بالرجوع إلى الإنسان الأول قبل أكثر من مئتي و نصف عام قبل الميلاد نجد أنه لم يكن يعرف اللغة و لا يتكلم. لكن بالتأكيد كان لذلك السلف البشري إحساس بذاته و انفعالاته النفسية و العاطفية الخاصة و له علائق أجتماعية بدائية في شكل مجموعات بشرية. أيضا كان يتفاعل مع البيئة المحيطة من حوله من أجل البقاء بصنع الأدوات الحجرية لأغراض الصيد و أكل الثمار و غيرها. يمكن ان نزعم أنه كانت له زاكرة و نمط تفكير بدايء أقرب للحالة البهيمية. اذا كان ذلك الإنسان الأول يعمل فقط و لا يتكلم او يصدر فقط أصوات حيوانية. في تلك المرحلة الأولية التاريخية من تطور المجتمعات البشرية نستطيع أن نزعم أيضا أنه كانت لذلك الكائن البشري الأول هوية في غياب وجود اللغة. هذا ينسف الادعاء الأيدولوجي الموظف القائل بأن اللغة عامل حاسم و أساسي في تشكيل الهوية بمعزل عن العوامل الاخري مثل الطبيعة و غيرها. بجدل الإنسان المادي مع الطبيعة تمت عملية تطور اللغة البدائية الأولي و جري ربط الدلالات اللغوية بمدلولات طبيعية كان الإنسان في السابق يتعامل معها دون الحوجة لإعطائها اسماء أو دلالات. وجود اللغة كوسيط دماغي مكن الإنسان من عملية التفكير المنطقي المتواصل لأول مرة لأن تلك العملية العقلية تستحيل بدون وجود اللغة. لكن مع تراكم و تطور مفردات اللغة كان الانسان يراكم في نفسه أو في حالته الشعورية في الإتجاه الموازي للغة دلالات و معاني لتلك المفردات تتأثر بطريقة تركيب اللغة و نمطها. لذلك يجب التفريق بين الأثر النفسي لنمط اللغة و طريقة تركيبها و بين اللغة نفسها كعامل ثقافي و أداة للتواصل. هذا الأثر النفسي للتركيب النمطي و التنظيمي للغة لا يمكن اعتباره محددا أساسيا للهوية اذا أخذنا في الاعتبار أن الانسان يمكن أن يتعلم اكثر من لغة تجعله عرضة في وقت واحد لأنماط تركيبية لغوية متعددة. بل أن اللغة الواحدة لها لهجات و دوال مختلفة مما يجعل لها أنماط تركيبية متعددة تنتج عنها حالات نفسية و مزاجية متباينة. حتي المدلولات تتباين و تختلف داخل اللغة الواحدة بناءًا علي اختلاف الطبيعة و الأمكنة الجغرافية. من هنا يمكن أن نستنتج أن الطبيعة و الجغرافيا هي العامل الحاسم ليس في تشكيل الهوية للأفراد فحسب و إنما يتعدي أثرها ذلك ليمتد إليّ اللغة نفسها ليؤدي الي تشعب اللغة الواحدة الي لهجات و انقسامها لاحقا الي لغات جديدة. بما ان الجغرافيا و الطبيعة تتحكم بهوية الأفراد فهي بالتالي تحدد هوية المجتمعات و تؤثر حتي في التغييرات و الطفرات الجينية التي تحدث للأفراد و تؤدي الي عملية التباين العرقي من أجل الملائمة و التأقلم. اذا ما قمنا بتتبع أثر و جزور اللغات الحالية سنجد انها كلها يمكن ربطها بلغة بدائية واحدة تشعبت لاحقا نتيجة للهجرات البشرية و تباعد المسافات و تباين الجغرافيا. ثم جاء العصر الأوسطي و الحديث لتطغي لغات علي أخري نتيجة للعوامل الاقتصادية و السياسية و سهولة حركة البشر و شُح الموارد فكان نتاج هذا أن تندثر كثير من اللغات المحلية الغير محمية بالقوة. عملية الاندثار اللغوي هذه مستمرة الآن و لن تتوقف حتي تندمج جميع اللغات العالمية الأساسية الستة في لغة كونية واحدة و هذا ما سيحدث بالفعل. بل سيصل الإنسان في المستقبل الي مرحلة الاستغناء الكامل عن اللغة و الكلام اذا تمكن من تطوير مقدراته العقلية بالتعامل مع المدلولات مباشرة. د. مقبول التجاني