حشود غفيرة من كل أجيال الحركة الاسلامية تتلاقى احتفاءً بخروج أحد قيادات المحاولة الانقلابية الأخيرة وهو من خطّ بيراعه البيان رقم (واحد) لإنهاء النظام الذي شارك في صناعته وسكب الدماء لحمايته طيلة أيام النقاء والطهر وسلامة المقصد ، بل هو من مدرسة العسكريين الغلاة وشعارها (نجضت نجضت ما تدوها بغاث الطير) ولكن يبدو ان هؤلاء يئسوا من الزمرة الحاكمة (وقنعوا من خير فيهم)، ولكن لماذا تلجأون لذات الآلية القديمة والعقيمة الانقلاب العسكري اقصر الطرق للنيل من الخصوم والصعود الى سدة السلطة؟؟ ثم أردفت إليه السؤال الآخر قلّبنا عبرة التاريخ وحركات الإحياء الديني ودعوات الأنبياء ولم نجدهم اختاروا طريق الانقلاب وسيلة لادارك الغايات النبيلة أي لم يستخدموا خيار الغاية تبرر الوسيلة باستثناء الحركة الاسلامية السودانية والتي اختارت هذا الخيار بكامل وعيها وعقلها ومؤسساتها ومع سبق الإصرار والترصّد بل ظلّت وطوال عقدين من الزمان تنسج الخلايا داخل المؤسسات العسكرية وتتربص بالحريات، بل وظّفت جل طاقتها لتدارك الخلل الذي صاحب الانقلابات السابقة بالتدابير التي تفضي الى حتمية النجاح وهي تدرك أنها لم تتطوّر من حيث الكسب الفكري والعضوي الاّ في فترات البراح السياسي ولم تُصاب بالجمود والسكون إلاّ في عهود الاستبداد العسكري، بل ان زعيمها ومفكّرها في متون أسفاره وندواته ومحاضراته القيمة شكّلت مفردة الحرية والمشيئة الأصل، واستدركت له قائلاً عموماً فان طغيان ظاهرة الرغبة في الاصلاح والتغيير وبسط الحرية وسط العسكريين الإسلاميين ومدرسة المجاهدين والشباب والطلاب ظاهرة صحية وإيجابية،وتنبي بان الضمير الجمعي للإسلاميين يتجه نحو النهايات المطلوبة، وهي تكاثف الحراك الفكري والسياسي داخل التيار الاسلامي الوطني للضغط على الأقلية الحاكمة ودفعهم للتماهي مع الاصلاح والتغيير الداخلي ، وإصلاح الشأن السياسي السوداني الكلي وصولاً الى الوئام الوطني ورافعته الديمقراطية والتبادل السلمي للسلطة أو عزلهم في الدائرة الفوقية للسلطة ولا محالة فهم ذاهبون طال الزمن أو قصر، وكلما امتدّت أفواج هجرة الإسلاميين نحو تيار التغيير والاصلاح كلما تيسرت آليات وعملية التغيير الجذري ، لذلك فان تأخّر الربيع السوداني ظاهرة صحية أكثر من تفسيرها حالة كسل ومرض، وبمعادلة فقه الأولويات فإذا اشتدت وطأة الضغوط الشعبية وعمّت حالة الانتفاض الشعبي وأصبح المصير الوطني بين خيارين، استمرار العصبة الحاكمة في السلطة أم وحدة الامة فالخيار الراجح هو وحدة الامة، وأيضاً اذا وضع التيار الاسلامي الوطني بين خيار استمرار مؤسسات المشروع الوطني الاسلامي لصيانة هويّة التوجّه النهضوي، أم المناجزة من أجل استمرار كنكشة الرموز بلا شك فان الأفضل التضحية بذهاب الرموز مقابل استمرار الرؤية الكلية والاستراتيجية لمشروع حركة الإسلام (وما محمّدٌ الاّ رسولٌ قد خلت من قبله الرسل) وتلمّست ذلك في حوار خاص مع الأستاذ علي عثمان إبّان حدّة الاستقطاب في أيام المفاصلة حيث ألمح الى ان خطّة الحركة الاسلامية الداخلية التي كانت تقضي بالاندماج التام بين وظائف الحركة ووظائف الدولة يستحيل تنفيذها لأن صعود الشيخ الترابي رئيساً سيقود لمواجهة حتمية مع العالم الذي يتربص بنا الدوائر لوأد التجربة واستئصال شافة المشروع لذلك ضحينا بالرمز من أجل استمرار المشروع ومفرداته في الحياة (لذا استعدّوا للتضحية بالجاه والمنصب لذات القيم). والقيادي الانقلابي يبرّر بأنهم إلتجأوا لذلك الخيار الحاد لأنهم سُدت أمامهم كل نوافذ الاصلاح والتغيير من الداخل واعترانا شعوراً طاغياً بان استمرار هذه المجموعة الحاكمة سيجعل المشروع كلّه عُرضة للطامعين في وأده نهائياً بعد ان أوصلت الوطن لحالة الانسداد والخيبات الكبرى ، لذلك استبقنا الآخرين، وكان هدفنا إحداث التغيير الفني وبسط الحريات العامة ودعوة القوة السياسية لتشكيل حكومة قومية انتقالية بآجال محددة لحلحلة أزمات السودان المتفاقمة والتتويج بانتخابات شفافة ونزيهة، ثم يحل المجلس العسكري نفسه بعد نهاية المدة إما بالتقاعد أو الاستمرار في الخدمة العسكرية، وهذه فزاعة قديمة وامعان في المثالية لان الدين محفوظ (والعاقبة للمتقين) (ان الأرض يرثها عبادي الصالحون)، وحركة الأديان يصنعها الشعب ويقودها النخب ولكن عبر التغيير الاجتماعي السلمي الدؤوب الذي يبدأ من (وانذر عشيرتك الاقربين) وصولاً الى قوله تعالى (ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا) (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) لم تتنزل هذه الآية الاّ بعد ان دانت الأغلبية الميكانيكية في المجتمع القرشي بالإسلام، كما ان السودان عبر التاريخ لم يحدث فيه تغيير جبري جاهر بالعداء لمفردة الإسلام إلاّ وكان مصيره السقوط، وهذه فزاعة يسوقها النظام لربط مصير الإسلام باستمراره في كرسي السلطة ولكنها تكشفت وتعرت وأصابها البوار،والاصلاح لا يمكن ان يتم عبر الانقلاب العسكري، وأيِّ إصلاح سياسي واقتصادي واجتماعي جناه السودان من الانقلابات العسكرية الثلاثة؟؟ وأعني الاصلاح الذي يُفضي الى حالة استقرار في الحكم ،والمرجعية الدستورية، والهوية الوطنية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة؟؟ بل صوب بصرك الى عالمنا الإفريقي والعربي ما هي ثمرات الانظمة العسكرية الاستبدادية؟؟ وأعقد عملية تحليل ومقارنة بينها وبين المجتمع الغربي والذي صنع قيمه عبر ثورات الشعوب، لذلك اكتسبت الاستمرارية والاستقرار،فالدستور البريطاني غير مكتوب ولكن الشعب البريطاني الواعي يحفظه في سويداء القلب، وانّ من يحاول الانقلاب على الشرعية الديمقراطية يُحال الى المختبرات لفحص سلامته العقلية، وابسط دليل على ان السودان لم تعتريه غاشية الديمقراطية عبر التاريخ السياسي الوطني، خيانة الاحزاب نفسها لذلك العهد باللجوء للانقلابات لاجهاضها ووقوف الشعب ساكناً بل ومؤيداً للانقلابات العسكرية، لم نشاهد بان الشعب خرج وسد الطرقات ووضع المتاريس أمام الانقلابيين ، وقد توهّم الدكتور الترابي بعد حل البرلمان في عام 1999م بان الشعب سيحمي برلمانه ولكن المجتمع لم يُحرّك ساكناً ولعله أدرك خطل تقديره وتوصّل الى قناعة بان الانقاذ لم تكن ثورة لان الثورة صناعة حياة وتاريخ وأمة بل محض انقلاب عسكري، وقيادة الأحزاب نفسها تتخذ الديمقراطية طلاءً قشرياً خارجياً، ولكنها في الباطن تمارس أقصى الاستبداد واحتكار القرار ترغيباً وترهيباً بل وتوريث القيادة. يتصل حواري مع القيادي الانقلابي،لقد لجأت الحركة الاسلامية الى الانقلاب العسكري وعبر قرار تنظيمي مؤسسي وبإقرار الأغلبية داخل مجلس الشورى وهو يضم صفوة أهل الفكر والاستنارة وممن تشبّعوا بالثقافة الغربية التي تُعظّم الحريّة تنادى الستين عضواً لوأد الحرية،وتكليف صفوة ومنهم أعضاء في البرلمان لوضع الخطط الفنية والسياسية والتنظيمية لإنجاح العملية،وكتب البيان (رقم واحد) الشيخ الدكتور الترابي بكل ملكاته الفذة وقدراته الفكرية والسياسية وشاركت كل أجهزة الحركة الخاصة مدنيين وعسكريين، بل ان المجموعة العسكرية التي نفذت التغيير وبشهادة زعيم الإسلاميين (البشير هدية السماء لأهل السودان) كانوا من أفضل وصفوة العسكريين التزاماً وخلقاً وعفة وطهارة (مجلس الصحابة) ثم أُحيلت الى نائب الأمين العام (متين يا علي تكبر تشيل همي) ومجموعته مهمة قيادة تأمين الانقلاب في مراحله الأولى فماذا كانت النتائج والمآلات؟؟ وليس يصحُّ في الإفهام شيءٌ اذا احتاج النهار الى دليل!!ألم تتعظوا من التجربة؟وتستلهموا العبر لتتفتق عبقريتكم بآلية أخرى للإصلاح والتغيير ؟؟ لذا ينبغي للإسلاميين توجيه طاقاتهم الفكرية لإيجاد صيغة عبقرية لرفع حالة الجمود والبؤس الفكري والسياسي عن كيانهم السياسي والحركي وانتشاله من حالة الموت السريري وذلك بفضّ الارتباط بين هذه الأطر الحيوية والقيادة التي اصبحت العقبة الحقيقية أمام التغيير والاصلاح لإشباع نزوعات السلطة، وذلك لضمان استمرار حركة الإسلام كمنظومة في معادلة الشراكة والمحاصصة الوطنية القادمة، وابتداع طرائق خلاّقة تصون حياد المؤسسة العسكرية والأمنية لصيانة هوية المشروع الوطني السوداني المؤسس على الديمقراطية،والحفاظ على مؤسسات الدولة السودانية وولاؤها القومي،والاهم وحدة التراب السوداني من التناقص والتقزّم لذا فان الحل الناجع يكمن في تنحي القيادة العليا الحالية.