بدت مها الخاتم، في الآونة الأخيرة، الأغلب، مسالمة وديعة، أو شاردة البال، كما لو أنّها لم تعد قادرة بعد، على مواصلة الحياة نفسها. ربما تعطي حامد عثمان جسدها، هو الذي ما أن يراها تستيقظ غرائزه حالا من جوع وحرمان تاريخيين مجتمعة، ولكن ذلك غالبا ما يحدث، والحال تلك، بسخاء إرادة ميتة، أو لنقل "إقبال معتزلة"، حيث لم تكن تقاومه عادة، إذا ألحّ هو أو أصرّ متقرّبا آملا ودانيا، إلا على نحو يفجر براكين الرغبة، ذات المسار الأحادي المتحرك، دوما، وأكثر فأكثر، من داخله هو، لا "داخلها" هي. وحتى هذا التجاوب الميت، كان يتمّ، في أوقات كثيرة، على مضض، أو إلى حين، وكل هذا وذاك ولا بد مما يفعله ذلك السريان الحثيث للزمن، على مسار العلاقات ومعالم النّاس والأشياء، من تبدل، أو تحول، وهو ما قد بدا يتكشف أخيرا لمها الخاتم كإجابة، على سؤالها ذاك العالق، في أعقاب هجران جمال جعفر اللعين لها، على إحدى صفحات دفتر يومياتها الحزينة: "كيف يقودنا طريق الحبّ أحيانا إلى كراهية العالم؟" في المقابل، وشيئا فشيئا، بدأ حامد عثمان يعي كوغدٍ لا متفهم وجود نفورها المتزايد ذاك تجاهه، في مرحلة متأخرة، وقد تطور وصار ملحوظا، وعلى وجه الخصوص، في أثناء ملابسات اللحظة نفسها، التي يكون حامد عثمان فيها قاب قوسين أو أدنى، من بلوغ ذروة قمة جبل اللذة، حيث تفاجئه مها الخاتم إذ ذاك، وهي تدفعه، على الصدر، بعيدا عنها، طاوية ساقيها، تماما باشمئزازِ مَن لمس بيده الخراء، وثمة بريق مخيف، أشبه في لمعانه الوامض ذاك بنذر مبكرة للجنون، أو بذلك العطش الذي لا يقاوم إلى إسالة الدماء الآدمية، لا يني يشع من داخل عينيها البنيتين الواسعتين، وهي تغادر الغرفة، الأرجح إلى الصّالة أو الحمّام، مثل عاصفة تصنع دوّامة وتصعد بها قليلا، من قبل أن تمرق هادرة، لا تلوي على أي شيء يعترض ولا تذر، على طول طريق جبليّة ضيّقة، حيث لا يتبقى بعد رحيلها الصاخب المدويّ، سوى صمت ما تخلف عنها من خراب وسكن. كان حامد عثمان يواصل الجلوس، وهو أسير وضاعته تلك، على حافة السرير، كعهده بها مغاضبة، محني الرأس، ساكن الأطراف، ويبدأ يراقب "موضوعه الخاصّ"، بفضول لا يقود إلى أي شيء، وهو يتراخى هناك، بين ساقيه، كأفعى صغيرة ميتة. وإذ ذاك، إذ ذاك فقط، يبدأ يواسي نفسه، بمقولات من شاكلة "لا كرامة في الحبّ"، ثم يحدث أن يدندن، لحظة أن يزيل بالذات بصاقها عن وجهه إذا ما كانت مها الخاتم قد تمادتْ وقتها في الغضب، وصوته شديد الخفوت لا يكاد يسمع، بجملة غنائية شعبية من مصر، تقول "يا شبشب الهنا.. يا ريتني كنت أنا"، أو الترنم أحيانا بأمثال ذلك المثل القائل "ضرب الحبيب أحلى من أكل الذبيب"، على الرغم من أنّ حامد عثمان اللعين هذا، كان يدرك جيدا في قرارة نفسه أن علاقة أراد لها هو بينه وبين نفسه أن تكون عابرة كتلك، لا يبدو الحبّ فيها إلا آخر ما يمكن أن يستدعى من سند لإسعافها، إلا أنّه لا بد في عرف حامد عثمان إذا ما ساءت الأمور من صناعة العزاء بأية مادة متاحة، "في التو والحين". ويظل حامد عثمان، على تلك الحال، من استدرار أوجه العزاء الزائف، إلى أن تعود مها الخاتم أخيرا، إلى الغرفة، بعد مرور وقت، قد يطول أو يقصر، وترفع كما درجت رأسه إليها، ببطء ويد مرتعشة وعينين مليئتين الأغلب بالدموع أو الندم، وقد هدأ كثيرا انفعالها ذاك. في أعقاب رحيل آخر بقايا مزن الصمت المعاتب، عن سماء عينيها، تبدأ تخاطبه، بالنبرة الواهنة المستنزفة والمعتادة، لا على مخاطبة الناس، بل على نجوى الذات الطويلة الممتدة للذات نفسها، قائلة: "هذا الإحساس، حبيبي، بسرقة الحبّ، يميتني. غدا، نذهب، أنا وأنت، إلى الشهر العقاري. أنا وأنت. نكتب عقد زواجنا. أنا وأنت. نقوم بتوثيق قسيمة زواجنا هناك. أنا وأنت. ثم تقوم أنت حبيبي بإضافة اسمي أنا إلى ملفك أنت في الأممالمتحدة. لا تخف، حبيبي. فأنا لست راغبة حبيبي في عرس مثالي. الحياة وأنت تعلم ذلك جيدا حبيبي لن تتوقف لفاقة أو فقر. أنا فقط حزينة وأنت حبيبي سيد العارفين. ثم لك حبيبي أن تتخيل حين نذهب معا، أنا وأنت، إلى اجتماع الخليّة نفسها هكذا، متماسكين متقاربين متحابين، في العلن". ويغلبها بعد حين البكاء. لم تكن مها الخاتم تذكر أبدا في الأثناء شاهدَ زواج واحد، أبا كان أو عمّا أو صديقا أو جارا أو خالا أو "رفيقا"، كما لم يشرئب قلبها أبدا لزغاريد أمّ أو لغناء أخت أو لرقصة خالة، أو كما لو أن العالم خارج ذاتيهما لا وجود له هناك. مرة، أخبرته أنها تعد احتفالا خاصّا ب "المناسبة". بدا صوتها على غير عادة تلك الأيام مطهما بالدلال. وسألته: "لا بد أن لديك حبيبي كذلك مفاجأة لي أنا مها الخاتم، حبيبتك الغالية، أي بهذه "المناسبة" ولا بد؟". قال: "نعم". بعد انتهاء المكالمة، شرع حامد عثمان يفكر في مغزى حديثها ذاك، محاولا جهده كله معرفة تلك المناسبة، من دون جدوى. كانت كلمة "لا" وقتها كفيلة وحدها بتبديل حال مزاجها من النقيض إلى النقيض. ونظر حامد عثمان إليها. بدا شعرها مصففا بعناية. كانت ترتدي فستان نوم أبيض. نهداها طليقان. فقدا شيئا من صلابتهما تلك. ولاح على وجهها أنها أنفقت أمام المرآة وقتا طويلا لإخفاء أي أثر قد يدل على وجود مثل تلك البثور التي عادت للظهور وأخذت تنتشر على صفحة وجهها في تلك الأيام مجددا وبكثرة. كانت تذوي ببطء. كما لو أن أكاذيب حامد عثمان اللعين لم تعد قادرة بعد على حمل ماء السراب إلى بستان روحها الآخذ في الجفاف منذ مدة. كان ثمة أضواء لهبية ناعمة صادرة عن شمعتين بيضاوين ظلتا تُضفيان على الصالة شيئا أقرب في سكينته إلى لمسة الأحلام الحانية. وثمة موسيقى خافتة ظلّت تبثها "إذاعة البرنامج الثاني من القاهرة" تصدر عن مكان ما أسفل نور الأباجورة الواقفة عند أحد الأركان الأرجح كشاهد قبر. وهناك، على المنضدة المغطاة بمفرش بني فاتح ذي حواف جانبية مخرمة في شكل دوائر صغيرة متلاصقة لاحت بين الشمعتين تورتة بيضاء بحجم صغير رُسم أعلاها وزيّن بطبقة رفيعة من شوكولاتة ذائبة قلبٌ مخترق بسهم الحبّ اللعين. ثمة كوبان مليئان تمشيّا مع روح "المناسبة" على ما بدا بعصير برتقال طازج. "لا يزال لها ذقن جميلة". فكر حامد عثمان في نفسه. ثم سألته مها الخاتم بغتة إن كان قد أدرك بعد أو عرف حقا ما "مناسبة" ذلك الاحتفال. كانت تشير بطريقة ملغزة إلى ذكرى أول ليلة حقيقية لهما قضياها معا داخل ذلك النادي اليوناني. "يشرفني كثيرا أن تكوني أمّا لأولادي". كانت ليلة متخمة بالوعود. وتلك ثلاث سنوات بالتمام، مرت. كلما حاول حامد عثمان تذكر تلك "المناسبة"، ومها الخاتم متحفّزة بكيانها كله وعيناها تلتمعان، كلما طالعته من كتاب الذاكرة المنهكة صفحة بيضاء كالعماء، إلى أن جاء ردّ فعلها ذاك فوريا ومباغتا، في تفجر حنقه وعنفه. لم يشعر حامد عثمان عندها سوى بقالب التورتة وهو يُلصق بوجهه وبكوبي عصير البرتقال وهما يفرغان على رأسه وبقبضة يديها وهما تتهاويان على أي جزء صادف من جسمه. أكثر ما كان يخشى حامد عثمان، من حدوثه، أن تندفع مها الخاتم نحو المطبخ، في لحظة تهور تام، ثم تعود بالاندفاعة نفسها، لمواصلة قتاله، وفي إحدى قبضتيها تلوح، تلك السكين الحادة المسنونة. بعد مرور دقائق، أمكنه أن يراها هناك، على الأرض، وهي تتلوى زاحفة، مثل مريض داهمته نوبة مغص كلويّ حاد. يداها مضمومتان بين فخذيها وفمها يُزبد. مضتْ تاليا فترة من صمت لا يعلم حامد عثمان مداها. عدا الخوف، لم يعد يشعر بأي شيء. أخيرا، تناهى صوتها: "انظر إلى هذا، حبيبي"، وسمع حامد عثمان صوت شنطة يد وهي تُفتح بين يديها. ثم أرته أسفل نور الصَّالة المضاء للتو خصلات شعر كثيرة ملتفة ومتداخلة وطويلة، قائلة: "لقد وجدتُها حبيبي على مخدتي هذا الصباح". فجأة، أخذ أذان صلاة العشاء يتناهى في آن واحد عبر أكثر من صوت ومن غير مكان محدد أو اتجاه. "للرب أعمال كثيرة تنتظره هناك". قال حامد عثمان في نفسه من دون أن يعلم لماذا تقال بالضبط أو على وجه التحديد تلك العبارة. من بين دموعها المتساقطة، على صخرة قلبه الصماء المعاندة الصلدة، دمعة فدمعة، قالت: "قريبا لن تكون على رأسي شعرة واحدة، يا حامد عثمان حامد". كيفية الهروب من كيان آدمي يوشك على السقوط. كان ذلك كل ما فكر فيه حامد عثمان ودار لحظتها بذهنه. [email protected]