يبدو أن إقليم دارفور المضطرب هو المكان الوحيد في العالم الذي تكون جهود السلام فيه سبباً مباشراً في اشتعال النزاع. ففي الأسبوع الماضي تسببت زيارة وفد الوساطة من الدوحة في اندلاع أحداث عنف في جامعة زالنجي وفي مدينة نيالا، قتل فيها شخصان على الأقل وجرح آخرون. وكانت اجتماعات وفد الوساطة الدولية برئاسة وزير الدولة للخارجية القطرية احمد بن عبد الله آل محمود وكبير مفاوضي الاممالمتحدة والاتحاد الافريقي لدارفور جبريل باسولي، قد تعرضت للاقتحام من قبل مجموعة من المواطنين احتجاجاً على عدم اختيارها للمشاركة في المشاورات التي جاء الوفد لإجرائها مع ممثلي أهل دارفور. وفي الصيف الماضي شهدت معسكرات النازحين في جنوب دارفور ومنطقة زالنجي صدامات على خلفية مشاركة بعض ممثلي منظمات المجتمع المدني الدارفورية في مشاورات جرت في الدوحة في إطار مفاوضات السلام. وقد قتل حوالي ستة ممن شاركوا في تلك المشاورات في معسكر 'كلمة' كما قتل عدد آخر في معسكر قرب مدينة زالنجي في غرب دارفور. وقد تردد حينها أن جماعات موالية لزعيم حركة تحرير السودان عبدالواحد محمد نور 'أعدمت' الضحايا بسبب اعتراض الحركة على المشاركة في المفاوضات أصلاً. وقد جلب هذا ردة فعل عنيفة في زالنجي، حيث قامت إحدى المجموعات التي استهدفت بهجوم مضاد قتل فيه كذلك بضعة أشخاص. وأدى هذا بدوره إلى تفجير أزمة بين الحكومة وقوات اليوناميد بسبب خلاف حول تسليم مجموعة من المتهمين في هذه الأحداث لجأوا إلى قوات اليوناميد، وأيضاً بسبب إعلان الحكومة عزمها على تفكيك المعسكرات المعنية بحجة أنها أصبحت مواقع أمامية لبعض حركات التمرد. الشاهد هنا هو أن عمليات السلام نفسها أصبحت موضع نزاع جديد، وهي ظاهرةأخذت في التشكل منذ اتفاقية أبوجا التي وقعت عام 2006 مع حركة تحرير السودان جناح مني مناوي، ورفضتها الحركات الأخرى. وكانت النتيجة سلاماً جزئياً بين حركة مناوي، وحروب كثيرة بين هذه الحركة وقوى أخرى في دارفور. وقد أشارت إحصائية نشرتها اليوناميد العام الماضي إلى أن الحركة كانت مسؤولة عن أكثر من ثلث عمليات العنف التي وقعت في الإقليم خلال فترة العام ونصف العام السابقة على إعداد الإحصائية. وبنفس القدر فإن المجموعات الأصغر التي وقعت اتفاقيات مع الحكومة دخلت في صراعات مع قوى أخرى. والمعروف أن حركة مناوي قد عادت عملياً منذ الأسبوع الماضي إلى المربع الأول بعد عزل مناوي من منصب رئاسة السلطة الانتقالية في دارفور وإعلان قواته هدفاً مشروعاً للقوات المسلحة. ولكن المشكلة تعمقت في الآونة الأخيرة بعد الخلاف حول مسار الدوحة التفاوضي، وهو مسار كان قد انطلق في عام 2008 بمشاركة منفردة من حركة العدل والمساواة ومقاطعة من بقية الحركات. إلا أن تطورات متلاحقة على مدى العامين الماضيين أدت إلى خروج حركة العدل والمساواة من العملية التفاوضية وتم في أثناء ذلك إنشاء حركة التحرير والعدالة كتحالف من فصائل انشقت عن حركات أخرى، واختيار د. التجاني السيسي حاكم دارفور الأسبق لقيادتها، ثم اعتمادها المفاوض الرئيس عن دارفور في الدوحة. وكانت النظرية هي ضرورة تمثيل اثنية الفور في المفاوضات مع مقاطعة حركة عبدالواحد لها. هذا الوضع نتجت عنه إشكالات عدة، بدأت من الاتهامات بأن حركة التحرير والعدالة حركة مصطنعة اختلقتها جهات دولية، ولا وجود لها على الأرض في دارفور، مروراً بمقاطعة بقية الحركات لمسار الدوحة. إضافة إلى ذلك فإن هناك قناعة لدى كثير من الأوساط الدولية بأنه حتى لو استمرت مشاركة حركة العدل والمساواة في المنبر فإن النتيجة ستكون سلاماً جزئياً يكرر إشكالية أبوجا بسبب مقاطعة حركات أخرى. وقد دفعت هذه القناعة بعض الجهات، ومنها لجنة الحكماء بقيادة تابو أمبيكي إلى أن تدعو إلى عملية حوار شامل تشارك فيه كل أطياف الرأي في دارفور، بما فيها الحركات المسلحة. هذا المقترح يواجه بدوره نفس إشكالات مسارات التفاوض الأخرى، لأن نجاحه يعتمد على مشاركة الجميع، وهي مسألة تتطلب الكثير من الجهد وقوة الإقناع. وقد كشفت أحداث معسكرات كلمة وزالنجي وصدامات الأسبوع الماضي أن الأطراف التي ترفض المشاركة في مثل هذه المشاوارت أو تشعر بأنها عزلت عنها لن تكتفي بالمقاطعة، وإنما ستسعى إلى تعويق العملية بالعنف إن استدعى الأمر. إضافة إلى ذلك فإن محور التفاوض لا يقتصر على القضايا المطروحة، وإنما على المصالح السياسية للجهات المتفاوضة. فلا يبدو أن وثيقة الاتفاق التي أوشك المفاوضون على إكمالها في الدوحة لن تخرج كثيراً عن موجهات اتفاق أبوجا في قسمة الثروة والسلطة (وهي موجهات وردت بدورها في اتفاقيات نيفاشا ومن ثم في الدستور الانتقالي) ولكن النقطة المحورية تبقى من هي الجهة التي ستتولى السلطات وتتسلم الموارد نيابة عن أهل دارفور. هذا هو بيت القصيد. وليست المسألة كما يطرحها البعض هي مجرد أن الحركات وقياداتها تتكالب على المناصب ولا يهمها شأن أهل دارفور ومعاناتهم، فهذا مجرد تبسيط. ذلك أن كل القوى السياسية تتصارع على السلطة ومكاسبها، ليس فقط للعامل الشخصي، وهو جانب لا يمكن إنكاره، وإنما لأنها ترى أنها الأحق بتنفيذ البرنامج الذي تطرحه، ولا تثق في أن يتولاه غيرها. وعليه فإن المشاركة في السلطة تخرج من المجال النظري في الحديث عن عدالتها إلى المجال العملي في تحديد طريقة اقتسامها ومن ينال منها أي نصيب. وهذا أمر يجري التفاوض عليه في مفاوضات السلام بين الأطراف المتحاربة كما يتم التوافق عليه في الديمقراطيات إذا لم تحسمها نتائج التصويت. الإشكالية في دارفور هي أن مثل هذا التوافق يواجه صعوبات جمة، ليس فقط بسبب تشرذم الحركات، وإنما بسبب طبيعة النزاع في دارفور، وهو نزاع له أكثر من جانب: نزاع بين الحكومة والحركات المسلحة، ونزاع بين الحركات المسلحة والميليشيات الموالية للحكومة، ونزاع بين الجهات العرقية التي تدعي الحركات المسلحة تمثيلها (وتحديدا ما يسمى بالقبائل الافريقية) وبين بعض المجموعات العربية التي تتصارع مع هذه الجهات على الموارد. وهناك رأي بين قطاعات أهل دارفور بأن هذه النزاعات مصطنعة، وأن الحكومة وجهات أخرى تؤججها لغاياتها الخاصة. ولكن الثابت أنه حتى يتم التغلب على هذه الانقسامات فإن أي حلول تطرح ستخلق إشكالات جديدة. فعلى سبيل المثال لو أنه تم التوافق على وحدة إقليم دارفور وعلى منصب رئاسي يمنح للإقليم، فإن التوافق على مثل هذه القرارات وعلى من يحتل هذه المناصب سيواجه صعوبات ولن يحسم النزاع، بل قد يؤجحه من أبواب جديدة. وهذا يطرح سؤال ما إذا كانت الأولوية يجب أن تكون لتسوية نزاعات دارفور الداخلية قبل تسوية أمر علاقتها بالمركز، أم أن العكس هو الصحيح. اتفاقية أبوجا فضلت الخيار التالي، حيث أعطت الأولوية للاتفاق بين الحكومة والحركات المسلحة، بينما نصت على قيام ما سمي بالمؤتمر الدارفوري-الدارفوري لاحقاً ليناقش ويحسم الخلافات بين أهل دارفور. ولكن هذا المؤتمر لم ينعقد حتى اليوم رغم أن اليوناميد أنشأت إدارة متخصصة للإشراف على عقده، وذلك بسبب عقبات كثيرة حالت دون إتمام ذلك. من هذه العراقيل أن تطبيق اتفاقية أبوجا نفسها تعثرت بسبب إحجام الحركات الرئيسية عن الانضمام إليها، وهذا بدوره أثر على الأوضاع الأمنية المواتية. سياسياً فإنه لا الحكومة ولا الحركات كانت متحمسة لعقد مؤتمر قد يخلق واقعاً جديداً على الأرض، وتنتج عنه مؤسسات وتيارات سياسية مستقلة. ولعل من الحكمة أن يتم خلق آلية لمعالجة نزاعات أهل دارفور بالتوازي مع العملية السلمية التي تحتاج بدورها إلى إعادة نظر. وكانت حركة العدل والمساواة قد طرحت في لقاءاتها مع فريق الوساطة في الدوحة خلال الأسابيع الماضية مقترحات لإصلاح منبر الدوحة، تضمنت ضرورة توحيد المسار التفاوضي والإمساك عن إجراء مفاوضات بالتوازي والتحديد الدقيق للجهات التي يجب أن تشرك، مع استبعاد ممثلي المجتمع المدني عن المفاوضات المباشرة، وإعداد خارطة طريق واضحة للمفاوضات وتحديد آليات تنفيذ لما يتفق عليه، مع ضمان حياد منبر التفاوض وتزويد الوسطاء بخبراء مقتدرين، وضمان حرية التنقل لوفود التفاوض. الإشكال في هذا المقام هو أن كلاً من الحكومة والوسطاء قد عقد العزم على إنهاء العملية التفاوضية قبل نهاية هذا العام. ويعود هذا من جهة لانتهاء فترة عمل كبير المفاوضين جبريل باسولي، وحرص الحكومة على حسم قضية دارفور قبل استفتاء تقرير المصير في الجنوب استعداداً لما سيأتي بعد ذلك. وعليه فليس هناك وقت لتطبيق مثل هذ المقترحات أو غيرها. هناك إضافة إلى ذلك عامل تعقيد أساسي، وهو أن قضية دارفور قد تم تدويلها بالفعل بحيث أصبحت دارفور اليوم عملياً تحت الوصاية الدولية، سواء كان ذلك عبر الحضور المكثف للقوات الدولية والمنظمات الطوعية الأجنبية، وإشراف مجلس الأمن الفعلي على الاوضاع هناك، أو الانشغال الرسمي الدولي (لا تكاد توجد دولة كبرى لا يوجد لها مبعوث لدارفور) أو غير الرسمي عبر المنظمات غير الحكومية والإعلام. هذا الوضع من جهة يجعل الحكومة مضطرة للتفاوض مع الحركات المسلحة بغض النظر عن وزنها السياسي والعسكري، ويعوض هذه الحركات عن ضعفها الميداني. ولكنه من جهة أخرى يعطي القوى الدولية الكلمة الأخيرة في حسم الأمور. وقد تجلى هذا في المرحلة الأخيرة من مفاوضات الدوحة التي كانت عملياً مفاوضات بين الحكومة والأمم المتحدة التي أعدت وثائق التفاوض عبر خبرائها. في نفس الوقت فإن القوى الدولية، رغم دعمها العلني لمسار الدوحة، قد وصلت إلى قناعة بأن السلام في دارفور لن يتحقق على المدى القريب. وقد توصلت إلى هذه القناعة بعد فشل الجهود المضنية التي بذلتها الولاياتالمتحدة وقوى إقليمية من أجل توحيد الفصائل. وعليه فقد اتجهت تلك القوى للضغط على الحكومة لاتخاذ خطوات أحادية لإعادة الأمن للإقليم وإصلاح النظام العدلي هناك، وهي ضغوط استجابت لها الحكومة جزئياً بإعلان استراتيجيتها الأخيرة التي تضمنت، إضافة الى استمرار عملية التفاوض، اتخاذ خطوات لضبط الميليشيات وإنشاء وحدات شرطة خاصة ذات طابع محلي وبذل جهود لبناء الثقة بين المواطنين وقوى حفظ الأمن والتعامل بحزم مع أي خروقات أمنية. وقد نشأ في هذه الفترة إشكال آخر يتمثل في الانشغال بتطوارت الأوضاع في الجنوب والاستفتاء القادم، والانفصال شبه المؤكد الذي قد ينتج عنه. وبالنسبة لكل المراقبين الدوليين فإن الأولوية هي الآن لمعالجة ذيول الانفصال وتجنب تفجر النزاع مجدداً بين الشمال والجنوب. وقد تعزز هذا التوجه مع فقدان الأمل في تحقيق تقدم ذي بال على صعيد العملية السياسية في دارفور بسبب ضعف وتشرذم الحركات وعدم التوافق بين أهل دارفور على الحلول. من هنا فإن القوى الدولية تعول الآن على العمل الأحادي من قبل الحكومة لبسط الأمن أكثر مما تعول على اختراق يحقق السلام. الجهة الوحيدة التي لا تزال تحتفظ بقدر معقول من التفاؤل هي لجنة الحكماء، ولكن اللجنة مكلفة بدورها بملف الجنوب، وقد كرست له القدر الأكبر من وقتها وجهدها في الأسابيع الماضية، وهذا حتى قبل تكليف الرئيس تابو مبيكي هذا الأسبوع بالوساطة في ساحل العاج. وإذا كان لهذا التطور الأخير أهمية فهو تذكير لأهل السودان عموماً وأهل دارفور خصوصاً بالتحرك للإمساك بزمام المبادرة في معالجة أزمات البلاد، وعدم الاتكال على القوى الخارجية. فالعالم مليء بالأزمات، ولا يمكن أن نتوقع من الآخرين أن يتركوا مشاغلهم الملحة ويكرسوا كل وقتهم وجهدهم لمعالجة المشاكل التي خلقناها بأيدينا. ' كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن القدس العربي