فتأثير الأزمة الخليجية على السودان أكبر من تأثيرها على دول الخليج أنفسها فتلك الدول لها ثقلها الاقتصادي والسياسي ما تتجاوز بهما الأزمة وإن طالت بعكس السودان الذي تعوَّد على ما تجود بها تلك الدول لتسيير دفة السلطة وممارسة القهر للشارع السوداني... الرئيس البشير وبيده كل السلطات فشل تماما لمحاربة الفساد طيلة سنوات حكمه ولم يسعى لها أصلا وكان في إمكانه قطع دابر الفساد إن أراد ذلك ولن يستطيع فيما بقي من حكمه حتى ولو سعى لها سعيا حثيثا لان بطانته قد أحكمت قبضتها بكل تصرفاته فوجد نفسه يدور في فلك الفساد مثلهم وربما جرّوه اليه جراً في فترة ما من حكمه ولكن أصبح من الصعب الفكاك منه الآن وحتى مدير مكتبه أشك في أنه من اتخذ قرار إعفائه من تلقاء نفسه إلا أنه أُرغم اليه إرغاماً من بعض المحيطين به وكان عليه أن يوقع فقط ففعل ذلك. فالنائب الأول للرئيس الفريق بكري حسن صالح مع أنه ضمن الدائرة الضيقة التي تحيط برئاسة الجمهورية إلا أنه لم تحُم حوله الشبهات مثل غيره من رجال حول الرئيس فقد نأى بنفسه عن مواطن الشبهات لذا فهو مرشح إن أتيحت له الفرصة يوما ما للمساهمة في محو آثار الفساد الذي أصبح يستنشقه الناس كالأكسجين في كل مكان... والرئيس اليوم في وضع صعب داخليا وخارجيا وتسارع الأحداث أفقده القدرة على تحليل ما يجري بشكل صحيح ومحايد.. فمنذ إعلانه باتهام مصر في الضلوع مع حركة العدل والمساواة ثم المسارعة في محاولة منه لكسب ودها بإرسال وزير خارجيته الى مصر مصحوباً بالاعتذار على ما بدر منه في أقل من أسبوع وقبل تحليل ما جرى بنوع من التأني والهدوء، ثم انخراط مصر بكل ثقلها بجانب المملكة العربية السعودية والأمارات والبحرين في مقاطعتها لقطر وتقاربها الأخير مع دولة جنوب السودان في محاولة منها لخنق وحصار السودان، وإذا أضفنا اليها جمعياً إعفاء (الفريق) طه الحسين وتركه دون جرد حساب مع ما تحوم حوله من قرائن الفساد ثم اللامبالاة الحكومية الواضحة تجاه مرض الكوليرا المتفشي في كل بقاع السودان الذي يفتك بالناس والخريف على الأبواب بكل تداعياته السلبية المعروفة، فسوف نرى الرئيس البشير الآن محاصر من كل الجهات ويبحث عن طوق نجاة... من ينظر للخارج فلا يرى بصيص أمل إلا وأفق الخليج قد تلبد بالغيوم وليس الداخل بأفضل منه حالا فقد تغير الوضع عن السابق فليس سودان اليوم كسودان الأمس الذي تدغدغه الخطب والكلام المعسول المصحوب بالشعارات التي ستجعل من السودان جنة الله في الأرض... تستطيع أن تخدع الناس لبعض الوقت ولكن هل بالامكان خداعهم لكل الوقت... فعالم اليوم تحكمه المصالح على غرار (عندي مصلحة معاك فأنت حبيبي ما عنديش ما تلزمنيش)... فربما رفع العقوبة الأمريكية عن السودان (إن تم ذلك) والسعي الدؤوب، الى لملمة أطراف البيت الخليجي، الذي يجري على قدم وساق من جهات ذات نفوذ، لو أثمر قد يخفف بعضا من العبء المتزايد على النظام ليسارع في محاولة منه لتشكيل المشهد السياسي السوداني الذي بدأ عقده ينفرط ويتداعى في الآونة الأخيرة، ففي اعتقاد النظام الداخل مقدور عليه لأنه يعلم عدم قدرة المعارضة في إحداث تأثير يُذكر بالشارع السوداني ولمقدرته في شراء بعض الذمم ليدور في فلك النظام... فالمهم عنده الآن (أزمة الخليج)، فكلما طال أمد الأزمة لن يكون في صالحه لأن مصر دخلت طرفا في هذه الأزمة وفي ظنها إخراج السودان من المشهد الخليجي خاصة بعد التقارب السوداني الأخير تجاه تلك الدول ومن ثم عزله تماماً، فمحاولة مصر لعزل السودان قديمة وهي أهم من مقاطعة قطر بالنسبة لها وخاصة أنها ترى الأمور مواتية لها الآن أكثر من أي وقت مضى، فمصر تلعب لعبة مزدوجة تجاه السودان وإن كان السودان ليس بمقدوره الآن أن يعي ما يُحاك ضده سرا وعلانية أو قد يراه ولكنه يغض الطرف عنه لأن ما يهم النظام البقاء في السلطة أطول فترة ممكنة وليس مصلحة السودان وشعبه... فمصر دولة انتهازية بامتياز، فأي نقاط ضعف للسودان هي مكامن القوة عندها لذا لا تتهاون في الاستفادة من مثل هذه الثغرات وما أكثرها في عهد الانقاذ!!! فمن سوءات هذا النظام أنه يراهن دائما بكل ما يملك ويضعه في سلة الخارج دون ان يترك شيئا للداخل السوداني... إنه ينتظر الآن وبفارغ الصبر لرفع العقوبات الأمريكية عنه فكأن رفع العقوبات سينقذ اقتصاده المنهار، فلو ضخت أمريكا ودول الخليج بكل ملياراتها من الدولارات ودون مقابل فلن ينصلح حال السودان لأن هنالك (الكثير) من أمثال طه الحسين بالداخل من يمسكون بزمام الأمور... فالعيب ليس في شح السيولة الأجنبية في السودان ولكن في العقلية التي تدير تلك السيولة... عقلية انهزامية انتهازيه تعودت أن تستهلك دون النظر فيما تنتج... تعودت أن تعيش على أموال الزكاة مع التفنن في أساليب الجبايات من كل نوع، ولا بأس في مد يدها للهبات والعطايا التي تغدق عليها دول الخليج بين فترة وأخرى وأين تذهب تلك الهبات الله أعلم وقلة من الناس ... فالنظام السوداني ينتظر الآن لمألات ما ستتمخض عنها الأزمة الخليجية من حلول ليتحسس موضع خطوته القادمة وهذا من سلبيات عدم الاعتماد على الذات فلو أن النظام بنى لنفسه ولا أقول لشعبه اقتصادا متوازنا منذ قدومه للسلطة لما كان حاله مثلما نراها اليوم و لا كان حاضرا لموائد السلاطين يقتات من فتاته....فماذا يُنتظر من نظام حكامه أمثال طه الحسين وتعوّد أن يحكم بطريقة عشوائية دون برامج سنوية يسير عليها.... حمدي حاج هلالي