رغم أنها أصبحت دولة أخرى غير السودان إلا أن شأنها الداخلي لايزال محل اهتمام جميع السودانيين الذين يشفقون على حالها الآن والذي قد يقود الى تفتيتها وازالتها من الوجود اذا لم يتدارك الجنوبيون قبل غيرهم تداعيات هذه الاحداث والتي تحولت من صراع سياسي على السلطة الى صراع قبلي وبجيش واسلحة الدولة. فماذا أصاب الدولة الوليدة هل بسبب قلة خبرة سياسية لدى قادتها ام غيرة سياسية من بعضهم ام هل هو بسبب انتقال المرض اليها من الدولة الام التي هي نفسها تعاني من ويلات الحروب والصراعات السياسية واستئثار قلة بالحكم والسلطة والمال؟. إن الجنوب وهي دولة هشة وليدة تواجه الآن أكبر تحدٍ في تاريخها منذ الاستقلال عن الشمال قبل اكثر من عامين وتشكل "محاولة الانقلاب" التي اتهم الرئيس سلفا كير نائبه السابق وخصمه اللدود حاليا رياك مشار تهديدا صريحا للدولة بكاملها ليس لانها محاولة استهدفت الحكم وتم اخمادها ولكن لان لها ابعادا وذيولا اخرى، الصراع على السلطة احد اسبابها ولذلك استخدم الطرفان البعد القبلي لحسمها. فرياك مشار المتهم بقيادة الانقلاب الفاشل لجأ الى عصبته وقبيلته النوير التي لها صراع تاريخي مع الدنيكا فيما تحاول الحكومة بقيادة سلفا كير بكل الوسائل ابعاد البعد القبلي للصراع وحصره في محاولة انقلابية فاشلة دبرها مشار الذي استطاع الهروب وتجميع المزيد من المؤيدين واصبح حاليا يفرض شروطه للدخول في حوار مع سلفا كير ومن بينها تنازله عن السلطة. ان اسوأ السنيارويو هو ليس فقد المزيد من الحاميات والمدن لصالح مشار وانما القتال الدائر سيزيد من التوترات العرقية في دولة قائمة في الأساس على تقسيم عرقي، فرغم ان الشرارة الأولى لأعمال العنف في الجنوب ذات أهداف سياسية، وتمثلت في طموحات نائب الرئيس السابق رياك مشار، وإصرار الرئيس سلفا كير على إحكام السيطرة على مقاليد الحكم الا ان الامر لن يتوقف على ذلك باعتبار ان الطريق لتحقيق الطموحات السياسية في الجنوب منذ القدم يتم عبر البعد والوزن القبلي ولذلك انحصرت السلطة السياسية في يد الدينكا باعتبارها اكبر قبيلة وان هذه الطموحات كانت السبب في اندلاع التمرد بقيادة الزعيم الجنوبي الراحل جون قرنق عام 1983 عندما قسم الرئيس الاسبق جعفر النميري الجنوب الى ثلاثة اقاليم بضغط من الاستوائيين الذين رفضوا هيمنة الدينكا. فالصراع في الجنوب ليس صراعا قبليا بين الدنيكا والنوير كأكبر قبيلتين فقط وانما هناك لاعبون آخرون لا يرغبون في هيمنة الخصمين الكبيرين ومن بينها هذه القبائل التيوسا والمنداري والزاندي والشلك بقيادة لام اكول المعارض المعروف لنظام جوبا. مشكلة سلفا كير انه لم يستطع حتى الآن إقناع أحد من الساسة الجنوبيين الكبار من معاصري ومناصري الخط السياسي للراحل جون قرنق بأن مشار وسياسيين كبارا هم من يسعون إلى الإطاحة به بالقوة، فالمعلومات التي تحدثت عن المحاولة الانقلابية شحيحة ومن طرف واحد حيث لم يتم اعتقال متورطين حاملين السلاح وبالميدان وانما تم اعتقال المعارضين المعروفين من منازلهم ومن بينهم الأمين العام للحركة الشعبية المقال باقان امون. فما حصل في واقع الامر وفقا لافادات المراقبين السياسيين لم تكن محاولة انقلابية او تمردا مدبرا وانما ان سلفا استبق معارضيه بقيادة رياك مشار وباقان امون وريبكا قرنق ارملة الزعيم الراحل جون قرنق ودبر عملية لاعتقالهم ولكن فرار مشار افشل الخطة وحول الامر من خلاف سياسي داخل اجتماعات المجلس الثوري للحركة الى صراع سياسي على كرسي الرئاسة عبر القبيلة وبجيش وسلاح الحكومة. فالواقع ان مشار وفقا للمراقبين السياسيين لم يكن راغبا في التمرد وحمل السلاح على سلفا كير ولكن الاخير دفعه دفعا بعدما زج بأكثر من عشرين من كبار مؤيديه ومساعديه بالسجن وانه استفاد من السخط العام على الحكومة وقيادة الحركة كما استفاد من بقايا القوات المتمردة والتي كانت تدعمها الخرطوم والتي لم يتم ادماجها بعد في جيش الدولة وهو جيش يقوم على اساس ولاءات قبلية. فالوضع في الجنوب مرشح لمزيد من التدهور خاصة اذا ما فشلت الجهود الافريقية والامريكية في الضغط على الجانبين للجلوس على طاولة الحوار، فرغم ان مشار لا يتمتع بقبول دولي إلا أن لديه مؤيدين مخلصين من قبيلة النوير وان البعد العرقي يمثل عامل قلق كبير في جنوب السودان، فجميع القبائل الرئيسية لديها مسلحون وسلاح وهي في انتظار ما تنصرف إليه الاوضاع بين الدينكا بقيادة سلفا كير والنوير بقيادة رياك مشار. فالوضع بالجنوب وصل إلى حد مأساوي بالشكل الذي يتطلب إجراءات دولية أوسع تأثيرًا لن تجدي معها تهديدات الرئيس الامريكي بفرض عقوبات، فخروج الرعايا الاجانب خاصة الغربيين من الجنوب يغري المتخاصمين بالتمادي اكثر باعتبار ان سحب الرعايا هو ترك الجنوبيين لحالهم. من الواضح ان سلفا كير ورياك مشار نقلا امراض الشمال الى الدولة الفتية الجديدة، فممارسات الرئيس الجنوبي لا تختلف عما هو في الشمال ولذلك رد فعل رياك مشار لا يختلف عن رد التمرد بالشمال ولكن بيدو ان الخرطوم ستجد نفسها في حيرة هذه المرة، فالقضية اكبر منها خاصة بعدما تدخلت امريكا واوغندا وكينيا ونيجيريا بمبعوثين. فهي لن تستطيع التأثير في ظل وجود لاعبين كبار بعضهم يتشكك في نواياها الحقيقية. من المهم ان يدرك قادة الجنوب ان وجود دولتهم على خارطة العالم مرهون بمدى توافقهم على حل الخلافات عبر الحوار الديمقراطي لا عبر البندقيه ولا القبلية فالمخرج من هذه الازمة يكمن، في الاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية تقودها الحركة الشعبية لتحرير السودان، للإشراف على الانتخابات القادمة في 2015، وإطلاق سراح المعتقلين، وإجراء مصالحة وطنية شاملة تشمل جميع المعارضين من السياسيين وحاملي السلاح. فالمطلوب من الجنوبيين تكذيب مقولة أن "جنوب السودان ليس سوى مجموعة متباينة من القبائل والتي لا تستحق أن يطلق عليها بعد صفة دولة فليس هناك مستحيل في السيطرة على أجهزة الدولة، والحكومة، والبيروقراطية، وقبل كل شيء، القوات المسلحة"، فمشكلة الدولة الوليدة هي عدم توفر الوعي السياسي، فقادة الدولة أغلبهم من العسكريين الذين قضوا شبابهم في الغابات، ثم انضموا للعمل السياسي في شراكة لمدة خمس سنوات مع شريك مشاكس بالشمال قادهم عنوة نحو الانفصال بدولة ذهبوا بها إلى جنوب السودان ولكنهم نقلوا اليها جميع أمراض الدولة الأم. كاتب سوداني الراية