لئن كانت الجامعات العربية، باستثناء الجامعات الإسلامية التاريخية، أكثر حداثة من الجامعات الأوروبية إلا أنها أيضاً ارتبطت بتاريخ الشعوب العربية وبنهضتها الحديثة. ارتبطت بحركاتها الوطنية والاجتماعية، وقامت بدور رئيسي في تحقيق الاستقلال الوطني وإحداث التغير الاجتماعي. وكانت منبراً للدفاع عن حقوق الإنسان الطبيعية في الحريات العامة وتأسيس مجتمع ديمقراطي. كما دافعت عن استقلالها الأكاديمي، وساهمت في الإبداع الفكري، ومدت الجيوش الوطنية بكوادر علمية مؤهلة قادرة على تحقيق النصر كما حدث في أكتوبر 1973. والمتتبع لحركة الجامعات العربية، نشأة وتطوراً والدارس لدورها الاجتماعي يمكنه ملاحظة ارتباط تاريخ الجامعة بالحركة الوطنية. وفي البلاد النامية بوجه عام ارتبطت الجامعات بتاريخ الحركة الوطنية. فإذا أخذنا الجامعة المصرية مثالاً على ذلك، وهي أقدم الجامعات العربية، نجد أنها ارتبطت منذ نشأتها بتاريخ الحركة الوطنية المصرية منذ أن كانت جامعة أهلية عام 1908 إلى أن أصبحت جامعة وطنية في 1925. فقد شهدت الثورة الوطنية في الأربعينيات. وفيها تكونت لجنة الطلبة والعمال عام 1946. وقام شبابها بتكوين حركة الفدائيين في القناة عام 1951. ثم هبّت الجامعة دفاعاً عن الحرية والديمقراطية في 1954. وقامت المظاهرات ضد أحكام الطيران عام 1968 ترفض الهزيمة، وتطالب بمحاكمة المسؤولين عنها. وعندما ظهرت الثورة المضادة في السبعينيات حملت الجامعة لواء المعارضة منذ 1971 حتى 1976. وليس بغريب أن يكون النصب التذكاري للشهداء على مدخل الجامعة، وأن يكون على الناحية الأخرى من طريق الجامعة تمثال نهضة مصر، والجامعة والمثّال مختار كلاهما من حصاد ثورة 1919. لقد حملت الجامعة الأماني الوطنية، ونادت بالاستقلال التام أو الموت الزؤام، ورفعت شعار وحدة وادي النيل. وقامت جامعة الأزهر بنفس الدور منذ الوقوف أمام نابليون، ومقاومة الفرنسيين، وتنصيب محمد علي والياً على مصر. ثم حملت لواء المقاومة للإنجليز، ورفضت الاحتلال الصهيوني للقدس. وقامت جامعات مصر كلها ممثلة في اتحاد نوادي أعضاء هيئة التدريس برفض تطبيع العلاقات مع العدو الصهيوني، والارتماء في أحضان الغرب، وسياسة الانفتاح الاقتصادي، والقوانين المقيدة للحريات، والعزلة عن العالم العربي. وكان نصرا كبيرا قبيل الثورة المصرية إقرار مجانية التعليم، فالتعليم كالماء والهواء. ولقد تم إلغاء المصروفات من المدارس الثانوية عام 1950. وبعد الثورة أصبح التعليم حقاً طبيعياً للمواطن. وتم إلغاء المصروفات من التعليم الجامعي عام 1962. وجامعة الإسكندرية التي تأسست عام 1941 هي أول من أيد الثورة في 1952. وكان ناديها أول من عارض الثورة المضادة حتى أصبح أحد دعائم الوعي القومي. وقامت الجامعات العربية بنفس الدور الوطني. فقامت الجامعة التونسية والجامعة المغربية بدور الطليعة في التعبير عن مطالب الجماهير التونسية الوطنية والاجتماعية. كما قامت جامعات السودان، الخرطوم وأم درمان وجامعة القاهرة (الفرع) بمعارضة كافة نظم القهر دفاعاً عن الحريات وتأكيداً على حقوق الشعب السوداني. وحمل نادي اتحاد الخريجين لواء وحدة وادي النيل ثم الدعوة إلى استقلال السودان. وقامت الجامعات في الشام والعراق بدور رئيسي في معارضة الاحتلال الأجنبي وفي مقدمتها جامعة دمشق التي تأسست عام 1923. وتقوم جامعة بيرزيت في الأرض المحتلة بمقاومة الاحتلال الصهيوني والتعبير عن مطالب الجماهير الفلسطينية في الأرض المحتلة. وعلى رغم هجرة العقول ونزيف الجامعات العربية الذي يتم منذ عقدين من الزمن كوّن الأساتذة العرب في الجامعات الأميركية رابطة من أجل الدفاع عن حقوق الشعوب العربية وفي مقدمتها حقوق شعب فلسطين من أجل التأثير في الرأي العام الأميركي وتكوين جماعة ضغط على مجلس النواب ومجلس الشيوخ الأميركيين في مقابل جماعات الضغط الصهيوني. وإذا كانت بعض الجامعات العربية الحديثة قد نشأت بعد الاستقلال فقد لعبت دوراً مهماً في دعم الاستقلال ودعم المكاسب الوطنية. ويعتبر ازدهار الجمعيات الطلابية في الحرم الجامعي وتناولها لقضايا الأمة وقضية فلسطين خاصة، ومهرجاناتها واحتفالاتها بيوم القدس ويوم الأرض، وذكرى وعد بلفور وضياع فلسطين هو في حد ذاته أحد المؤشرات الإيجابية عن ارتباط الجامعة بقضايا الأمة المصيرية. وكذلك كان للجامعات العربية عامة والمصرية خاصة دور كبير في حركة التغير الاجتماعي حتى قبل الثورات العربية الحديثة في الخمسينيات وما بعدها. فقد حملت لواء الفكر العقلاني المستنير من أجل إرساء قواعد النهضة المعاصرة. وظهرت كتابات طه حسين وأحمد أمين وخلف الله وغيرهم من ثنايا الجامعة. كما ساهمت الجامعات في ذيوع أفكار المساواة والعدالة الاجتماعية وعرض قضايا الغنى والفقر وحقوق العمال والفلاحين. وبعد الثورات العربية في الخمسينيات والعقود اللاحقة تشبع شباب الجامعات بالاشتراكية العربية. وتمسكوا بمُثُل الحرية والاشتراكية والوحدة التي أصبحت مثلاً للأمة العربية في الستينيات وذروة الثورة العربية قبل هزيمة يونيو 1967. وبصرف النظر عن بعض مناهج التبرير، وغياب النقد، وأساليب الخطابة دون البرهان فقد حمل نادي الفكر الناصري لواء المعارضة للثورة المضادة داخل الجامعات في السبعينيات. كما شاركت الجامعات في الانتفاضة الشعبية في يناير 1977 ضد قرارات ارتفاع الأسعار. وكانت الجامعات الإقليمية عوامل تحديث في الريف بعد أن ظهر العلم بجوار الحقول ووسط جموع الفلاحين. وقد شاركت معظم الجامعات العربية في التغير الاجتماعي. ففي بعض دول المغرب العربي حملت الجامعات لواء المعارضة، ونادت بالحريات العامة، وبإعادة توزيع الدخل، وشاركت في مظاهرات الخبز في فبراير 1984. ومن الجامعات العربية في سوريا ولبنان خرجت معظم اتجاهات النهضة العربية الحالية في اللغة والأدب والثقافة. فالجامعة صدى للمجتمع وتعبير عن قضاياه. ودون هذه الوحدة ينقسم الطالب بل والأستاذ إلى قسمين، طالب علم في الجامعة، ومواطن مهموم بقضاياه لا يعرف كيف يتناولها خارج الجامعة. وتكون النتيجة أن ينفر الطالب من العلم الذي لا نفع فيه، ويعجز عن تغيير وضعه فيستسلم للأمر الواقع ويفقد قدرته على التغيير. وسواء كان هذا التغيير تدريجياً أم جذرياً فكلاهما منهجان في التغيير: التحديث والثورة، وكلاهما مطروحان في فكرنا الحديث. الاتحاد