كانت هبَّة سبتمبر/ أكتوبر2013 معلماً بارزاً في نضال شعب السودان إذ أنها شملت معظم ولايات ومدن مختلف الأقاليم، وإمتد إشتعال هتافاتها إلى أقصى مدن الغرب في نيالا وزالنجي ومناطق أخرى في دارفور، مقدمةً عشرات الشهداء. وفجّرت الأزمة الوطنية العامة، وأرعبت النظام وخلخلة الوضع داخل حزب المؤتمر الوطني نفسه. استطاعت الجماهير أن تحول الشعارات المطلبية لإلغاء الزيادة في أسعار المحروقات الى شعارات سياسية تطالب بإسقاط النظام . مؤكدة راهنية القوانين العلمية الجدلية وعلم الاجتماع. فتراكم معاناة الجماهير المعيشية والصحية والتعليمية والخدمية، غير المسبوقة لابد له أن ينفجر مهما كانت التحوطات وضراوة القهر والبطش. الحال الآن أبشع مما كان عليه في العام الماضي. فكل المعالجات التي أقدمت عليها سلطة الرأسمالية الطفيلية للخروج من الأزمة الاقتصادية الشاملة فشلت فشلاً داوياً. موازنة 2014 ولدت مشلولة وعاجزة عن السير نتيجة عجزها البالغ(8) بليون جنيهاً وتقاصر حتى عن تسديد مطلوبات إدارة الدولة نفسها. وإنحدرت قيمة الجنيه أمام الدولار وأقتربت من الوصول إلى عشرة جنيهات، عجز في ميزان المدفوعات، وديون خارجية تجاوزت ال(44)مليار دولار، مع إنخفاضٍ مذهلٍِ في الإنتاج أدى إلى تدهور مريع في الصادرات وإنخفاض غير مسبوق في عائداتها من العملة الصعبة. وأصبح الإقتصاد يعاني من الركود التضخمي وفقاً للتصريجات الرسمية للمسؤول الاقتصادي لحزب المؤتمر الوطني الحاكم. أدى كل ذلك إلى تفاقم أزمة النظام أضعاف أضعاف ما كان عليه الحال عند إنفجار هبَّة سبتمبر في العام الماضي. كان طبيعياً أن ينعكس كل ذلك على معيشة المواطنيين، والتي بلغت تكلفتها(3157) جنيها في الشهر في أغسطس 2014. وهو مبلغ رغم ضخامته لا يسد سوى(13%) كأعلى تقدير من حوجة المواطن في الشهر , علماً بأن الحد الأدني للأجور لا يزيد عن(425)جنيهاً . وهذا يعني رغم الفوارق النسبية في الأجور إلا أنًها لا تنهض مهما علت بالمواطن فوق خط الفقر، ولهذا أصبحت الحياة جحيماً للأغلبية الساحقة من المواطنين. فاذا كان هذا هو حصاد سياسة ربع قرن من الزمان من حكم شريحة طبقة الرأسمالية الطفيلية فإن أي حديث عن إصلاح مستقبلي تقوم به هذه الشريحة الفاسدة كذبٌ وتضليلٌ لكسب المزيد من الوقت للبقاء في السلطة. لقد أدان هذه السياسات اعضاء داخل حزب المؤتمر الوطني نفسه وبينهم نواب برلمانيون، أعلنوا داخل قبة البرلمان أنهم أصبحوا يستحون من ذكر أنهم أعضاء في المجلس الوطني. هذه المعاناة لن تتوقف بل ستتصاعد يوماً بعد الآخر، لأنَّ سياسات الرأسمالية الطفيلية المتمترسة خلف ثوابتها والمصِّرة على سياسة تحرير الإقتصاد وحرية السوق، تتناسب مع طبيعتها الطبقية. ولهذا فهي لا تبالي بالخضوع المهين لصندوق النقد والبنك الدوليين، طالما هي في نهاية المطاف تحافظ على بقائها في الحكم. هذا يعني المزيد من معاناة الجماهير وتفاقمها مع وجود هذا النظام. شهوة الحكم أعمت بصائرهم وحجبت أعينهم من قراءة التاريخ البعيد والقريب والذي يشهد بأن شعباً بأكمله لم إرتضى الموت سريرياً، بل تأريخ البشرية مثقلٌ بالثورات المنتصرة في مواجهة الظلم والإرهاب والإضطهاد مهما طال مداه. لهذا لابد من الاستعداد للمقبلات من أيامنا العصبية القادمة التي حتماً سسينفجر فيها غضب الشعب ويطيح بهذا النظام المتسلط الفاسد، والظروف الموضوعية مهيأة أكثر من أي وقت مضى لهبَّة شعبية؛ وربما إنتفاضة تقتلع هذا النظام من جذوره. لكي تواصل الهبَّة القادمة مسيرتها حتى النصر بالوصول إلى أهدافها وتنفيذ شعاراتها، لابد من الإستفادة من تجارب ودروس هبَّة سبتمبر/ أكتوبر2013 م. أهم تلك الدروس والتجارب تتمثل في : * وضع الشعارات الواضحة والمقنعة للجماهير والنابعة من معاناتها والحاسمة في مطالبتها. هذا لن يتم إلا بعمل واسع بين الجماهير. بالاستماع لرأيها وإحترام إقتراحاتها وما تدلي به من آراء يتواصل هذا العمل ليلتحم مع ما وصلت إليه الجماهير في نضالها في الفترة الماضية . كان هذا يمثل نقصاً واضحاً في العمل بين الجماهير قبل هبَّة سبتمبر. فالجماهير لا يمكن أن تتحرك إلا اذا كانت مقتنعة بما هو مطروح أمامها من شعارات واضحةٍ وقاطعةٍ. وهذا يجعلها مستعدة للدفاع عن شعاراتها هذه حتى الموت. من المهم أيضاً الحيطة والحذر من شعارات العزلة التي تفرق الجماهير ولا تغري أو تقنع الواقفين على الرصيف من الإنضمام إلى المظاهرات. * توفير القيادة المخلصة والشجاعة والمؤمنة حقاً بالبرنامج المطروح الذي أمسكت به الجماهير. قيادة تكون في مقدمة الجماهير تلهمها الصمود والثبات والاستعداد للتضحية. هذا كان مفقوداّ بكل أسف في أوج هبَّة الجماهير , رغم أن قيادة قوى الإجماع قادت قبل الهبَّة كل الندوات والاستعدادات لها، إلا أنها سجلت غياباً في اللحظات الحاسمة من صعود هبَّة الجماهير. غابت بعض القيادات بسبب الإعتقال والمرض وآخرون باعذارٍ لا يؤبه بها. هذا ما يجب التحوط له منذ وقت مبكر بإختيار القيادات (الإحتياطي) التي يوفرها كل حزب من أفضل قياداته. *الاستعداد بكل الأساليب والخطط البديلة عندما تتعرض المظاهرات للقمع والتفريق لكيفية مواصلتها عبر الطرق والأزقة المختلفة. كان هذا الأسلوب ناجعاً في ثورة أكتوبر وإنتفاضة مارس/ إبريل ويجب التخطيط له تفادياً للعشوائية. هذا يستوجب العمل المنظم الذي قامت به قوى الإجماع في الاحياء بتكوين لجان في كل حي ومجال عمل لتسهيل تنظيم وتوجيه وقيادة الجماهير. وقد برهنت تجربة هبَّة سبتمبر أن مظاهرات الاحياء أكثر ثمرة من مظاهرات الساحات العامة التى يستطيع الأمن تفريقها بسهولة . تشتيت قوات القمع خاصة اذا تم تنسيق العديد من المظاهرات في أحياء مدن مختلفة في ساعة موحدة من يوم متفق عليه. أكدت التجربة أيضاً أن كل مدينة بها لجنة من أحزاب قوى الإجماع كانت هي الأكثر مشاركة جماهيرية في هبَّة سبتمبر وانطبق ذلك على مدن مثل عطبرة والجزيرة على سبيل المثال. هذا يؤكد أهمية تكوين لجان قوى الإجماع في الاحياء من الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني الأخرى. * أهمية العمل السياسي والتنظيمي في الريف. فقد أكدت الاجتماع الموسع الذي عقد في مركز الحزب للقياديين في المناطق الحزبية مع اللجنة المركزية بعد الهبَّة أن معظم المناطق الريفية التي تمثل(65%)من جملة السكان لم تشارك في الهبَّة، لأن العمل وسطها كان ضعيفاً. هذا ما يجب تلافيه ومن المفترض أن يكون قد بدأ ذلك منذ ما يقرب من العام . اذا لا يمكن أن يكتب النصر لهبَّة لا يشارك فيها ثلثا السكان. * تفادي أساليب العمل الفردية في كل خطوة نخطوها، وأن يحل العمل المؤسسي والقرار الجماعي مكانه. هذا يسهل من وحدة الصفوف وتنظيمها، وكذلك وحدة الشعارات التي ترفعها الجماهير. في هذا الصدد مهم الاهتمام بأسر الشهداء في كافة مدن البلاد وبتبصيرها بالنتائج السلبية للعمل الفردي الذي ربما تنوي بعض الأسر القيام به بدافع الحق المشروع لمقتل أبنائهم. لايقتصر العمل مع أسر الشهداء على الجانب السياسي والقانوني وحدهما، بل يجب أن نوطد علاقاتنا بهم لأن التجربة مع العديد من أسر الشهداء وكان بعضها يميل لحزب المؤتمر الوطني قد تغير تماماً وأصبح عدواً لدوداً له مطالباً بإسقاط النظام ومستعداً للموت في سبيل القصاص لمن إستشهد من أبنائه. *مهم لدرجة قصوى، الإستعداد المبكر لحماية المظاهرات ومنع إختراقها من أجهزة الأمن بهدف القيام بتخريب ينسب للمتظاهرين أو رفع شعارات غير متفق عليها لخلق بلبلة وسط المتظاهرين وغيرها من الأساليب والأهداف الخسيسة. *نرفع الشعارات التي تقدر دور الشرطة، في خدمة الشعب وكل من يبدي تعاطفاً من أجهزة القمع مع المتظاهرين، فهم في نهاية المطاف من دم ولحم هذا الشعب وسينحازون إليه في نهاية المطاف كما دلت العديد من أمثلة الربيع العربي. *مهم أيضاً حماية الصبايا والصبية الذين يشاركون في المظاهرات والمحافظة عليهم من الضرب والإعتقال وعدم جعلهم يسيرون في مقدمة المظاهرات. *كذلك الحيطة والحذر اللازمين عند إستعمال أجهزة التواصل الإلكترونية إلا وفق ضوابط عالية يتفق عليها حتى لا نكشف خطط المتظاهرين. هذه بعض الدروس والتجارب التي إستنتجناها من هبَّة سبتمبر/ أكتوبر 2013 ولاشك فإن جماهير شعبنا خاصة الشباب يمتلكون ذخيرة وافرة من التجربة يثرون بها نضالهم. أخيراًّ المجد والخلود لشهداء سبتمبر والنصر معقود بلواء الجبهة الواسعة الموحدة للجماهير للإطاحة بهذا النظام الفاسد. الميدان