفسه أن الخبر تسرب إليها لا محالة. مناسبة كهذه تُدغدغ حُلم المنفيين كنسمة. "إذا لم يتم توثيق أقوالك، فأنكر نسبتها إليك بدم بارد، أو كما لو أنك لم تقلها أبدا من قبل"، تقال ذلك منتصر جيفارا، في أثناء اجتماع حزبي، بينما يلقي درسا في "فن المناورة والتكتيك السياسي". وكان حامد عثمان أعد نفسه لنفي واقعة رحيله الوشيك إذا ما حدث وأن واجهته مها الخاتم بموضوع هجرته برسم خطة وهمية لمواصلة العيش في القاهرة إلى جانبها كزوج. بل ذهب معها في تلك الأوقات إلى أكثر من قاعة للسؤال عن تكاليف حفل إقامة زواج. وفي مرة، اشتريا عددا من الملايات القطنية من محل في شارع شريف. ووضعاها ضمن أشياء أخرى داخل شقتها. لكنّها باغتته حين طلبتْ منه أخذ تلك الملاءة التي ظلَّتْ تستخدمها كغطاء في أثناء النوم، قائلة: "حتى لا تفتقد رائحتي ليلة واحدة، حبيبي". كانت فكرة شراء الملايات ذات دلالة رمزية. ابتكرها أحد شياطين حامد عثمان. وقد أراد منها على سبيل التمويه بالطبع أن تدرك مها الخاتم أنّه راغب في سريرها بأكثر من أي شيء آخر ضمن محتويات بيت المستقبل الأخرى. كانت مها الخاتم مولعة في تلك الأيام بأن تهديه أشياء لها رائحة مثل قطعة سروال داخلي. ثم قالت تهمزه طعنا بالكلام شأن تلك الأيام "العالم في لوحات المعرض يبدو كشيء وفي الواقع يبدو كشيء آخر". بدا واضحا إذن أن الكلام قد أخذ في التحول إلى شيء بغيض آخر أشبه الأرجح بالسير عبر مسارب حقل مفخخ بالألغام في أعقاب موقعة، مثل "العلمين". إلا أنّه سألها على أية حال متابعا الحديث بتلك البراءة المراوغة نفسها، قائلا: "ولكن، حبيبتي، كيف يكون العالم مختلفا هنا وهناك". كان من الواضح أنّ حامد عثمان يحاول كسب الوقت لا أكثر. قالت (وقد أفلحت في مراميها) ماحية ملامح الحمل الوديع من على صفحة وجهه: "مجرد وجهة نظر، يا حامد". وبعد مرور نحو الدقيقة، قالت بتسليمٍ وَخذَ سطح ضميره خطفا: "كل شيء يسير في الواقع على غير ما تقول به الأحلام والكتب. ذلك ما كنت أعنيه بالضبط بكلامي ذاك، يا حامد عثمان حامد، أم أنّك يا أبا الذكاء لم تفهم بعد"؟! لا بد أنّه الآن في مأزق، وقد نطقت باسمه للتو ثلاثيا. قال: "بالطبع لا ينطبق الأمر على كل الناس، يا مها". وكان يطعن بالكلام كما درج مواقفَ سلفه جمال جعفر معها. قالت: "هنالك فيلسوف، لا أذكر اسمه الآن، يقول إن الثوري لدينا عنيف في أقواله ومسالم في أفعاله". قال حامد عثمان الذي أشرقت ملامحه كما لو أنّه تفاجأ بروعة الثقل المعرفي لمها الخاتم: "أنتِ تعنين هنا فتى المارتينيك الرائع فرانز فانون". إلا إن فرحته المباغتة تلك سرعان ما تمّ وأدها، عندما أخذ دمع مها الخاتم يتقاطر، عبر المائدة الصغيرة، في صمت. ثم وهي تضع ثلثي الساندويتش على المائدة، قالت: "شبعتْ". تابع هو مضغ اللقمة الأخيرة بصعوبة تامة. وهو ينظر كما لو أن الحياة وهما إلى يديه المنسدلتين مثل شيئين غريبين على حواف المنضدة. كان عاجزا تماما على ما بدا عن تقديم أدنى قدر ممكن آخر من بثّ الوعود ثانية في أثير روحها المشبع سلفا بالوعود. قالت: "هيّا". وشعر هو بها كمن بدأ يبحث جاهدا عن أنفاسه دونما جدوى. فنهض بدوره. هكذا، بالكاد أخذ جرعة أخرى من علبة الكوكاكولا المثلجة. وقال لاحقا بها عند البوابة الخارجية للمطعم فيما بدا كمحاولة أخيرة يائسة ومستميتة لإنقاذ شهوة المبيت على نار فراشها الهامدة تلك الليلة: "أنا لست في وضاعة جمال جعفر، يا مها". ليته لم يتفوه باسم "غريم". كان ذلك أشبه في سذاجته بالإعلان ذاتيا دونما مواربة عن إفلاس شامل ونهائي. وقد أخذ يتشكل اسم جمال جعفر اللعين عبر نبرة صوته تلك كورقة أخيرة لمبتز آخر ظهر للتو في المدينة. ما زعزعه أكثر أنّه رآها عبر جانب وجهها وهي تبتسم بمرارة بدت كثيفة مركّزة وغير قابلة تماما للتخفيف. أو كما لو أن التاريخ حسب ماركس "لا يعيد نفسه إلا على نحو ساخر". وقد قالت أخيرا كمن نُبش له جرح قديم بظفر حاد: "الحرامي في رأسه ريشة". وتلك بالذات بدت لحظتها، كما لو أنها العبارة الوحيدة الملائمة لختام أمسية، لا بل لختام ما بدا لبعض الوقت بينهما كمشروع حياة مشتركة واعدة وثرية باحتمالات مفتوحة لسعادة قد ينطوي عليها عشق. فحاول تمثيل دور "الجريح الغاضب". لم يفلح سوى في تغذية زخم الريبة المستعر في داخلها أكثر. إلا إنّها توقفت بغتة على بعد خطوات قليلة من التقاء ميدان التحرير، بشارع محمد محمود، قائلة: "لا تتقدم معي خطوة واحدة أخرى، يا حامد عثمان حامد"، بذات النبرة الحزينة المثقلة والمُعَذَّبة لامرأةٍ تدرك بوضوح تام ألا شيء في هذا العالم المترامي يمكن أن تخسره بأكثر مما خسرت. كان حامد عثمان قد تجمد، في وقفته كتمثال، حيث أخذ يتابع النظر إليها، وعفاريت الغضب لا تني تصنع خطواتها المتداخلة بينما تبتعد متلاشية، في الزحام الخفيف للميدان، باتجاه ميدان عبد المنعم رياض وحيدة مجردة عن كل عون وملتفة بعتمة منتصف الليل، مرة وإلى الأبد. عبدالحميد البرنس