لسبب ما كنت بالمكان و كان لي ان اري مشهدا طالما رأيته علي شاشة التلفزيون ليختلف الحس و الاحساس بالامر. المكان تحتفل فيه الدولة بافتتاح مشروع تنموي كبير تتوقع ان يساهم في الدخل القومي و توفير فرص العمل. مربع كبير يتوسطه مسرح و منصة لزوم ما يلزم من حديث الكبار و طبعا مع مكبرات الصوت . و الزمان من قبل منتصف النهار الي ما بعده بكثير. الضلع الجنوبي للمربع مظلل و محاط بصيوان كبير بالاضافة الي مكيفات الهواء التي تحجز الحر و الهواء الساخن خارجا ريثما تبردهما و تتأكد من مناسبة برودتهما للحضور المهم الذي كان يجلس علي كراسي كبيرة و مريحة. الضلع الشرقي كان ايضا مظللا و مكيفا و الفارق الوحيد كان في نوع الكراسي و كان مخصصا للموظفين. اما الضلعين الغربي و الشمالي فحدث و الحرج يملؤك. لا صيوان يحيط و لا يظلل ، هكذا في حر قائظ يطلق زئيره علي جموع عددهم اضعاف ما علي الضلعين الاخرين. جمهور من شعب اهل المنطقة. حين قدمت المياه المعباة النقية و المشروبات الباردة و اشياء اخري للضيافة علي حضور الضلعين الجنوبي و الشرقي لم ار شيئا علي ضلعي الشمال و الغرب. بدأت المكبرات تنقل احاديث كبار المسؤلين, و هم يقفون علي تلك المنصة علي ذلك المسرح الذي يتوسط المربع المحاطة اضلاعه بثلاث انواع من الحضور. الغريب و الذي لم يعد غريبا بعد فهم الاختزال. ان المتحدثين الواحد تلو الاَخر كان يعطي ظهره للجمهور من الشعب و يوجه حديثه للحضور علي الكراسي الوثيرة, لان المنصة و المسرح صمما مع سبق الاصرار و الترصد علي ذلك الوضع: الظهر للجماهير, التي كنت اظن ظن الخير ان الحديث و أصل العمل موجه لها. ظهرهم للجماهير و هم يتحدثون عن التنمية لصالح الشعب، و كيف ان المشروع الكبير سيؤثر في كل البلاد و اهالي المنطقة بالذات و هم اصل الهدف من مثل هذه المشاريع ، و ان هذا المشروع يعد انجازا كبيرا و تحقيقا للهدف الذي قطعته الحكومة مع شعبها في تحقيق التنمية الاقتصادية !! كل هذا الحديث و ظهورهم للجماهير التي ظلت واقفة و صامدة تحت الشمس يشير لها بعض المنظمين من حين لاَخر لتهتف. ثم انتهت الاحاديث و كلمات الشكر من الكبار الي الكبار و انفضت الجموع كل الي ما يشبه حاله و ما يمثل قدره في الموقف الذي يختزل الحال في البلاد. الحضور المهم صعد الي باصات سفرية كبيرة مكيفة و مريحة المقاعد الي صالة كبيرة و فسيحة. و في الطريق تقابل نوعان من الحضور، المهم في باصاته المكيفة و جماهير الشعب في مركبات لا ترحم رؤوسهم من الشمس، مكدسين بها، عائدين من المولد بلا حمص و لا ذكر. تساءلت فيما اتوا و فيما ذهبوا. الصالة الفسيحة كانت معدة بموائد دائرية رصت فيها انواع من الطعام كل يفوق الاَخر طعما و جمالا. عندما انتهت المأدبة للحضور المهم علي شرف افتتاح المشروع التنموي الكبير الذي سيرفع شيئا من الرهق عن كاهل الشعب كما ذكروا في كلماتهم ، كانت بقايا الطعام علي الموائد ناهيك عن ما في المطابخ تكفي و تفيض لصنع شئ من الظل لتلك الجماهير ، و يبرد عطشهم ببعض ماء بارد ويسد جوعا و لاجلسهم علي كراسي تريح الارجل المتعبة من الكد و الجري وراء لقمة العيش طوال النهار و الاهم من ذلك ان يوفر شيئا من الاحترام و التقدير و الدخول في دائرة الاهتمام. كان المشهد في مجمله يختزل الحال، كيف تري الحكومة شعبها و اين موقعه من الاهتمام، في الظهر ام امام العين. و تختزل البون الشاسع بين الكلمات الرسمية و الافعال الحقيقية، لمن الفائدة و لمن التعب، و كل ذلك بلا حرج امام الكاميرات و اهل البلد و الغرباء. هذا السرد ليس للتباكي علي الحال لاننا كلنا نعلم، و انما لنسأل انفسنا ماذا نحن فاعلون ، نواصل معهم علي هذه الطريقة ؟ لا يمكن. نرفع صوتنا لاثارة انتباههم ؟ سندفع الثمن اضعافا في رحلة علاج حلوقنا. نرميهم بحجارة ؟ سيردون بالرصاص و نخسر ارواحنا. سيقول البعض لا نصر كبير من غير خسائر كبيرة و لكن ماذا لو كانت الخسائر كبيرة و لا نصر. كل هذه الاحتمالات هي نوع من الاحتجاج ، يصبح مختصر السؤال هل ينفع الاحتجاج فقط ام لا بد من امر اَخر يضاف لهذا الاحتجاج. لا بد من امر اَخر. انه التغيير الذي سيضمن ثمار الاحتجاج، الذي سيضمن حلاوة النصر وان في معيته خسائر، الذي سيضمن ان يوجه الحديث الينا و قبله المنصة و المسرح. و لكن ما الذي يجب ان يتغير في المشهد السابق؟ الحكومة ؟ لا اظن. ان نجحنا و غيرناها ما الذي يضمن اتجاه المنصات و الاحاديث للحكومة الجديدة. او لن نحتاج للصراخ او الرشق بالحجارة لاثارة الانتباه. او لن نقف تحت الشمس بلا ظل و لا ماء. لا اعتقد ان احدا يفكرفي تغيير الضيوف علي الكراسي الوثيرة. نحن من يجب ان يتغير، من نقف علي الضلعين الشمالي و الغربي من المشهد، لا ندري فيما دعونا و ما دورنا، جئنا لنتفرج علي حدث قل ان يحدث في المنطقة، لا فرق عندنا ان كان افتتاح مشروع او مسرحية او سيرك او حتي شاشة سينمائية، المهم ان نتفرج و نتسلي قليلا فنملأ بعضا من ايامنا المتشابهة ببعض الحكايات المسلية. ان تغيرنا تغيرت معاملة حكوماتنا معنا، هذه او القادمات، ان تغيرنا التفتت الينا، لن نقف تحت الشمس نسمع حديثها الباهت، لن توجه حديثها فقط الينا بل افعالها، لن نأتي اليها، هي ستأتي الينا. مشوار التغيير طويل و يختلف من فرد لاَخر و من مجموعة لأخري، و من شعب لاَخر. و لكنها نفس البداية، ان تعرف نفسك، ان تحبها علي ما هي عليه ان تقدرها. كيف ننتظر ان نُقدر و نحن لا نقدر انفسنا كيف للاَخر ان يعرفنا و نحن لا نعرف انفسنا. راقب حديثك عن نفسك كسوداني ، كيف تتجدث عن نفسك و عن السودان. كم مرة في اليوم تقول ... دي بلد دي ؟ ... و الله عمرنا ما نتقدم ... شوف الدول البدت بعدنا هسا وصلت وين ... عليك الله دا شعب دا ... دي امة دي ... السودانيين ديل اصلهم كدا عمرهم ما يمشوا لقدام ... السوداني معرووف ... اصلو كسلان بحب الركلسة ، ناس ما منتجة ... اديهم بيوت المناسبات يسكوها سك لكن كدي ادي شغل ... كسل شديد. هل تعرف انك في الاصل تتحدث عن نفسك و الذي وصفته بالكسل و التأخر هو انت نفسك. فانت فرد في هذه المجموعة لن تميَز مهما اعتبرت نفسك مميزا. فان كنت اوفر حظا في التعليم او فرصة العمل او المال ، فقد ساهمت في هذا التخلف و هذا الكسل و كل هذه المسالب التي تنسبها للاَخرين. لان دورك كان الاهم . هل سألت نفسك ماذا فعلت لتنشيط و تفعيل الوسط الذي تعيش فيه؟ كم نكتة تسمعها او تحكيها في اليوم عن سوداني مقارنة مع جنسيات اخري؟ من الادني في النكتة؟ من الموسوم بالشئ السلبي؟ اسأل نفسك لما توسم نفسك و ابناء بلدك بالسلبية و الدونية. اسأل نفسك كيف ستقدم لها و لبلدك شئ نافع و انت غير مقتنع بجدارتهما لحبك و تقديرك؟ البناء يبدأ بالحب ان لم تحب نفسك لن تدفعها للخير ، ان لم تحب بلدك لن تدفع به الي الامام. ستظل (راكدا) حين تجري انهر الدول الاخري متعافية و موفورة النشاط و تظل انت و بلدك تجمع المسالب حولك و تتحدث عنها لتزيدك ركودا و كلما اشفقت علي حالك ، اما بحثت عن طريق للهروب او رشقت حكومتك اللاهية عنك بثروتك، بالحجارة. الحجارة التي لن تعيد اللاهي الي الوعي ، ليس لأنها لا تصيبه و لكن لأن الحجر الذي يعيد اللاهي الي الوعي هو الحجر المقذوف بيد واعية، يد تعرف ما تريد و كيف تحققه، يد تعي نفسها و قدرها و قدر بلادها و ما تريده لبلادها، حتي انها لا تحتاج ان ترمي بها حجرا. ماذا لو كففنا عن الحديث السلبي عن انفسنا و سودانيتنا و سوداننا و نوقف كل من يضعف منا و يتحدث عنا بدونية. فلننظر الي انفسنا في اقرب مراَة، ما الذي ينقصنا ، يدين، رجلين، قلب و رأس و في الخارج ارض و سماء و شمس. ما الذي ينقصنا لنتفاعل مع الخارج لنجري انهرنا و نغادر اماكن ركودها، اعتقد بعض تفاؤل و بعض ثقة بالنفس. و بالمناسبة ( لا يغير الله ما بقوم حتي يغيروا ما بانفسهم). [email protected]