البرهان يصدر قراراً بتعيين مساعد أول للنائب العام لجمهورية السودان    حسين خوجلي يكتب: السفاح حميدتي يدشن رسالة الدكتوراة بمذبحة مسجد الفاشر    قرار مثير في السودان    وزير الزراعة والري في ختام زيارته للجزيرة: تعافي الجزيرة دحض لدعاوى المجاعة بالسودان    راشفورد يهدي الفوز لبرشلونة    ((سانت لوبوبو وذكريات التمهيدي يامريخاب))    بدء حملة إعادة تهيئة قصر الشباب والأطفال بأم درمان    دوري أبطال أفريقيا 2025/26 ينطلق رسميًا بمشاركة قياسية للأندية    نوارة أبو محمد تقف على الأوضاع الأمنية بولاية سنار وتزور جامعة سنار    إبراهيم جابر يطمئن على موقف الإمداد الدوائى بالبلاد    قبائل وأحزاب سياسية خسرت بإتباع مشروع آل دقلو    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    ما حقيقة وصول الميليشيا محيط القيادة العامة بالفاشر؟..مصدر عسكري يوضّح    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    الخارجية: رئيس الوزراء يعود للبلاد بعد تجاوز وعكة صحية خلال زيارته للسعودية    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. تيكتوكر سودانية تخرج وترد على سخرية بعض الفتيات: (أنا ما بتاجر بأعضائي عشان أكل وأشرب وتستاهلن الشتات عبرة وعظة)    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حصلت على أموال طائلة من النقطة.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني و"صراف آلي" من المال تحتها على الأرض وساخرون: (مغارز لطليقها)    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    أول دولة تهدد بالانسحاب من كأس العالم 2026 في حال مشاركة إسرائيل    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل خاص حضره جمهور غفير من الشباب.. فتاة سودانية تدخل في وصلة رقص مثيرة بمؤخرتها وتغمر الفنانة بأموال النقطة وساخرون: (شكلها مشت للدكتور المصري)    محمد صلاح يكتب التاريخ ب"6 دقائق" ويسجل سابقة لفرق إنجلترا    السعودية وباكستان توقعان اتفاقية دفاع مشترك    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    غادر المستشفى بعد أن تعافي رئيس الوزراء من وعكة صحية في الرياض    تحالف خطير.. كييف تُسَلِّح الدعم السريع وتسير نحو الاعتراف بتأسيس!    دوري الأبطال.. مبابي يقود ريال مدريد لفوز صعب على مارسيليا    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    شاهد بالصور.. زواج فتاة "سودانية" من شاب "بنغالي" يشعل مواقع التواصل وإحدى المتابعات تكشف تفاصيل هامة عن العريس: (اخصائي مهن طبية ويملك جنسية إحدى الدول الأوروبية والعروس سليلة أعرق الأسر)    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نُقُد أوّل من أخبرني بأن الترابي "مع الحكومة ومسجون معانا" و "الميرغني لا يحتمل أن يؤذي نملة"
نشر في الراكوبة يوم 18 - 09 - 2013

نائب مدير كوبر قال للمعتقلين: (لو عملتوا ده برّه ما كان جيتوا هنا)
بهاء الدين محمد ادريس كان رجلاً صبوراً وصاحب صفات نادرة
لهذا السبب ضحك (خالد الكِد) على المعتقلين عند ترحيلهم ل "شالا"
سجّل شهادته: جمال إدريس
فتح المدير الأسبق لسجن كوبر (اللواء م الكامل محمد سليمان) حقيبة ذكرياته المليئة بالأسرار والحكاوي، وسرد ل (القرار) قصصاً وتفاصيل تُحكى لأول مرة، عن حقبة زمنة مهمة في تاريخنا الحديث. فالرجل تقلّد منصباً حساساً وخطيراً، ألا وهو الوقوف على رأس قيادة ذلك السجن العتيق كوبر الذي ظل لسنوات عديدة، يفتح ذراعية ويرحّب بالمئات من قطاعات الشعب المختلفة فور وقوع أي تغيير في أنظمة الحكم، قبل أن يعود ويُفرِغ كل من بداخله ويستعد لاستقبال آخرين، حسب ما تمليه عليه "مؤشّرات" تغيير الأنظمة التي لا تتوقف..
اللواء الكامل كان شاهد عصر على واحدة من أكبر التحولات السياسية في بلادنا، فقد تسنّم قيادة كوبر مع نهاية حكومة شعبية لم تعمّر طويلاً، وانتقال مقاليد الحكم إلى حكومة عسكرية، حكمت البلاد في أيامها الأولى بيد من حديد، وكان طبيعياً أن يظهر أثر ذلك أكثر ما يظهر في سجن كوبر، المكان الطبيعي لإحتواء المعارضين السياسيين.. نفض اللواء غبار السنين عن ذاكرته واسترجع تفاصيل دقيقة عن تلك الفترة التي شهدت اعتقال قادة حكومة ابريل. وتنوّعت شهادته ما بين الوقائع التاريخية والسياسية، والمواقف الانسانية، مع تصوير شكل العلائق بين المعتقلين السياسيين داخل المعتقل، بالرغم من اختلافاتهم السياسية الكبيرة..
مع اللواء الكامل نفتح أبواب "السجن الكبير" ونستمتع بسرد التفاصيل..
سجل شهادته: جمال ادريس
# بدايةً، صِف لنا الجو السياسي العام، عند تقلدك منصب مدير سجن كوبر في أيام الانقاذ الأولى؟
## أحب أن أوضّح بدايةً أنني وعند قيام الانقاذ كنت أعمل مديراً للسجون بالاقليم الشمالي، وتحديداً كنت في مدينة الدامر. وتصادف أن جئت للخرطوم بغرض تقديم طلب اعفاء من العمل لظروف خاصة، وعند وصولي للرئاسة سمعت بخبر سقوط الحكومة ومجيئ الانقاذ. وذهبت فوراً إلى سجن كوبر بإعتباره أقرب وحدة ووجدت هناك مجموعة من الزملاء، وتقدّمت بطلب اعفائي وعُدّت للدامر. بعد ذلك تمت احالة الدفعة السابقة لنا للمعاش، وجاءت دفعتنا وكنا (6) أشخاص، وتسلمنا مصلحة السجون، ونسبةً للظرف الحساس آنذاك ولأهمية سجن كوبر، رأت القيادة تكليف أحدنا لمهمة ادراة سجن كوبر، وتم اختياري لتك المهمة، وأصبحت مديراً لسجن كوبر في أغسطس 1989.
# من هم أشهر المعتقلين السياسيين الذين وجدتهم بالسجن؟
## في ذلك الوقت جاءت إلى سجن كوبر مجموعة كبيرة من كبار القادة السياسيين والنقابيين، في مقدمتهم مولانا محمد عثمان الميرغني، حسن الترابي، الصادق المهدي، محمد ابراهيم نقد، التجاني الطيب، سيد أحمد الحسين، عمر نور الدائم، أحمد عبد الرحمن محمد، ابراهيم السنوسي، الصادق شامي المحامي، المهندس عوض الكريم محمد أحمد نقيب المهندسين، وغيرهم من السياسيين والنقابيين.
# هل تذكر أول كلمات قلتها لهؤلاء المعتقلين عندما قابلتهم لأول مرة؟
## نعم أتذكرها جيداً، فحسب العرف المتبع داخل السجن، لا بُد للمدير الجديد أن يمر على كافة النزلاء المساجين، سواء أكانوا سياسيين أم سجناء عاديين، وذلك لتفقد أحوالهم والوقوف على اوضاعهم. وعندما وصلت للمعتقلين السياسيين قلت لهم ما معناه: "نحن لسنا السلطة التي اعتقلتكم، ولا السلطة التي ستقرّر الافراج عنكم. لكن أنتم ضيوفٌ لدينا، ومهمتنا أن تقضوا هذه الفترة معنا وأنتم مرتاحون، ونحن كذلك. وهذا لا يتم إلا بالتعاون فيما بيننا".
# وكيف تقبّل المعتقلون هذا الحديث؟
## تقبلوه بروح طيبة وارتياح.. وفي هذه النقطة تحديداً لا زلت أذكر موقفاً معيناً للمعتقل أحمد عبد الرحمن محمد، فأثناء حديثي معهم كان في عيادة السجن ولم يحضر الحديث، وعندما أخبره زملاؤه بما قلت، جاء إلي في مكتبي وشكرني على ما قلت، وقال إنه حديث طيب ووجد صدىً لدى كل المعتقلين.. وأقول إن الاستاذ أحمد عبد الرحمن كان رجلاً رقيقاً ومهذّباً للغاية، وكانت هناك علاقة حميمة وخاصة جداً بينه والمرحوم عمر نور الدائم، وعندما تم نقلهم وثالثهم ابراهيم السنوسي إلى سجن مدني، أرسل لي خطاباً مع القوة التي أوصلتهم إلى هناك، يشكر فيه حسن المعاملة التي وجدوها بسجن كوبر..
# ولماذا تم ترحيلهم إلى مدني آنذاك؟
## في ظني أن الغرض من وراء ذلك كان محاولات البحث عن مصالحات بين القوى السياسية.. وفي هذا الاطار أتذكّر أن هناك ثلاثة شخصيات عامة كانت تتردد على زيارة المعتقلين السياسيين باستمرار، بالرغم من قرار منع الزيارة نهائياً، ولكن بتعليمات من وزير الداخلية كان يُسمح لهؤلاء بالزيارة. وأذكر تماماً أن الثلاثة هم، د. حسين ابو صالح، الشاعر الحسين الحسن، وشخص يدعي محمد الحسن. وفي يوم ذهبت لوزير الداخلية وسألته عن هذه الزيارات وهل هي مُصرّحٌ بها، لأن قوانين السجن ليست بها سياسة؟ قال لي الوزير: "إنت رايك شنو؟". قلت له: إذا كان هذا الموضوع يحقن الدماء، ويصل إلى نتائج سلمية، يكون هذا جيّداً. فقال لي: "استمر فيهو".
# هل كان لديكم عِلمٌ بأن الترابي جاء إلى كوبر حبيساً وفق اتفاق مع النظام، وأنه كان أحد مهندسيه؟
## في الحقيقة كان هناك شكٌ وسط الجميع داخل السجن؛ هل هناك انشقاق أتى به إلى السجن، أم أن الأمر مقصود من قِبَل النظام؟ وعموماً كان تعاملنا معه كمعتقل مثله ومثل بقية المعتقلين، ولم تكن هناك أي توجيهات بمعاملته معاملة خاصة أو مختلفة عن الآخرين.
# ومتى عرفت ذلك تحديداً؟
أذكر أن محمد ابراهيم نُقد قال لي مرة: "الترابي مع ناس الحكومة ومحبوس معانا".
# وكيف كانت طبيعة التعامل بين المعتقلين فيما بينهم، و كل منهم ينتمي إلى حزب سياسي مختلف؟
## كانت العلاقة بين جميع السياسيين داخل المعتقل علاقة حميمة وأخوية للغاية، بعكس ما كان بينهم من خلافات خارج اطار السجن. وأذكر أننا دخلنا عليهم مرة وكان معي الأخ موسى أحمد الماحي المدير بالإنابة، فوجدناهم يتسامرون ويضحكون معاً، فعلّق موسى بالقول: "ده لو عملتوه برّه ما كان جيتوا هنا".
# هل كانت هناك علاقات بين شخصيات بعينها أكثر من الآخرين؟
# كانت هناك علاقات مميزة بين الكثيرن، مثلاً كانت هناك علاقة حميمة وخاصة بين مولانا محمد عثمان والأمير نقد الله، وبين أحمد عبد الرحمن وعمر نور الدائم، وحتى بين الترابي ونُقد.. وأذكر هنا عن مولانا الميرغني أن الجميع في بداية الأمر كانوا يعتقدون أنه شخصية غامضة، يصعب التعامل معها، ولكن بعد ذلك اكتشفوا أنه شخصية بسيطة وبشوشة ويحب النكتة، فاندمجوا معه. وأذكر أن نُقد قال لي مرّة عن الميرغني إنه "لا يحتمل أن يؤذي نملة".
# من من المعتقلين لا زلت تتذكر له مواقف معينة؟
## أتذكر موقفاً للدكتور بهاء الدين محمد ادريس، وهو كان موجوداً بالمعتقل قبل هؤلاء، كان مع معتقلي نظام مايو، وكان محكوم عليه بالسجن.. هذا الرجل في ظني ربما يكون قد ظُلم في نظرة الناس له، فهو رجل صبور ومهذّب ومنضبط، يندر أن تجد شخصاً في صبره وتحمله، فهو لا يكل ولا يمل.. وفي مرة تورّمت "قدمه"، ربما يكون من أثر مرض السُكّري، فتم تحويله للعلاج بمستشفى السلاح الطبي، لكنه رفض رفضاً باتاً، وأحضرناه إلى مكتبي وكان معي مدير مستشفى السلاح الطبي المرحوم الفاضلابي، وحاولنا لما يقارب الساعة اقناعه بالذهاب إلى المستشفى، لكنه تمسك برفضه وقال لنا: "باب السجن ده ما بطلع منو إلا وأنا طليق". وأذكر أنني في أوقات فراغي كنت أتجاذب معه أطراف الحديث، وأسأله عن فترة حكم مايو، لكنه وبتهذيب شديد كان يعتذر عن الحديث عن تلك الفترة.
# أحكِ لنا بعض المواقف الإنسانية التي مرّت عليك وأنت مدير لسجن كوبر؟
## هناك موقفان إنسانيان لا أنساهما؛ الأول كان هناك شاب "إثيوبي" محكوم عليه بالاعدام، وكان أثناء فترة انتظاره يقوم بالحلاقة لكل من بالسجن "حلاق السجن".. وحدث أن قَبِل أولياء الدم بدفع "الديّة"، فقام مجموعة من المحامين المعتقلين بقيادة الصادق شامي بجمع مبلغ "الديّة" ودفعها له. واُفرج عنه، وبعد ذلك قام أحد المحكومين عليهم بالاعدام بعد الافراج عنه بتشغيله معه في مصنعه.
موقف آخر.. كان هناك محكوم عليه بدفع ديّة أيضاً، وكان مبلغاً كبيراً، وكان هذا الرجل يخدم المعتقلين السياسيين، ونشأت بينه وبينهم علاقة قوية، وبعد أن اُفرج عن مولانا الميرغني، أرسل ابنه ومعه د. جعفر أحمد عبد الله، ومعهم مبلغ الدية كاملاً، فدفعوه واُفرج عنه، بعد ذلك أرسله الميرغني إلى ميرغني عبد الرحمن، ووجد له فرصة عمل بمصنع الزيوت التابع له.
# وموقف آخر أيضاً لا أنساه، يؤكّد أن السودان واسع في مساحته، لكنه ضيّق في علاقاته.. ففي مرة جاءني معتقل وأخبرني أن زوجته توفيت، تعاطفت معه كثيراً ولم أتعامل وفق الروتين المتبع، وأتصلت برجل في الأمن طلبت منه أن يأخذه لزيارة أهله وتلقّي العزاء في زوجته ثم يعيده بعد ذلك، وبالفعل أخذه لمنزله. في نفس ذلك اليوم جاءني خبر وفاة أبنة عمي بالحلفايا، وعندما ذهبت إلى منزل العزاء تفاجأت بوجود ذلك النزيل في نفس العزاء، واكتشفت أن زوجته المتوفّية هي ابنة عمي نفسها.
# وماذا عن المواقف الطريفة مع المعتقلين السياسيين تحديداً؟
## أذكر أن العقيد يوسف عبد الفتاح كان يزورنا كثيراً في السجن، وكان يمّر دائماً على قسم المعتقلين السياسيين، وفي مرة كان نُقُد جالساً وكان بالقرب منه حجارة كبيرة اعتاد النزلاء على كتابة أسمائهم عليها، وكان هناك حجر كبير ليست عليه أسماء، فداعب يوسف عبد الفتاح نُقُد قائلاً: "أكتب اسمك في الحجر النضيف ده"، فردّ عليه نُقُد: "ده حنخليهو تجي إنت تكتب عليه اسمك".
# أيضاً موقف طريف آخر.. في إحدى الليالي أتتنا تعليمات بنقل مجموعة من المعتقلين لسجن "شالا"، وعندما أحضرتهم إلى المكتب لإخطارهم بالأمر، استقبلوه بإمتعاض وشكوى وتبرُّم، وبدأوا في الإحتجاج وسرد ظروفهم، واظهروا عدم قبولهم بالأمر. لفت نظري من بينهم شخص وحيد كان يضحك بعكس الآخرين، وهو المرحوم (خالد الكِد)، واندهشت لضحكه، ولما انصرفوا عائدين ناديته وسألته عن سبب ضحكه، فأجاب بأنه وعندما تم استدعاؤنا للمكتب ليلاً، سرت شائعة بأن السبب هو اطلاق سراحنا، لأن ذلك يتم دائماً بالليل، وعلى الفور قمنا بتوزيع حاجياتنا ومعداتنا من بطاطين و"سفنجات" وحتى معجون الأسنان على بقية المساجين، والآن أنا أضحك على هذا المقلب ونحن نعود إليهم وقد توزعت كل حاجاتنا.
# مواقف أخرى في الذاكرة لا تنسى؟
## أتذكر أن زارنا مرة بالسجن د. نافع علي نافع، وكان حينها مديراً لجهاز الأمن، ووجد معي بالمكتب الاستاذ عبد الباسط سبدرات، وكان حينها محامياً عادياً، جاء في قضية تخص أحد السجناء. وجلس الإثنان أمامي متواجهين، ولم يتعرّف سبدرات على نافع، بينما عرفه نافع على الفور، وبدأ يدردش معه حول أركان النقاش بالجامعة وغيرها من الموضوعات المختلفة، وكان سبدرات يجيب دون أن يعرف مَن يسأله. بعدها استأذن نافع وخرج من المكتب، وقبل أن يتوارى سألني سبدرات: من هذا؟ ولما أخبرته، قام مسرعاً ولحق به وصافحه وأخذا وقتاً في الحديث معاً. وبعد فترة رأينا سبدرات في الوزارة.
# هل شهدت تلك الفترة أي مشاكل أو أحداث بين المساجين داخل السجن؟
## بكل أمانة أقول إن تلك الفترة تكاد تكون خالية من أية مشاكل بين المعتقلين السياسيين، وأذكر لك حاثة معينة تدلّل على ذلك، ففي مرة كان هناك أزمة في الخبز، ولم نجد خبزاً للمساجين في أي مكان، وطلبت رئيس الميز وسألته عن كيف يمكن أن يتصرف، فقال يمكن أن نأتي بدلاً عن الخبز ب "كِسرة"، وبالفعل ذهبنا وأحضرنا كمية كبيرة من "الكِسرة"، وكان يمكن أن يثير مثل هذا الأمر مشاكل بين المساجين، ولكن لم يحدث أي شي.
# كيف كان المعتقلون السياسيون يتعاملون مع الأحداث السياسية التي كانت تحدث في الخارج؟
## أقول لك بأنهم كانوا يعرفون كل كبيرة وصغيرة تحدث خارج السجن، بل كانوا يعرفون كثيراً من الأحداث حتى قبل أن نعرفها نحن. ولا أدري كيف كانوا يعرفون ذلك.. حتى الشائعات التي كانت تنتشر عن اطلاق سراحهم كانوا يعرفونها.
# بمناسبة الشائعات هذه، ما هي أكثر شائعة انتشرت آنذاك وخلقت بلبلة بين المساجين؟
## نعم هناك شائعة شهيرة لا أزال أذكر تفاصيلها، ففي ذلك الوقت كانت تصدر بالخرطوم صحيفة واحدة هي "الإنقاذ الوطني"، وكان يرأس تحريرها محي الدين تيتاوي، وكان اسم نائبه عبد الرحمن.. ونشرت الصحيفة مانشيتاً يقول: "اطلاق سراح الترابي والميرغني والمهدي". وقد أحدثت تلك الشائعة ردود أفعال عديدة، ولم تنقطع الاتصالات للحظة تسأل عن صحة ذلك، سواء من الجهات الأمنية، أو المواطنين الذين كانوا يكيلون لنا الشتائم، وكنا نستقبل كل ذلك بصدر رحب، ونشرح لهم أن هؤلاء لا زالوا موجودين بالسجن. وفي ذات اليوم تفاجأت بدخول العقيد عبد الرحيم محمد حسين ومعه تيتاوي ونائبه لمكتبي، وكان العقيد غاضباً، وطلب احضار المعتقلين الثلاثة، وعندنا جاءوا ساد الوجوم الأوجه، ويبدو أنه كانت هناك علاقة بين مولانا الميرغني وتيتاوي، إذ سلّم الميرغني على تيتاوي وحياه وسأله عن أحواله، بعد ذلك خاطب عبد الرحيم المعتقلين بأن الشائعة التي خرجت قد أحدثت بلبل وسط المواطنين، ونريد أن يراكم هؤلاء الصحافيين ويتأكدوا من أنكم موجودين وبصحة جيدة.
# كيف تم اطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وكيف استقبلوا قرار اطلاق سراحهم؟
## أول من اطلق سراحهم كانوا الميرغني والترابي، وتم اطلاق سراحهم قيد الاقامة الجبرية يوم واحد، أتذكّر أنه تم استدعائي ليلاً للمنطقة العسكرية المركزية، وكان معي ابن الميرغني علي، وابن الترابي الصديق. وابلغوهم في وجودي بأنه سيطلق سراحهم قيد الاقامة، وبدأوا يشرحوا لهم الشروط.
طبعاً استقبلوا القرار بارتياح كبير، ودائماً عندما يصدر امر افراج تعم الفرحة كل المساجين، وحتى نحن نفرح لكل من يطلق سراحه حتى من المساجين العاديين.
# كيف تنظر لمجمل تجربتك مع السجناء السياسيين؟
## أقول لك إننا عملنا كضباط سجون لفترة طويلة، وبعدد من مدن السودان المختلفة، وأعتقد أن المعاملة الطيبة التي كنت أتعامل بها مع المعتقلين السياسيين، لا تخصني أنا كشخص، إنما هذه هي الروح السائدة وسط كل الضباط، وأقول في هذه الجزئية بأن هناك قرار مهم للغاية أتمنى أن تتم مراجعته، وهو قرار إلغاء "كلية السجون". فهذه الكلية كانت مفخرة بالنسبة لنا وللسودان، وكانت تخرّج ضباطاً متخصصين في السجون وذوي كفاء عالية. وكان يأتي إليها دارسون من كافة الدول العرية، أتمنى أن يتم أعادتها من جديد لأهميتها البالغة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.